اقتصاد السوق الاجتماعي ( ما هو – كيف اعتمد – ولماذا ) ؟ ــ المقال رقم /101/

صحيفة الثورة  – دمشق – سورية

العدد: 12785 تاريخ 8/2005/ 18

 

مع انتهاء أعمال المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي انعقد خلال الفترة                                             (9/6/2005 – 6) واعتماده اقتصاد السوق الاجتماعي كهوية للاقتصاد السوري للمرحلة القادمة ، كثر الحديث عن هذا الاقتصاد في وسائل الإعلام المحلية والخارجية المهتمة بالشأن السوري . ومع التقدير للجهود التي بذلها بعض المهتمين لتوضيح أطروحة اقتصاد السوق الاجتماعي ، أجد أن الأمر لا زال بحاجة لمزيد من الحوار والتفصيل دفعاً لالتباس محتمل أو تجنباً لغموض قد يقود لسوء فهم .

فما هو هذا الاقتصاد الذي تبناه الحزب وسلطته في سورية؟ ثم كيف تم اعتماده ؟ولماذا؟ ببساطة يمكن توصيف اقتصاد السوق الاجتماعي على النحو الآتي : السوق بقدر الممكن والدولة بقدر الضرورة أي أنه الاقتصاد الذي يسمح بالممكن من حرية السوق ويتطلب الضروري من تدخل الدولة . أما الحدود الفاصلة بين حرية السوق وتدخل الدولة فتحددها إرادة المجتمع معبراً عنها من خلال مؤسسات السلطة الحاكمة ( تشريعية – تنفيذية – قضائية ) ومؤسسات السلطة الموازية     ( الإعلام – منظمات المجتمع المدني –الاتحادات والنقابات …) . ولاستكمال صورة المشهد بخلفياتها وتفصيلاتها ونتائجها نضيف بأن البعث لم يتوصل لاعتماد هذا النمط الاقتصادي بشكل عفوي أو مفاجئ كما يستشف من بعض الآراء التي أتيح لي متابعتها في وسائل الإعلام ، بل جاء ذلك نتيجة جهود استمرت لسنوات سبقت المؤتمر . حديثي عن تلك الجهود سيكون بلغة الشاهد والشريك ، فقد كنت عضواً في غالبية اللجان التي عملت في مجال الإصلاح وكذلك عضواً في المؤتمر القطري العاشر للحزب . من شروط الشهادة الدقة ومن دواعي الشراكة الإحساس بالمسؤولية ، لكن من مخاطرها الانحياز لما شارك المرء في صناعته . سأحاول تناول المقدمات التي أوصلت إلى تبني اقتصاد السوق الاجتماعي والمناخ الذي صاحب حوارات المؤتمر القطري المتعلقة بتحديد هوية الاقتصاد السوري بقدر الممكن من الدقة والموضوعية ، وللأمانة أشير بأن الإحساس بثقل المسؤولية قد رافق حوارات الزملاء والرفاق الذين عملوا في لجان الإصلاح أو شاركوا في حوارات المؤتمر ذات الصلة ، وفي هذا السياق يمكن تسجيل الآتي :

مع مطلع القرن الحالي ولضرورات وطنية وتكيفاً مع متغيرات العالم تعالت الأصوات الداعية إلى الإصلاح حيث أعطيت في تلك الفترة أولوية لعملية الإصلاح الاقتصادي .

