الاتحاد الأوروبي نشأته و مستقبل تطوره المقال رقم /14/

صحيفة البيان / الملف السياسي – الإمارات العربية     

العدد :135 –   تاريخ: 17/12/1993

نشر كذلك في :

صحيفة البعث – دمشق – سورية

العدد : 9310  – تاريخ : 9/1/1994

هذا المقال بمناسبة انتقال المجموعة الأوروبية إلى مرحلة الاتحاد  من الناحية القانونية.

أقر قادة دول المجموعة الأوروبية في اجتماعها المنعقد في بروكسل ” بلجيكا ” أواخر الشهر العاشر من هذا العام وضع معاهدة الاتحاد الأوروبي أو ما يعرف بمعاهدة ماستريخت موضع التنفيذ اعتباراً من 1/11/1993 أي بتأخير عشرة أشهر عما كان مقرراً سابقاً عند توقيع المعاهدة ، وبذلك انتقلت الدول الاثنا عشرة الأعضاء في المجموعة من الناحية القانونية الى مرحلة الاتحاد ، فوفق نصوص معاهدة ماستريخت فإن الاسم الرسمي للمجموعة الأوروبية قد أصبح الآن الاتحاد الأوروبي ، اتحاداً يضم اثنتي عشرة دولة وحوالي 340 مليون نسمة  1990 ويشغل مساحة 2,4 مليون كم2 . وفي هذه الدراسة سنلقي الضوء على بعض الجوانب المتعلقة بالمراحل التاريخية لنشأة الاتحاد ، أجهزته الرئيسية والمساعدة وكذلك المحطات الأساسية المخططة لمستقبل تطوره حتى نهاية القرن الحالي.

نشأة الاتحاد ” من التنسيق الى التجمع “:

مع نهاية الحرب العالمية الثانية شهد العالم تحولات عميقة وكبيرة كان من أبرزها انهيار النظام الدولي القديم والذي يعود في جذوره إلى مؤتمر فيينا “1815”حيث كرس آنئذ دور أوروبا القيادي في العالم وخاصة بريطانيا وفرنسا كدول عظمى تقود العالم وتتقاسم ثرواته ومناطق النفوذ فيه. وعلى أنقاض النظام القديم بدأ بعد الحرب العالمية الثانية نظام دولي جديد بالتشكل كان من سماته الأساسية ظهور الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي ( السابق) كقوى عظمى وانحسار دور الدول الأوروبية وتراجعه إلى المرتبة الثانية وما بعد وقد تساوى في ذلك المنتصرون والمهزومون . لقد أثر هذا التحول ليس فقط على دور القارة الجيوسياسي وإنما على ثقلها وحجمها الاقتصادي كذلك، كما أن دول القارة أدركت بحكم تجربتها التاريخية أن تناقض المصالح كان أحد الأسباب الأساسية لاندلاع الحروب المدمرة فيما بين دولها وأن أفضل السبل لتعزيز الأمن والسلام في القارة هي خلق مصالح مشتركة ومترابطة بين دولها وشعوبها. يضاف إلى ذلك اتجاه الاقتصاد الدولي نحو العالمية بفعل ما أحدثته المرحلة الثالثة من الثورة العلمية التكنولوجية أو ما يسمى أحياناً بثورة الاتصالات من اختزال للزمن واختصار للمسافة وتطور هائل للمبادلات التجارية العالمية ، ذلك وغيره من العوامل جعل أوروبا تدرك بأن خير سبيل لاستعادة ثقلها الجيوسياسي وتحسين موقعها التفاوضي وتعزيز دورها الاقتصادي على المستوى العالمي هو الاتجاه نحو التقارب فكان التنسيق أولاً تلاه التجمع إلى أن نجحت اثنا عشرة من أهم دول القارة بالوصول إلى ما يسمى بدءاً من 1/11/1993 بالاتحاد الأوروبي والذي اجتاز بنجاح عدداً من أطوار التكوين والتشكل ، أبرزها:

  • تأسيس المنظمة الأوروبية للفحم والفولاذ التي تم التوقيع على اتفاقية إنشائها في باريس بتاريخ 18/4/1951 ودخلت حيز التنفيذ في بداية عام 1952 . وقد وقع على اتفاقية التأسيس 6 دول هي بلجيكا ، فرنسا ، ايطاليا ، اللوكسمبورغ ، هولندا ، وألمانيا الغربية     ( سابقاً) حيث كان الهدف من تأسيس هذه المنظمة هو خلق سوق تجارية أوروبية مشتركة لصناعة الفحم والفولاذ والمواد الأولية الأساسية المتعلقة بها.
  • إنشاء السوق الأوروبية المشتركة التي تم التوقيع على اتفاقية إنشائها من قبل الدول الست الآنفة الذكر في روما بتاريخ 25/3/1957 ودخلت حيز التنفيذ مع بداية عام 1958 . كان الهدف من الاتفاقية إنشاء سوق أوروبية مشتركة للمنتجات الصناعية والزراعية للدول الموقعة كذلك العمل على زيادة مستوى التنسيق والتكامل بين اقتصادياتها بهدف اندماجها مستقبلاً .
  • تأسيس المنظمة الأوروبية للطاقة النووية التي تم التوقيع على اتفاقية إنشائها أيضاً من قبل الدول الست المشار اليها آنفاً في نفس الوقت في روما مع التوقيع على اتفاقية إنشاء السوق الأوروبية المشتركة . وقد حدد الهدف الأساسي لإنشائها بالبحث  في استغلال واستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية في مختلف المجالات  التقنية ، الاقتصادية ، الطبية وكمصادر طاقة بديلة للمصادر التقليدية .

