اقتصادنا والعصر ــ المقال رقم /59/

صحيفة الثورة – دمشق – سورية

العدد : 10854 تاريخ 1999  /4/ 15

من أوضح السمات التي تميز اقتصادنا في علاقته بالاقتصاد العالمي في هذا العصر سمتان”، هما : التردد والانتقائية . ساهم التردد كما ساهمت الانتقائية بإيجاد علاقة مرتبكة وقلقة بين اقتصادنا والعصر ، علاقة من لا يرغب لكنه يدرك بأنه غير قادر على الاغتراب ( أي حالة لا اندماج ولا اغتراب ) العديد من الشواهد تؤكد حضور هذه الحالة في حياتنا الاقتصادية ، ولضيق المجال سنتناول – بإيجاز – اثنين منها ، هما :الموقف من منظمة التجارة العالمية والموقف من  الاستثمار الخارجي.

الموقف من منظمة التجارة العالمية

بعد توقيع اتفاق مراكش 4/ 1994 تحولت اتفاقية الغات إلى منظمة التجارة العالمية التي باشرت عملها في مطلع عام 1995 وحتى 7/ 1997 بلغ عدد الأعضاء في المنظمة 132 دولة . منذ ذلك التاريخ وحتى الآن لا زال التردد جوهر الموقف من المنظمة ، فتارةً يتم الإعلان بأن دوائر القرار الاقتصادي تدرس الموضوع ، وتارةً أخرى يتم التلميح إلى أن الغات والمنظمة التي نتجت عنها سلعة ضارة بمصالحنا ينصح بعدم التعامل معها ، هذا التردد تجاه منظمة التجارة العالمية يقابله حسم ووضوح فيما يتعلق بشقيقي المنظمة الآخرين: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي . فسورية عضو في كليهما وهي تسعى لتطوير علاقتها مع كلتا المؤسستين ( إقرار مجلس الشعب مؤخراً زيادة حصة سورية في صندوق النقد الدولي ) هذا على الرغم من :

  • تماثل الوضع القانون للمؤسسات الدولية الثلاث ، فهي تعتبر جميعها من زاوية القانون الدولي من المنظمات التي تتمتع بوضع قانوني خاص في إطار هيئة الأمم المتحدة .
  • دورها الهام على الصعيد العالمي ، فلكل منها دور حاكم في مجال اختصاصه ( منظمة التجارة فيما يتعلق بقضايا التجارة العالمية ، صندوق النقد لدولي والبنك الدولي في كل ما يتعلق بالسياسات النقدية والاستثمارية على المستوى الدولي ).
  • قدرة دول الجنوب – ونحن منها – على القيام بدور أكثر تأثيراً في منظمة التجارة العالمية من ذلك الدور الذي يمكن أن تلعبه في مجالي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي . ففي حين تملك كل دولة عضو في منظمة التجارة العالمية صوتاً واحداً ، تملك بالمقابل الدول في الصندوق والبنك عدداً من الأصوات يتناسب    و مساهمتها في رأسمال كلتا المؤسستين .ففي أواسط التسعينات كانت الحصص في الصندوق موزعة على النحو الآتي ( الحصص في رأس المال والأصوات ):
  • الولايات المتحدة الأمريكية 18% ، وألمانيا واليابان ولكل منهما 6% ، وفرنسا وبريطانيا ولكل منهما 5% ( تختلف البيانات السابقة قليلاً في حالة البنك ) . أي أن آلية اتخاذ القرار في منظمة التجارة العالمية تعكس الطبيعة الدولية للمنظمة ( صوت لكل دولة) ، بينما تعكس الآلية المعتمدة في كل من الصندوق والبنك موازين القوى الاقتصادية السائدة على الساحة العالمية ، وعلى الرغم من كل ما سبق نتردد طويلاً تجاه منظمة التجارة العالمية ، ونتقدم بثبات باتجاه الصندوق والبنك . أليس في المواقف السابقة تردد يصعب تبريره وانتقائية تستعصي على الفهم؟

الموقف من الاستثمار الخارجي

الخطاب الرسمي والعديد من التشريعات النافذة لدينا تحفز رأس المال الخارجي وتشجعه على الدخول إلى سورية بقصد الاستثمار ( إعفاءات – ميزات -… وغير ذلك) ، لكن بمقدار ما هي مشجعة ومحفزة لرأس المال الخارجي باتجاه الدخول إلى البلاد فهي معيقة ومقيدة لحركته باتجاه الخروج من البلاد ( قيود كمية – سعر الصرف – قانون المتجارة بالعملات الصعبة – … وغير ذلك). أي أن ما نعطيه من حوافز مشجعة باتجاه الدخول نكاد نلغيه بالقيود المفروضة باتجاه الخروج ، أليس في ذلك انتقائية ضارة بنا وليس بالآخرين ؟

أمر آخر في السياق نفسه يستحق منا بعض التبصر : كما هو معروف يعتبر رأس المال في الفقه الاقتصادي وفي الواقع بمثابة سلعة ، وهو كأي سلعة أخرى بحاجة إلى سوق تتيح تداولها وتحديد سعرها ، وهذه السوق كما هو مألوف تسمى سوقاً مالية . الأمور السابقة  شائعة ومعروفة ، فهي تعتبر أساساً لأي حديث عن مناخ استثماري حافز ومشجع ، ومع ذلك لا زالت دوائر القرار الاقتصادي لدينا مترددة وحائرة حيال إحداث سوق مالية . فتارة يجري الحديث عن دراسة      الموضوع ، وأحياناً يتم الإعلان عن مواعيد لإحداث هذه السوق ، وأحياناً أخرى كثيرة يلحظ المتابع نسياناً أو تناسياً لموضوع السوق جملة وتفصيلاً . ألا يساهم ذلك في تحويل مناخ الاستثمار لدينا من جاذب للاستثمارات وفق نصوص التشريعات إلى طارد لها بحكم قوانين الواقع؟

أليس في ما سبق أيضاً تردداً يصعب تبريره وانتقائية تستعصي على الفهم؟

بعد العرض السابق قد يتبادر إلى الذهن السؤال الآتي : ما أثر ذلك على علاقة اقتصادنا بالعصر؟

في سياق الإجابة يمكن توضيح الآتي:

التردد والانتقائية لغة عصر مضى ، أي لغة عصر كان العالم فيه متعدد الأقطاب متنوع الأنماط يتسامح مع التردد ولا يعترض على شرعية الانتقاء . أما وقد تغير العالم إلى عالم أحادي الهوية مركزي النزعة ، فقد أضحى العصر أقل استعداداً للتسامح مع التردد وأكثر اعتراضاً على مشروعية الانتقاء . عصرنا الراهن يعتبر التردد اغتراباً عنه ، والانتقاء خروجاً عن قوانينه ، إنه عصر الخيارات المحدودة : الاندماج بتكاليفه أو الاغتراب بمجاهيله .

تلك هي خيارات العصر ! فما هي خياراتنا نحن ؟ ألم يحن الوقت بعد كي نختار؟

 

 

الدكتور محمد توفيق سماق