بُدء آنئذٍ بمحاولة إصلاح القطاع العام في سورية حيث أقرت القيادة القطرية للحزب جملة من المبادئ لإصلاح هذا القطاع تضمنها قرارها رقم /82/ لعام 2000، من تلك المبادئ : الإدارة الاقتصادية – فصل الملكية عن الإدارة – الاستقلال المالي والإداري للشركات والمؤسسات العامة – الأخذ بآليات السوق فيما يتعلق بالمنافسة والربح والجودة والسعر … تضمن القرار أيضاً الطلب إلى الحكومة تشكيل فريق من الخبراء لوضع تصور محدد لمعالجة أوضاع هذا القطاع و بناءً على القرار السابق شكلت لجنة ضمت /35/ عضواً ، عرفت فيما بعد في وسائل الإعلام بلجنة الـ/35/ . ضمت اللجنة ممثلين عن جهات عديدة ، منها أحزاب الجبهة ووزارات الدولة المعنية والجامعات والاتحاد العام لنقابات العمال … وكنت فيها نائباً للرئيس . انتهينا في اللجنة لوضع تصور لإصلاح القطاع العام مع مشروع قانون لذلك ، إلا أنه لأسباب عديدة لا مجال للتفصيل فيها لم يقر مشروع القانون مما أدى إلى توقف عمل اللجنة .

في عام 2003 بادرت الحكومة مجدداً لتكليف فريق آخر من الخبراء الوطنيين لوضع برنامج للإصلاح الاقتصادي في سورية ، أي برنامج أكثر شمولية من برنامج إصلاح القطاع العام . تم بالفعل إعداد برنامج للإصلاح الاقتصادي في البلاد ، حيث كلفت بصياغته وسلم للسيد رئيس مجلس الوزراء السابق في 27/5/2003 . في كلتا الوثيقتين السابقتين كان هنالك حديثاً عن السوق وآلياته واقتصاده مع إلحاحٍ على الجانب الاجتماعي ، فمشروع القانون المتعلق بإصلاح القطاع العام تضمن الأخذ بآليات السوق مع إعطاء العاملين في هذا القطاع ميزات إضافية بالنسبة للطبابة والأرباح والأجور والنص الصريح على عدم اللجوء إلى تسريح أي من العاملين أو المساس بحقوقهم كما حدد برنامج الإصلاح هدفاً محورياً يتلخص بتطوير أداء الاقتصاد الوطني عن طريق الأخذ باقتصاد السوق مع تحقيق مستوى أعلى من عدالة توزيع الدخل في البلاد . بالرغم من ذلك كان السؤال الجوهري الذي طرح باستمرار في الحوارات التي رافقت عمل لجان الإصلاح من قبل المهتمين والمختصين هو :   ما هوية الاقتصاد الذي نريد الانتقال إليه ؟  عكس هذا السؤال قلقاً عاماً من أن يكون الإصلاح المنشود على حساب الطبقات والشرائح الأضعف في المجتمع ، وهو قلق مشروع خاصة إذا أخذنا بالاعتبار الكلف الاجتماعية العالية التي تحملتها بعض الدول ثمناً للإصلاح الاقتصادي . مع موعد اقتراب انعقاد مؤتمر البعث احتدم الجدل حول قضية الهوية ، وإدراكاً من قيادة الحزب لأهمية موضوع الإصلاح عامة وحسم الجدل المتعلق بالهوية خاصة تضمن التقرير الاقتصادي الذي قدم للمؤتمر تحليلاً للوضع الراهن للاقتصاد السوري انتهى بالتوصية بأن يتبنى المؤتمر جملة من التوجهات المحددة لعملية الإصلاح الاقتصادي في البلاد . من الجدير بالتوضيح هنا أن التحليل المذكور مع توجهات الإصلاح المقترحة كانت بالأصل جزءاً مما ورد في برنامج الإصلاح الاقتصادي المقدم إلى الحكومة سابقاً ، و من جملة ما تضمنه التقرير التوصية بالانتقال التدريجي إلى اقتصاد السوق . خلال مداولات المؤتمر – خاصة في لجنته الاقتصادية – أخذ موضوع الهوية نصيباً هاماً من تلك المداولات ، حيث أصر غالبية الرفاق – وكنت منهم – على إضافة كلمة اجتماعي إلى التوصية المتعلقة بالانتقال إلى اقتصاد السوق بحيث تصبح كما أقرت وأعلنت : الانتقال التدريجي إلى اقتصاد السوق الاجتماعي .