في عام 1967 تم دمج الاتفاقيات السابقة الثلاث في اتفاقية واحدة نتج عنها ما صار يعرف فيما بعد باتفاقية تأسيس المجموعة الأوروبية والمنظمة الوليدة عنها باسم المجموعة الأوروبية . أما التطور الأهم بعد ذلك فقد حدث في 1986/ 12/ 3-2 عندما اتفقت دول المجموعة الأوروبية على تطوير اتفاقية إنشاء المجموعة بتوقيع ما سمي الوثيقة الأوروبية الموحدة   التي تهدف في جوهرها إلى تسريع خلق السوق الأوروبية الواحدة والكبيرة أو ما صار يعرف لاحقا ” بأوروبا بلا حدود ” وقد دخلت الوثيقة الأوروبية الموحدة حيز التنفيذ الفعلي مع بداية عام 1987.

كانت تلك المراحل والنجاحات التي حققتها أوروبا خلالها الأساس الذي فتح الطريق ومهده إلى معاهدة الاتحاد الأوروبية ( اتحاد اقتصادي ونقدي حتى نهاية عام 1998 ، اتحاد سياسي وأمني بدءاً من عام 1999 ) أو ما صار يعرف بمعاهدة ماستريخت والتي تم إقرارها في اجتماع قادة المجموعة الأوروبية في ماستريخت الهولندية خلال الفترة  12/1991/ 10- 9   وتم التوقيع عليها بشكلها النهائي من قبل وزراء الخارجية والمال لدول المجموعة في نفس المكان بتاريخ 7/2/1992 على أن توضع حيز التطبيق الفعلي ، وبعد استكمال إجراءات المصادقة عليها من قبل الدول الأعضاء اعتباراً من 1/1/1993 وهذا ما حصل بالفعل اعتباراً  من 1/11/1993 أي بتأخير عشرة أشهر.

أما الدول الأعضاء في هذا الاتحاد وتاريخ انضمامها الى اتفاقياته فهي : ألمانيا الاتحادية( 1951- 1958) ، فرنسا( 1951- 1958) ، ايطاليا ( 1951- 1958) ، بلجيكا        ( 1951- 1958) ، اللوكسمبورغ ( 1951- 1958) ، هولندا ( 1951- 1958) ، بريطانيا ( 1973) ، الدانمرك ( 1973) ، ايرلندا( 1973) ، اليونان ( 1981) ، اسبانيا  ( 1986) ، البرتغال ( 1986).

  • أجهزة الاتحاد الرئيسية والمساعدة:
  • الأجهزة الرئيسية في الاتحاد هي اللجنة الأوروبية ، المجلس الوزاري ، البرلمان الأوروبي ، محكمة العدل الدولية .
  • أجهزته المساعدة عديدة ، أبرزها : المجلس الاقتصادي والاجتماعي ، بنك الاستثمار الأوروبي … ولضيق المجال سنكتفي بإعطاء لمحة مختصرة عن أجهزة الاتحاد الرئيسية :
  • اللجنة الأوروبية : تتولى رسم السياسة والتوجهات المتعلقة بعمل الاتحاد ورفعها الى المجلس الوزاري لإقرارها حيث تشرف اللجنة على تنفيذها بعد الإقرار تتكون اللجنة من /17/ عضو يمثلون الدول الأعضاء في الاتحاد ويسمى الرئيس ونوابه الستة من بينهم .
  • المجلس الوزاري وهو الجهاز المركزي في الاتحاد ويتكون من 12 وزيرا يمثلون الدول الأعضاء في الاتحاد ( في الغالب) وزراء الخارجية . يجتمع المجلس عدة مرات في العام في دورات عادية كما يجتمع في دورات طارئة كلما دعت الحاجة لذلك ، ويتولى مناقشة توصيات اللجنة الأوروبية والمصادقة عليها كذلك اتخاذ القرارات الأساسية المتعلقة بعمل الاتحاد .. يساعد المجلس في انجاز مهامه سكرتارية عامة مقرها بروكسل وكذلك مجلس للتنسيق والتعاون بضم سفراء الدول الأعضاء لدى الاتحاد ويجتمع مرة واحدة أسبوعياً على الأقل .
  • البرلمان الأوروبي : أسس في 10/1952/ 9 كجهة استشارية للمنظمة الأوروبية للفحم والفولاذ وكان يضم آنئذ 78 عضواً من برلمانيين الدول الست أعضاء المنظمة..ومع تطور التعاون بين دول المجموعة الأوروبية تطور أيضاً البرلمان الأوروبي تطوراً شمل عدد أعضائه ، طريقة انتخابه وصلاحياته . يتكون حالياً من 518 عضواً منتخباً بشكل مباشر يمثلون الناخبين في الدول أعضاء الاتحاد حسب عدد سكان كل دولة ( ألمانيا قبل الوحدة ، إيطاليا ، فرنسا ، بريطانيا وكل         منها تمثل بـ 81 عضوا – إسبانيا 60 عضوا – اللوكسمبورغ 6 اعضاء – والدول الأخرى كل منها ممثل بـ 25 عضواً ) ويعتبر بمثابة هيئة تشريعية للاتحاد الأوروبي . مقر البرلمان ستراسبورغ الفرنسية حيث تنعقد جلساته العامة أما جلسات لجانه فتعقد في بروكسل ومقر سكرتاريته العامة في للوكسمبورغ .
  • محكمة العدل الأوروبية : تُعنى بتقصي تنفيذ المعاهدات والاتفاقيات الخاصة بالاتحاد ومدى التزام الدول الأعضاء بها وهي مكونة من 13 قاضياً يمثلون الدول الأعضاء ومقرها اللوكسمبورغ . بالنسبة لمعاملات الاتحاد المالية فتتم على أساس وحدة النقد الأوروبية ايكو ( ECU ) والمكونة من سلة من عملات الدول الأعضاء بنسب مختلفة أهمها المارك الألماني حيث يساهم بـ 30,1 %  من قيمة الايكو وبتاريخ 1/9/1992 كان سعر التعادل بالنسبة للمارك الألماني  هو 1ايكو = 2,05 مارك .
  • مستقبل تطور الاتحاد حتى نهاية القرن الحالي:

