التخـصيـصــية وآفـــاقهــــا الــــواقعــيـــة فــي الاقتصـــاديــات العـــربيــــة ــــــ مقال رقم /7/

صحيفة البيان – الإمارات العربية

العدد :4792   –   تاريخ: 1/8/1993

هذا المقال بمناسبة مطالبة البعض ببيع جزء من  أصول القطاع العام لتمويل خطط التنمية في الدول العربية ، وهذا ما أقدمت عليه مثلاً – مصر – في فترة تسعينيات القرن العشرين

مع انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الدول التي ارتبطت به لعقود طويلة ، منذ نهاية الحرب  العالمية الثانية وحتى أواخر الثمانينات اجتاح العالم ولازال حالة من عدم اليقين  تجلت بذلك النزوع القوي نحو المراجعة والتجديد ، نزوعا شمل مختلف جوانب الواقع  الأيديولوجية ، السياسية ، الاقتصادية .. وغيرها .

أغلب الدول النامية كانت بحكم هشاشة بناها السياسية و الاجتماعية من ناحية ، وتفاقم مشاكلها التنموية من ناحية أخرى وشديدة التأثر بهذه النزعة ففي هذه الدول سقطت مفاهيم كانت تعتبر لزمن قريب من الثوابت وشاعت مقولات كان يظن أنها اندثرت وثار الجدل حول قضايا كان البعض يعتقد أن التاريخ أصدر حكمه النهائي فيها ومن هذه القضايا الساخنة التي أثارت ولا زالت جدلاً واسعاً لدى المهتمين والمختصين هو دور الدولة في الحياة الاقتصادية والذي تأتي في سياقه الدعوة الى التخصيصية التي شاعت مؤخراً في الفكر التنموي والسياسي على المستويين العربي والدولي.

وبهدف القاء المزيد من الضوء على اطروحة التخصيصية نسوق في البدء بعض التوضيحات ذات الصلة بها كنهج اقتصادي:

  • إن مسألة التخصيصية ليست مسألة طارئة سواء على المستوى الدولي أو العربي فهي مشتقة في الأصل من قضية الدور التدخلي للدولة الذي تعددت فيه الاجتهادات وكثرت حوله الآراء ويعتبر موضوعاً خلافياً لدى كلاسيكيي ومعاصري الاقتصاد الحر في المجالين الأكاديمي والتطبيقي ، فعندما دخلت اقتصاديات أمريكا والعديد من دول أوروبا الغربية أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات مرحلة ما سمي آنئذ بالركود والذي اعتبره المحللون عاملا أساسيا في انتقال السلطة من الأحزاب الحاكمة في حينها إلى أحزاب المعارضة: تولي حزب المحافظين السلطة في بريطانيا بعد هزيمة حزب العمال في الانتخابات البرلمانية ، وصول الجمهوريين إلى الحكم في أمريكا بعد هزيمة الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية ، انتقال السلطة في ألمانيا الاتحادية إلى تحالف الحزب المسيحي الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي بعد سقوط تحالف الاشتراكيين الأحرار تحت ضغط الأزمة الاقتصادية .. وغير ذلك .

كان دور الدولة في الحياة الاقتصادية والذي اعتبر في حينها هاما لا يستهان به أحد الموضوعات الأساسية للحملات الانتخابية والنقاشات البرلمانية المسهبة في تلك الدول ، ونتيجة لتلك التغييرات وضع في العديد من الدول الصناعية برامج للتخصيص تم تطبيقها وفي تلك الفترة أيضاً  ظهر ما صار يعرف لاحقاً بالريجانية والتاتشرية كنهج اقتصادي اعتبر التخصيص فيه أحد أهم مكوناته . عملية التخصيص تلك أخذت أشكالاً مختلفة من تخلي الدولة عن بعض الخدمات العامة التي كانت تقدمها كما في الولايات المتحدة الامريكية إلى بيع بعض المشروعات المملوكة من قبل الدولة الى القطاع الخاص كما في بريطانيا ، فرنسا ، ايطاليا ، وغيرهم .. فمثلاً:

بيع مؤسسة الاتصالات ، كذلك شركة الغاز الحكومية إلى القطاع الخاص في بريطانيا أيام حكومة تاتشر .

تجربة فرنسا التخصيصية والتي بدأت في نوفمبر 1986 حيث تم من خلالها بيع عدة مؤسسات حكومية إلى القطاع الخاص كشركة التأمين ومؤسسة الاتصالات وغير ذلك .