من العرض السابق يتضح بأن قضية التحول إلى اقتصاد السوق لم تكن نزوة ولم تكن تقليداً لدول أخرى كما يحاول البعض تصويرها بل جاءت بالتراكم وبعد جهود في البحث والاستقصاء بذلت وحوارات موسعة ومعمقة أجريت ، كما أن كلمة اجتماعي مربوطة بمصطلح اقتصاد السوق ليست زائدة في هذا المقام بل كانت استجابة لضرورات عديدة منها:

  • إحدى مكونات المشروعية التاريخية للبعث تبنيه لمصالح الطبقات والشرائح الاجتماعية الأضعف من عمال وفلاحين … وغيرهم ، أو ما كان يسمى لعقود عديدة سابقة بالكادحين . عملية الإصلاح التي ينادي بها الحزب يجب ألا تقود إلى انقلاب الحزب على مشروعيته وبتعبير أوضح يجب ألا تقود إلى انقلاب الحزب على نفسه ، فذلك يهز مصداقيته ويكسر تحالفه مع جماهيره مما يمهد لعزلته ويدفعه في طريق تتعدد مخاطره وتكثر مجاهيله . لذلك كان إلحاح مؤتمر الحزب على كلمة اجتماعي باعتبارها رسالة لا لبس فيها ولا غموض بأن الإصلاح الذي ينادي به البعث لا يعني التخلي عن مصالح تلك الطبقات والشرائح بل تجديد وتأكيد للالتزام بها والدفاع عنها.
  • صحيح أن اقتصاد السوق الاجتماعي هو اقتصاد سوق في الأساس يقوم على: الحرية في الاستثمار والحق في الربح لقاء المخاطرة وسعر يحدده العرض والطلب . إلا أن التوصيف السابق هو توصيف مجرد إلى أقصى درجات التجريد ، ففي الماضي كما في الحاضر كان للدولة دور يختلف من عصر إلى عصر ومن دولة إلى أخرى . فالدولة في أوروبا هي التي وحدت السوق القومية وهي التي وفرت لرأس المال أسباب التراكم عن طريق التوسع الاستعماري ، وفي عصرنا الراهن تلعب الدولة في الغرب دوراً محورياً في مجالات عديدة . فهي التي تقوم برعاية صيغة من التعاقد المرن بين المترفين والمحرومين في المجتمع بحيث استحقت وصف دولة الرعاية الاجتماعية ،كما أنها تتدخل عن طريق : الاستثمار المباشر في العديد من مجالات النشاط الاقتصادي بإقامة المشروعات المملوكة جزئياً أو كلياً للحكومة- السياسات المالية والنقدية ( السياسات الضريبية – أسعار الفوائد …) – تنظم المنافسة ومنع الاحتكار في أسواقها ….
  • بالإضافة إلى ما سبق هنالك مجالات حيوية كالصحة والتعليم لا يعقل ولا يقبل أن تنسحب الدولة منها ، وإلا اهتزت مقاييس الوطنية واختلت موازين العدالة . فبدون المشافي الحكومية مثلاً أو بإلغاء الطبابة المجانية التي تقدمها بعض المؤسسات الرسمية للعاملين فيها قد نجد العلاج حكراً على الأغنياء والمرض اختصاصاً للفقراء غير القادرين على التداوي ، كذلك في مجال التعليم فبدون المدارس والجامعات الحكومية لأصبح الحق في التعليم حقاً حصرياً للأغنياء مما يعني إلغاء مبدأ تكافؤ الفرص بين البشر (أغنياء وفقراء) ويحرم الحضارة الإنسانية من قدرات موهوبين ومساهمات مبدعين حوصرت بالحاجة وقتلت بالفقر .
  • وفي المجال التنموي أيضاً هنالك بعض المشاريع التي لا يمكن الطلب من القطاع الخاص القيام بها لأن في ذلك تناقضاً مع طبيعته الموجهة نحو الربح . فأي قطاع خاص مثلاً سيبني سداً مائياً للري بكلفه الاستثمارية العالية وعوائده المباشرة شبه المعدومة ؟ مثل هذه المشاريع كانت وستبقى من واجب الدولة ومسؤوليتها باعتبارها ضرورة تنموية بالرغم من كلف إنشائها المرتفعة وعوائدها المباشرة شبه المعدومة ،إلا أنها تشكل حاجة لا غنى عنها لتطوير قطاعات اقتصادية أخرى كالزراعة والكهرباء تعتبر عوائدها مورداً هاماً في معظم دول العالم .

