اتجاهات السياسة الأمريكية في أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة ــــ المقال رقم /15/

صحيفة البيان – الإمارات العربية      

العدد :143 –   تاريخ: 11/2/1994

هذا المقال بمناسبة توقع بعض المراقبين انحسار الدور الأمريكي في العالم ، خاصة في أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي .

مع وصول الديمقراطيين إلى الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية “مطلع 1993” توقع العديد  من المراقبين بأن الدور الأمريكي في العالم عامة وفي أوروبا خاصة يميل إلى التراجع  والانحسار، مناصرو هذا الرأي يرجعون توقعاتهم تلك إلى مجموعة من الأسباب والدواعي أبرزها:

  • تفاقم المشاكل الداخلية في أمريكا وتنوعها: فالاقتصاد الأمريكي مثقل بعجز كبير في الموازنة وميزان التبادل التجاري مع العالم الخارجي ومن الناحية الاجتماعية فإن أعلى معدل لارتكاب الجريمة في العالم موجود في أمريكا كما أن التقديرات تشير إلى أن استهلاكها للمخدرات مساو تقريبا لإجمالي استهلاك بقية دول العالم وفي الولايات المتحدة حوالي 38 مليون من السكان لا يحصلون على الرعاية الصحية المناسبة لأنهم لا يستطيعون دفع تكاليفها..
  • تغير الوقائع الجيوسياسية في أوروبا : منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي كانت السياسة الأمريكية في أوروبا مبنية على عدد من الوقائع الجيوسياسية أبرزها:

– الحضور العسكري السوفييتي في شرق ووسط أوروبا فوجود حوالي 800 ألف جندي سوفييتي في ألمانيا الشرقية سابقاً ، أي على خط التماس المباشر مع الغرب ، كان ينظر إليه في السياسة الخارجية الأمريكية على أنه تهديد دائم للغرب يقتضي بذل كل الجهود الممكنة للوقوف في وجهه وردعه إذا اقتضت التطورات ذلك .

– تقسيم ألمانيا : وكان يعتبر من قبل دوائر صنع القرار في أمريكا على أنه تقسيم مصطنع لأوروبا يعبر عن حالة الاستقطاب القائمة في العالم آنئذ والتي يمكن أن تتحول في أي وقت إلى حالة من الصدام العنيف والمسلح بين الغرب والشرق ، ووضع حافة الهاوية الذي نشأ في ألمانيا مع إقامة جدار برلين ” 13/6/1961 ” شاهد على ذلك.

– ضعف أوروبا الغربية وتفككها: خرجت دول أوروبا الغربية من الحرب العالمية الثانية ضعيفة مثخنة بجراح الحرب تمزقها الأحقاد والعداوات مما جعلها في رأي الولايات المتحدة هدفاً سهلاً للخصم السياسي والأيديولوجي ” الاتحاد السوفييتي السابق وحلفاؤه” وقد دفع ذلك بالولايات المتحدة إلى نشر مايزيد عن 300 ألف جندي أمريكي في أوروبا الغربية وانفاق حوالي 180 مليار دولار سنويا لأغراض عسكرية تتعلق بالدفاع عنها.

هذه الوقائع تغيرت الآن فالاتحاد السوفييتي انهار وألمانيا توحدت وأوروبا الغربية تسير في طريق التكامل والاندماج مما يجعلها أكثر ثقة في النفس وأكثر رغبة في الاعتماد على قدراتها الذاتية بعيداً عن حماية الولايات المتحدة الأمريكية وهيمنتها.

ذلك وغيره من الأسباب جعل مناصري الرأي القائل بإمكانية انكفاء أمريكا وعزلتها عن أوروبا يتوقعون بأن تبدأ الولايات المتحدة وبشكل تدريجي فك ارتباطها مع أوروبا للتخفيف من أعبائها الخارجية من ناحية وبهدف تركيز جهودها على معالجة مشاكلها الداخلية المعقدة والمتنوعة  من ناحية أخرى. وقد اعتبر تحرك أمريكا باتجاه آسيا كاجتماع قادة دول الابيك ” تشرين الثاني 1993″ والخلافات الحادة بين أمريكا وأوروبا بشأن اتفاقية الجات ” المفاوضات الختامية لجولة الأوروغواي في الربع الأخير من عام 1993″ شواهد إضافية على الاتجاه نحو فك الارتباط بين القارتين. لكن مع اقتراب موعد اجتماع زعماء دول حلف شمال الأطلسي في بروكسل ” 10-11/1/1994 ” بدا وكأن انعطافا أمريكيا باتجاه أوروبا وليس بعيدا عنها كما توقع البعض على وشك الحدوث ، والشواهد على ذلك كثيرة منها:

– سيل التصريحات الأمريكية التي سبقت ومهدت لزيارة كلينتون إلى بروكسل للمشاركة في اجتماع قادة الناتو حول الأهمية الحيوية لأوروبا بالنسبة للولايات المتحدة.