قيام ايطاليا في نفس الفترة ببيع 20 % من أسهم شركة الخطوط الجوية الايطالية إلى القطاع الخاص .

وبغض النظر عن النتائج التي حققتها اقتصاديات تلك الدول من خلال برامج التخصيص فهذا ليس موضوع البحث إلا أن ما نريد توضيحه هو أن دور الدولة في الحياة الاقتصادية قضية ليست طارئة كما أن الموقف منها حتى في دول الغرب الصناعي ليس ثابتاً ومحدداً فهو يختلف من زمن إلى زمن ومن ظرف إلى آخر .

  • أما بالنسبة لمسألة التخصيصية في البلدان العربية فإن الإلحاح في طرحها منذ أواخر الثمانينات وحتى الآن يرتبط على الأرجح بعدد من العوامل منها :
  • الوضع الجديد بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتخلي الصين الشعبية عن الاقتصاد الموجه مركزياً لتتبنى ما تسميه اليوم اقتصاد السوق الاشتراكي ذلك وغيره من التحولات الكثيرة ، يعتبر في أحد وجوهه بلا ريب انتصاراً لاقتصاد السوق ومقولاته التخصيصية إحداها.
  • تفاقم مشكلة المديونية حيث بلغ حجم المديونية العربية عام 1991 ما مجموعه حوالي 250 مليار دولار وهي تشكل حوالي 68 % من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية ونسبة 16،5 % من إجمالي ديون الدول النامية لنفس العام .
  • انخفاض موارد الدول النفطية وازدياد حاجاتها التمويلية نتيجة لهبوط أسعار النفط ونتائج حرب الخليج وانعكاسات ذلك على الدول العربية غير النفطية.
  • ازدياد حدة التوترات المجتمعية في عدد من الدول العربية على خلفية اقتصادية في معظمها.

ذلك وغيره جعل الدول العربية تبحث عن مصادر لتمويل خططها التنموية وطبيعي في حال كهذه أن تفكر هذه الدول باستنفار قدراتها الذاتية ، والفوائض المالية لدى القطاع الخاص في الدول العربية إحداها.. سيما وأن معظم هذه الفوائض موجود إما خارج سوق الاستثمار أو مستثمر خارج  الدول العربية ، الإحصاءات تشير إلى أنه مقابل كل دولار عربي مستثمر في المنطقة العربية يستثمر خارج الوطن العربي 56 دولار من الفوائض المالية العربية – حكومي + خاص .

وفي هذا الإطار تأتي على ما يبدو الدعوة الى التخصيصية التي شاعت في المنطقة العربية وبإلحاح منذ عشر سنوات ، لكن ما هي الآفاق الواقعية لهذه الدعوة ؟ وما هي حدودها الممكنة ؟ في محاولة الإجابة على هذه التساؤلات لن ننطلق من مواقف أيديولوجية وسنحاول تحييد المؤثرات الذاتية        قدر الإمكان ، بل سنناقش آفاق التخصيص وحدوده من زاويتي قدرة القطاع الخاص واهتماماته.

ما هي القدرة الواقعية للقطاع الخاص لأن يعمل في بعض قطاعات التنمية ؟ وإذا توافرت القدرة هل تدخل هذه القطاعات ضمن نطاق اهتماماته ؟

من هذه القطاعات التي نعنيها التالية:

  • قطاع المشاريع ذات الصفة الاستراتيجية والبعض يسميها قطاع المشاريع التي تنتج سلعاً  أو خدمات غير قابلة للتجزئة  اي مشاريع ذات نفع عام  وعادة ما تعمل مشاريع هذا القطاع بدون عوائد مباشرة او بعوائد متدنية.
  • قطاع المشاريع ذات التكلفة الرأسمالية العالية – تكاليف الانشاء- .
  • قطاع المشاريع ذات العائد الطويل الأجل اي المشاريع التي تنتظر عوائدها بعد فترة  زمنية طويلة.