يمكن قراءة المستقبل المتوقع لتطور الاتحاد الأوروبي من خلال نصوص معاهدة ماستريخت والتي يمكن تلخيص أهم محطاتها القادمة بالآتي:

  • يناير 1994 بدء هيئة النقد الأوروبية بالعمل ( مقرها فرانكفورت – المانيا ) وهي المرحلة التمهيدية لتأسيس المصرف المركزي الأوروبي .
  • يناير 1995 يتوقع انضمام النمسا ، سويسرا والسويد الى الاتحاد .
  • نهاية 1996 تأسيس المصرف المركزي الأوروبي كبديل لهيئة النقد الأوروبية سيقوم المصرف بإصدار عملة أوروبية واحدة وتعطى الدول الأعضاء بعد ذلك فترة عامين لاستكمال استعداداتها المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والنقدية للدخول في المرحلة الأخيرة والنهائية من مراحل الاتحاد الاقتصادي والنقدي مع نهاية عام 1998 .
  • نهاية عام 1998 يتم إقرار وضع المعاهدة الأمنية والسياسية بين الدول الأعضاء موضع التطبيق بحيث تكون نافذة اعتباراً من 1/1/1999 . في ذلك التاريخ يمكن الحديث عن الاتحاد الأمني والسياسي لأوروبا الغربية كما هو الحال الآن بالنسبة للمعاهدة الاقتصادية والنقدية ، في حال تطبيق المعاهدة الأمنية والسياسية كما هو مخطط فإن عدداً كبيراً من السياسات الخارجية والأمنية لدول الاتحاد ستوضع بشكل مشترك من قبل مجلس وزراء الاتحاد وسيكون من الجائز عندئذ اتخاذ القرارات في المجلس بأغلبية الثلثين اذا تعذر الاجماع .

يتضح من العرض السابق بأن الجزء الأهم من أوروبا سيتحول حتى نهاية القرن الحالي الى اتحاد ضخم بسياسات خارجية وأمنية موحدة واقتصاد كبير الحجم ، قد يكون الأكبر في العالم ، بسوق مفتوحة لانتقال رؤوس الأموال والسلع والأفراد … وغير ذلك وكأن هذا الجزء من أوروبا قد تحول بالفعل إلى دولة واحدة ذات طابع كونفدرالي . وليس مستبعداً حتى ذلك التاريخ أن يتمكن العديد من دول أوروبا الشرقية من تحقيق رغبته بالانضمام إلى هذا الاتحاد بأشكال مختلفة وصيغ متعددة أو على الأقل ايجاد صلات وثيقة معه مما يجعل من هذه الدول جزءاً مكملاً لكتلته الأساسية .

باختصار فإن العالم أمام قارة عريقة ذات مستوى حضاري راق وإمكانيات وموارد متنوعة تتقارب وتتكامل لتشكل ما يشبه الدولة الواحدة لاشك بأن ذلك سيحمل معه آثاراً ونتائج عديدة على مختلف مناطق العالم ودوله ومن بينها المنطقة العربية . وهذا ما يستدعي منا البحث الجدي والعميق في هذه الآثار وتلك النتائج بما يساهم في تحديد أفضل السبل ووضع أنسب الصيغ للتكييف مع هذا الوضع حفاظاً على مصالح أمتنا ودولها .

 

الدكتور محمد توفيق سماق

كاتب سوري