جملة القول أن اقتصاد السوق يحد من تدخل الدولة لكنه لا يلغيه ، و صحيح أنه في الجوهر يهدف إلى تشجيع المبادرة الفردية لكنه يحتاج لسلطة المجتمع ممثلة بالدولة لتنظيم مبادرات الأفراد و توجيهها . الأمر الجوهري في ذلك هو طبيعة العقد القائم بين الفرد و الدولة  و المجتمع .

الاقتصاد المخطط مركزياً يقتضي عقداً اجتماعياً أساسه الوصاية ، أي وصاية الدولة ( السلطة ) على المجتمع . فلسفة التخطيط المركزي تقوم على إخضاع قوى السوق من  عرض وطلب لإرادة المجتمع  معبراً عنها بخيارات الدولة وسياساتها وإجراءاتها.الدولة تبعاً لتلك الفلسفة تمثل طليعة المجتمع وموقعها الطليعي هذا يبرر مشروعية وصايتها على خياراته وبالمقابل تتحمل مسؤوليات عديدة وكبيرة ، فهي المسؤول الرئيسي عن دفع الأجر وتوفير فرص العمل وتقديم السلع والخدمات بأسعار غير اقتصادية أحياناً تغطي الخسائر الناجمة عنها من مواردها أو مدخراتها . الهدف من ذلك كله وفق مناصري التخطيط المركزي والمدافعين عنه هو التعجيل في مسيرة التطور التاريخي لبلد ما عن طريق الدولة ( أو الطليعة ) ، التي تقوم وفقاً لرؤياهم بدور المندوب السامي لإرادة التاريخ في الحركة إلى الأمام ؟

أغلب الظن أن التخطيط المركزي كنمط تنموي هو خيار فات أوانه ومقولة عصر انقضى زمانه . عصرنا الراهن يعتبر كل فرد في هذا العالم طليعة بذاته ولذاته له الحق في الاختيار دون وصاية وواجب المؤسسات رسمية أو حزبية تمكينه من ممارسة هذا الحق الذي يعتبر جوهر الحرية وغاية الديمقراطية ، وكلتاهما( الحرية والديمقراطية ) من أشهر مفردات العصر ومن أبرز عناوينه .

هذا من الناحية السياسية أما من الناحية العملية فاقتصاد السوق يقتضي عقداً اجتماعياً قائماً على التراضي وليس على الإكراه ، لأن التراضي وحده يكفل الحرية في الاستثمار ويضمن الحق في الربح ويحرر قوة العرض والطلب وهذه التوليفة مجتمعة هي اقتصاد السوق الاجتماعي .

بقي أن نضيف بأن اقتصاد السوق الاجتماعي ليس اختراعاً بعثياً أو اكتشافاً سورياً،بل هو الاقتصاد الذي أخذت به ألمانيا ( الغربية سابقاً ) بعد الحرب العالمية الثانية وهو الاقتصاد السائد في معظم الدول الأوروبية خاصة الدول  الاسكندنافية ، كذلك هو الاقتصاد المنصوص عليه في دستور الاتحاد الأوروبي المطروح للاستفتاء في دول الاتحاد حالياً .

أما بالنسبة لنا في سورية فهنالك ضرورات وطنية تبرر مشروعية اعتماده ، فلنأمل ولنعمل على توفير مستلزمات الانتقال الآمن والناجح إليه . مع التوضيح بأن هذا النمط الاقتصادي ليس جنة موعودة و لا حلاً سحرياً لأزماتنا الاقتصادية والاجتماعية ….هو أفضل المتاح بخبرة التجارب وشهادة الواقع .

 

                                                        الدكتور محمد توفيق سماق