وفي هذا المجال لابد من التوضيح بأن تصنيف مشروع تنموي معين تحت أي من العناوين السابقة هو قضية نسبية تختلف من دولة لأخرى  فدول الخليج العربي على سبيل المثال تعتبر النفط سلعة استراتيجية عوائده ليست ملكاً للجيل الحالي من المواطنين فقط وإنما للأجيال المقبلة نصيب فيه وبالتالي ينبغي أن يبقى قطاع النفط خاضعاً لسيطرة الدولة وتوجيهها نيابة عن الجيل الحالي وأجيالها المقبلة ، بينما نجد دولة نفطية أخرى كالولايات المتحدة الامريكية تعتبر قطاعات أخرى غير النفط كأبحاث الفضاء والصناعات النووية لأغراض عسكرية ذات طابع استراتيجي يجب أن تخضع لسيطرة الدولة وتدخلها بشكل دائم. وللتوضيح فقط سنورد بعض المشاريع التي تحمل على درجات متفاوتة  سمات القطاعات السابقة ( أ – ب – ج ) : سدود الري ، مرافئ ،اوتوسترادات ، جامعات   ومستشفيات تقدم خدماتها مجانا للمواطنين ، شبكات ارتباط الطاقة الكهربائية ، مراكز ومؤسسات   البحث العلمي .. الخ .

وعودة على البدء نسأل : ما هي القدرة الواقعية للقطاع الخاص على إقامة مشاريع كهذه ؟ وإذا توفرت القدرة هل تدخل هذه المشاريع ضمن نطاق اهتماماته ؟

تجربة الاستثمار في سوريا ومصر حتى الآن تعطي بعض المؤشرات التي تساعد في الإجابة  على ذلك ففي سوريا و منذ صدور قانون تشجيع الاستثمار رقم 10 بتاريخ 4/5/1991 وحتى الشهر الخامس من هذا العام بلغ عدد المشاريع المرخص لها 757 مشروعا استثماريا تبلغ كلفة إٍنشائها   التقديرية 96 مليار ليرة سورية أي حوالي 2،2 مليار دولار يتوجه معظمها إلى مجالات الانتاج السلعي والخدمي ذي العائد المرتفع والسريع . وفي حال  تنفيذ جميع هذه المشاريع فإن إجمالي تكاليف إنشائها تقل عما هو موظف في مؤسسة واحدة من مؤسسات القطاع العام الكبيرة    – على أساس سعر صرف واحد للدولار في كلا القطاعين – وتجربة مصر التي تروج الآن  لبيع 85 شركة عامة على مدى الثلاث سنوات القادمة ليست أفضل في هذا المجال .

إن مشاريع القطاعات المشار إليها سابقاً لها أهمية بالغة في ضبط حركة المجتمع وتوازنها من خلال دورها في تضييق عدد من الفجوات الاقتصادية والاجتماعية الرئيسية مثل:

فجوة الوارد : أي الفجوة القائمة بين الموارد المتاحة للتنمية والاستخدامات المطلوبة  للنهوض بمستلزماتها.

فجوة العمالة : أي بين عرض العمل والطلب عليه .

فجوة التطلعات: أي بين التطلعات المجتمعية الأساسية من أمن وغذاء وسكن وبين ما هو متاح منها فعلاً .

إن تضييق تلك الفجوات ومثيلاتها حسب ما توحي به الدلائل والمؤشرات حتى الآن ستظل مسؤولية الدولة التي تمارسها من خلال القطاع العام ، بينما يعني القطاع الخاص بالعائد على الاستثمار كأحد أهم حوافزه للعمل والنشاط وذلك أمر ينسجم مع طبيعة رأس المال الخاص واهتماماته .

تأسيساً على ذلك نرى أن الآفاق الواقعية لدعوة التخصيصية تكمن في التوجه إلى مشاريع الإنتاج السلعي والخدمي التي تقوم على أساس العوائد المباشرة وبهدف تحقيق أعلى مستوى ممكن من الأرباح وهذا لا يقلل من أهمية الدور التنموي الذي يمكن لهذا القطاع أن يمارسه ، فنشاطات هذه المشاريع متنوعة ومجالاتها واسعة على مستوى اقتصاديات الدول العربية.

خلاصة القول إن للدعوة إلى التخصيصية او الخصخصة أو ما شابه ذلك من مصطلحات حدودا موضوعية تفرضها معطيات الواقع العربي وظروفه ، للخاص حدوداً أغلب الظن ، أنه لن يستطيع تجاوزها وعلى العام واجب أغلب الظن أنه لن يستطيع التخلي عنه ، فالتنمية بحاجة إلى تعاون القطاعين العام والخاص تعاوناً ارادياً مدروساً ومفصلاً ، فلكل منهما دوره وقدرته واهتماماته .

إن تجاهل أحدهما لمصلحة الآخر يسبب الوهن والانحراف في مسيرة التنمية ولذلك تبقى  أطروحة التعددية الاقتصادية هي الأكثر استجابة لمعطيات الواقع وظروفه فكما أن التنوع   من سمات الحياة ، فإن تعدد آليات النمو من ضروراتها.

 

الدكتور محمد توفيق سماق