استقالة رامسفيلد سقوط شخص أم سقوط نهج ؟ ـــ المقال رقم /109/

صحيفة الثورة   – دمشق – سورية

العدد:   13162 تاريخ  11/2006/ 16

 

أعلن الرئيس الأمريكي بوش في 8/11/2006 قبول استقالة الوزير الأقرب إليه دونالد رامسفيلد , ولم يفت الرئيس بوش بهذه المناسبة الإطراء على وزيره المستقيل   و كيل المديح له و كأنه يؤبن خدماته بقصيدة مديح , من جملة ماجاء فيها :

بعد سلسلة من المباحثات المعمقة , قررنا أنا و دونالد رامسفيلد أن الوقت قد حان لوضع قيادة جديدة على رأس البنتاغون ” وزارة الدفاع ” …….. لقد أضحت أمريكا  أكثر أمناً وأضحى العالم أكثر أمناً بسبب خدمة و قيادة دونالد رامسفيلد الذي قاد وزارة الدفاع الأمريكية في حرب لم يسبق لها مثيل ………

فمن هو رامسفيلد ؟ وماذا يعني سقوطه ؟

دونالد رامسفيلد من مواليد شيكاغو ( 9/8/1932 ) لأب من أصل ألماني , من منطقة قرب مدينة بريمن شمال ألمانيا . عمل طياراً في البحرية الأمريكية خلال الفترة    ( 1954-1957 ) و بعد خروجه من الحياة العسكرية عمل في عدد من اللجان و المجالس الاتحادية إلى أن انتخب في عام 1960 عضواً في مجلس النواب الأمريكي عن إحدى مناطق و لاية إلينوي .  في عام  1973 عين سفيراً للولايات المتحدة لدى منظمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل ومن ثم عين في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيرالد فورد وزيراً للدفاع (1974 – 1975) .

في إدارة الرئيس ريغن عين خلال الفترة ( 1983- 1984 ) مبعوثاً خاصاً للشرق الأوسط , حيث عمل كقناة خاصة للاستخبارات العسكرية الأمريكية مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين خلال الحرب العراقية الإيرانية .

مع وصول الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش إلى السلطة في20 كانون الثاني 2001 تم تعيينه مرة أخرى وزيراً للدفاع وظل في منصبه حتى إعلان استقالته قبل أيام .

رامسفيلد السياسي هو جمهوري مزمن عمل كما أشرنا مع ثلاث إدارات جمهورية و هو أكثر من ذلك التجسيد الأبرز لنهج الهيمنة و الاستبداد و الغباء للمحافظين الجدد الذين اختطفوا القرار في الولايات المتحدة الأمريكية منذ وصول الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى السلطة في 20/1/2001 و حاولوا اختطاف القرار الدولي          و السيطرة على العالم بعد أحداث 11 أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان الحرب على الإرهاب .

دونالد رامسفيلد و مساعده السابق بول ولفوفيتز( رئيس البنك الدولي حالياً ) ونائب الرئيس ديك تشيني وريتشارد بيرل ( أمير الظلام كما كان يلقب ) من ابرز نجوم إدارة بوش الذين خططوا و أنتجوا العديد من الكوارث العالمية : الحرب على أفغانستان و تداعياتها – احتلال العراق و نتائجه – معتقل غوانتانامو ولا إنسانيته – سجن أبو غريب العراقي و لا أخلاقية ممارساته التي فاقت ممارسات كل ماعرف عن أنظمة الاستبداد الشرقي ومنها استبداد نظام صدام حسين .

المجتمع الأمريكي نفسه لم ينجو من نزعة الاستبداد لدى رامسفيلد وفريقه من المحافظين الجدد , حيث عرف للمرة الأولى في تاريخه جملة من القوانين و الإجراءات التي ألفتها دول الجنوب لكنها بطبيعتها كانت لوقت قريب غريبة عن المجتمع الأمريكي مثل ماسمي بقانون الوطنية وتشريع استخدام أساليب خاصة  ( أي التعذيب ) في التحقيق مع المعتقلين و التنصت على المكالمات الهاتفية …… و ماشابه .

الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة في أوروبا لم ينجوا أيضاً من رامسفيلد   و غطرسته , فأصله الألماني لم يمنعه من إهانة ألمانيا و فرنسا عندما اتخذت موقفاً متحفظاً على احتلال العراق حيث وصفهم بأوروبا العجوز …. و أوروبا الماضي داعياً للرهان على أوروبا المستقبل , أي دول أوروبا الشرقية الضعيفة  و المنهكة بعد سقوط منظومة الدول الاشتراكية التي ارتضت موقع التابع للولايات المتحدة  و سياستها العالمية فأي مستقبل هذا الذي بشربه رامسفيلد غير مستقبل الخضوع        و الخنوع لسيد العالم الجديد؟

مايلفت النظر في نهج رامسفيلد و فريقه من المحافظين الجدد ليس فقط نزعة الهيمنة و نزعة الاستبداد اللتان اتصف بهما فهذا نهج الطغاة عبر التاريخ من يوليوس قيصر حتى جوزيف ستالين بل الغباء السياسي , بالرغم من كل مراكز البحوث  و الدراسات المنتشرة على امتداد الساحة الأمريكية .

فهل يمكن تفسير تعيين حاكم عسكري لبلد مثل العراق بحضارته التي تمتد في  عمق التاريخ لآلاف السنين في الأسابيع الأولى من احتلاله و من ثم استبداله بحاكم مدني إلا بالغباء سياسياً و الجهل معرفياً ؟ الجهل بالعالم و شعوبه و بالتاريخ و حضاراته .

ألا يعني ذلك جرحاً للكرامة الوطنية للشعب العراقي استدعت استنفار كل ما يملكه العراقيون من إحساس بالكبرياء الوطني و حشده لمقاومة الاحتلال بعسكره       و حكامه ؟

هذا هو النهج الذي أسقطه الناخب الأمريكي في الانتخابات الجزئية للكونجرس  (7/11/2006) و كان من تداعياتها إقالة أو استقالة نجمه الأبرز رامسفيلد الوزير في اليوم التالي , فما جرى إذاً لم يكن سقوط شخص فقط بل أكثر من ذلك إنه سقوط نهج .

أغلب الظن أن النهج نفسه سيقود في مستقبل ليس بعيداً إلى هزيمة العسكرية الأمريكية بقوتها و جبروتها في العراق و ربما في أفغانستان على غرار ماحدث للعسكرية الأمريكية في فيتنام عام 1973 و هذا ما ألمح إليه الرئيس بوش نفسه عندما أعلن في فترة قريبة ماضية بأن الوضع في العراق يحمل بعض سمات الوضع السابق في فيتنام .

إذا انحدر الوضع الأمريكي إلى الهزيمة , فذلك يعني فقدان الولايات المتحدة لموقعها الذي انفردت به على قمة العالم زعيمة و حيدة بلا منازع منذ سقوط الاتحاد السوفيتي و يعني أن النظام العالمي الجديد الذي بشر به بوش الأب بعد حرب الخليج الأولى قد أُسقط على  يدي بوش الابن بنهجه الطامح للهيمنة الوالغ في الاستبداد و الغارق في الجهل  , مما سيقود بالتتابع إلى نشوء نظام عالمي آخر أكثر جده متعدد الأقطاب بديلاً للأحادية القطبية السائدة حالياً و بالتداعي أكثر ديمقراطية بحكم موازين القوى السائدة بين أقطابه , لكن لهذا حديث آخر.

من دلالات هذا السقوط أيضاً الإقرار الرسمي الأمريكي بأن جبروت العسكرية الأمريكية قد اهتز و أن الهيمنة الأمريكية على العالم تواجه احتمال الهزيمة في الشارع الأمريكي قبل أن يكون ذلك في ساحات القتال , و هذا ماجرى أوائل السبعينيات في حرب فيتنام عندما أصبحت الكلف و التكاليف اكبر مما يتحمله أو يرضى به المواطن الأمريكي .

قد تبدو تلك الاستنتاجات حالمة اليوم لكن التاريخ يعلم -لمن يريد أن يتعلم- أن حالمي اليوم قد يكونوا واقعيي الغد ؟

 

                                                                   الدكتور محمد توفيق سماق