– النداء الذي وجهته أمريكا إلى دول أوروبا الشرقية للتقارب والاندماج أكثر مع الغرب من خلال مقولة عامة وفضفاضة هي ” المشاركة من أجل السلام ” والتي تبناها اجتماع الناتو فيما بعد.

– ما ورد في خطاب الرئيس الأمريكي أثناء جلسة افتتاح القمة من ” أنني جئت إلى هنا لأؤكد الدور المحوري لأوروبا في السياسة الأمريكية “.

– العديد من الآراء والتصريحات الصادرة عن عدد من أبرز رجال النخبة الأمريكية من ساسة ومفكرين ” أمثال نيكسون ،بيرجنسكي ..” والتي تجمع على تأكيد الأهمية الخاصة لاستمرار الدور الأمريكي في أوروبا في زمن ما بعد الحرب الباردة.

دور جديد بعد انتهاء الحرب الباردة

تأسيساً على ذلك يمكن الاستنتاج بأن الولايات المتحدة ليست بصدد الانسحاب من أوروبا والانعزال عنها إلا أنها بصدد إجراء مراجعة واسعة وشاملة لسياستها الأوروبية بهدف ضبط اتجاهاتها على أساس ما تعتبره وقائع جيوسياسية جديدة نشأت في القارة الأوروبية بعد انتهاء الحرب الباردة وأهمها :

  1. الفراغ الأمني في أوروبا الشرقية : مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس حلف شمال الأطلسي ” 4/4/1949 ” ووارسو ” 14/5/1955 ” كانت معظم القارة الأوروبية أعضاء في أحد الحلفين . وعلى الرغم من أن ذلك قد خلق توترات حادة بين الجانبين إلا أن هذا الوضع كان له إيجابية خاصة وهي أن الحدود والخطوط الفاصلة في أوروبا كانت واضحة تماما  مما قلل احتمال المغامرة والاعتماد على حسابات خاطئة يمكن أن تقود إلى المواجهة بين الطرفين وقد وفر ذلك للقارة نوعا من الاستقرار الجيوسياسي على مدى حوالي نصف قرن من الزمن. ولكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي نهاية عام 1991 وحل حلف وارسو” آذار 1991 ” بقيت أوروبا الشرقية وفق المنظور الأمريكي بدون أي تنظيم أو بنية أمنية تستطيع المحافظة على الاستقرار في تلك المنطقة ، ونظراً لحيوية أوروبا الشرقية وأهميتها بالنسبة للأمن والاستقرار في القارة الأوروبية حيث كانت أراضيها أحد أهم ساحات الصراع خلال ما يقارب المائتي عام الماضية ” منذ أيام الحروب البونابارتية ” يمكننا توقع أن تعمد الولايات المتحدة إلى محاولة سد الفراغ في هذا الجزء من أوروبا وفي هذا السياق تأتي على ما يبدو الدعوة الأمريكية لدول أوروبا الشرقية للاقتراب أكثر من الغرب ومحاولة الاندماج فيه من خلال حلف الناتو تحت العنوان الذي أشرنا إليه سابقا وهو المشاركة من أجل السلام .
  2. توحيد ألمانيا : إن توحيد ألمانيا قد خلق في وسط أوروبا دولة تعتبر حاليا الأكبر في أوروبا الغربية من حيث عدد السكان ” حوالي 80 مليوناً ” ومن حيث حجم اقتصادها بناتج محلي إجمالي يزيد عن 1600 مليار دولار حاليا كما أنها تمتلك قوات مسلحة نظامية بتعداد يقارب600 ألف جندي أي ضعف ما لدى بريطانيا وهي القوة العسكرية الأكبر في بقية أوروبا الغربية . وإذا ما أضفنا إلى حقائق الوضع الراهن تلك التقليد الألماني المعروف بالنزعة نحو التوسع والذي كان أحد الأسباب الهامة لنشوب حربين عالميتين في هذا القرن نستطيع التقرير دون تعسف بأن ألمانيا مؤهلة لأن تلعب دوراً قيادياً في أوروبا إذا ما رغبت بذلك مستقبلاً، إن احتمالاً كهذا سيدفع الولايات المتحدة للعمل على تطوير علاقات وثيقة مع ألمانيا على أساسين أولهما تقديم غطاء أمريكي لسياسة ألمانية خارجية نشطة ” مثلا دعم ألمانيا في مطالبتها بعضوية دائمة في مجلس الأمن ” وبالمقابل تعاون ألماني فعال مع الولايات المتحدة في بعض القضايا الاقتصادية العالمية خاصة ما يتعلق منها بالسياسات النقدية والتجارة العالمية ، فالناتج القومي لكلا البلدين يشكل ما يزيد عن 30% من الناتج القومي العالمي وللبلدين مصلحة حقيقية في تخفيف النزعة الحمائية في التجارة الدولية باعتبارهما يحتلان مع اليابان مقدمة البلدان المصدرة في العالم.
  3. نشوء الاتحاد الأوروبي : مع دخول معاهدة ماستريخت حيز التطبيق في 1/11/ 1993 نشأ ما يسمى حالياً بالاتحاد الأوروبي المكون من اثنتي عشرة دولة مساحتها حوالي 2,4 مليون كم2 ويقطنها حوالي 340 مليون نسمة ومن المتوقع أن يتحول مع نهاية القرن الحالي إلى اتحاد ضخم بسياسات خارجية وأمنية موحدة مع اقتصاد كبير الحجم بناتج قومي إجمالي يزيد على 5700 مليار دولار ، هذا الواقع الجديد آثار لدى الولايات المتحدة بعض مشاعر القلق من احتمالين الأول ضعف الرغبة الأوروبية في الحماية العسكرية الأمريكية من خلال الناتو والثاني تنامي النزعة الحمائية لدى أوروبا في قضايا التجارة العالمية ، وهذا ما ظهر جلياً خلال مفاوضات اتفاقية الجات لدى بعض الدول الأوروبية خاصة فرنسا كما أشرنا سابقاً .

مهام جديدة

إن الدعوة الأمريكية الحالية لتوسيع نطاق الناتو من خلال علاقات أوثق مع أوروبا الشرقية كبداية تمهيداً لانضمامها إلى الحلف في مراحل لاحقة سيعطي بعداً إضافياً ويخلق مهمات جديدة للناتو تبرر المحافظة عليه من ناحية وتعزز دوره في أوروبا من ناحية أخرى ، كما أن محاولة توثيق العلاقة مع ألمانيا في مسائل التجارة العالمية واستخدام العلاقة الخاصة مع بريطانيا للتخفيف من نزعة الاستقلالية عن الولايات المتحدة لدى أوروبا مع التلويح الدائم بحظر الترسانة النووية الروسية كلها عوامل هامة ستحدد على الأغلب الاتجاهات الأساسية للسياسة الأمريكية مستقبلا بالنسبة لأوربا الغربية .

  1. تنامي النزعة القومية في روسيا : يمكن أن نجد الجذور العميقة لتنامي التطرف القومي في روسيا في حالة الإحساس بالمرارة الوطنية وتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بسبب الوضع المتردي لروسيا حاليا من الناحيتين الجيوسياسية والاقتصادية ، هذا التطرف عبر عن نفسه بجلاء لا يقبل الغموض في نتائج الانتخابات الأخيرة التي حصل فيها الحزب الديمقراطي الليبرالي بزعامة جيرونوفسكي على ما يزيد عن 25% من أصوات الناخبين الروس . إن تنامي نزعة التطرف القومي في روسيا يحمل في طياته احتمال انبعاث المطامح الامبريالية الروسية ، والتي تعود في جذورها التاريخية إلى أيام بطرس الأكبر أي إلى القرن السابع عشر ” الوجود الروسي في آلاسكا حتى عام 1781 وفي كاليفورنيا حتى عام 1813 ” انسجاماً مع مقولة التحدي والاستجابة للمؤرخ الشهير توينبي.

هذه الحالة الجديدة والمتنامية في روسيا بدأت تخلق إحساساً موازياً لدى دول الاتحاد السوفييتي السابق الأخرى ودول أوروبا الشرقية بالحاجة للبحث عن الحماية والأمن لدى قوى عالمية قادرة على توفيره .

إن الحركة الأميريكية النشطة باتجاه أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفييتي السابقة مع سيل التصريحات الموجهة لها بهدف جذبها واقترابها أكثر من حلف الناتو ، بزعامة الولايات المتحدة ، كنظام عسكري قوي وفعال وقادر على توفير ما تبحث عنه هذه الدول من أمن وحماية نستطيع اعتبارها توجهات عامة للسياسة الأمريكية حيال هذا الجزء من أوروبا .أغلب الظن إن محاولات الجذب هذه ستزداد وتيرتها وتتطور أشكالها مستقبلا على أساس مقايضة أمن هذه الدول بقبولها بحماية الولايات المتحدة وإقرارها بدورها القيادي في أوروبا والعالم .

تأسيساً على كل ما تقدم يمكن الاستنتاج وبقدر كبير من الموضوعية بأن أوروبا لا زالت كما قال كلينتون في محور اهتمامات السياسة الأمريكية، لكن على أسس أخرى وبصيغ جديدة.

الدكتور محمد توفيق سماق