التعديل المرغوب والتعديل المطلوب لتشريعات محاكم الأمن الاقتصادي ــ المقال /68/

صحيفة تشرين– دمشق – سورية

العدد: 7684 تاريخ  4/2000/ 25

يبدو أن الحكومة راغبة في إدخال بعض التعديلات على قسم من التشريعات الخاصة بمحاكم الأمن الاقتصادي في سورية حسب ما أوردته الصحف المحلية قبل أيام . الرغبة في التعديل بحد ذاتها إيجابية تستحق التقدير والدعم لأكثر من سبب ، من بينها :

  • المبادرة إلى تعديل الأنظمة والتشريعات – أياً كانت – فيها استجابة لمنطق التطور ، فلكل عصر لغة ولكل زمان أحكامه ، طبقاً لهذا الفهم يمكننا أن ننتظر مبادرات حكومية لاحقة لتعديل قوانين أخرى مثل : قانون الإيجارات والعلاقات الزراعية .. وغيرهما من التشريعات ، التي أضحت غريبة عن العصر أو نشازاً في سياقه.
  • الإعراب عن الرغبة في تعديل بعض تشريعات محاكم الأمن الاقتصادي هو إقرار حكومي بعجز هذه التشريعات – بصيغتها الحالية – عن تحقيق الغاية المرجوة منها في حماية الاقتصاد الوطني من محاولات التطاول على موارده أو الإضرار بمصالحه.

حقائق الواقع تؤيد إقرار الحكومة بعجز هذه التشريعات ، فالقضايا المعروضة أمام محاكم الأمن الاقتصادي تسجل تزايداً مستمراً على الرغم من صيغ التشدد في التعامل مع محاولات التطاول   أو حالات الإضرار التي تنص عليها التشريعات النافذة.

أما بالنسبة للتعديلات المرغوب إدخالها حكومياً ، فيمكن تلخيصها بالآتي:

  • تعديل المبلغ الذي تحال بموجبه قضايا التهريب إلى محاكم الأمن الاقتصادي من 30 ألفاً إلى 300 ألف ليرة سورية ، مع التوسع في قاعدة المعاملة الأرحم للمخالف الذي يعقد التسوية مع إدارة الجمارك بتنزيل العقوبة المانعة للحرية إلى الثلث بدلاً من النصف بالنسبة للعقوبات  التي لا تقل عن سنتين.
  • تعديل مبلغ الضرر أو النفع الذي يحال بسببه المخالف إلى محاكم الأمن الاقتصادي من 5 آلاف إلى 100 ألف ليرة سورية ، وفي حالات الإهمال أو قلة الاحتراز     أو عدم مراعاة القواعد الفنية تعديل المبلغ من 5 آلاف إلى 150 ألف لير ة سورية ، وهذا ما ينطبق في الغالب على موظفي الخدمة العامة.

إذا كما هو واضح التعديلات السابقة تتعامل في الجوهر مع حجم الضرر الذي تلحقه المخالفة بالاقتصاد الوطني ، وإذا أخذنا بالمقياس النسبي نجد أن التسامح في جرائم التهريب قد يصل  إلى ثلاثة أضعاف التسامح في جرائم الخدمة العامة ، أو أن التشدد في جرائم الخدمة العامة قد يصل إلى ثلاثة أضعاف التشدد في جرائم التهريب ، وبذلك يحتوي التعديل المقترح على الشيء ونقيضه : التسامح والتشدد . التسامح النسبي في جرائم التهريب والتشدد النسبي في جرائم الخدمة    العامة . من حيث المبدأ تعتبر كلتا الجريمتين اعتداء على حق المجتمع وخروجاً عن إرادته ( أو قانونه ) ، أما بالنسبة للمخالفين فلا بد من التفريق بينهما . موظف الخدمة العامة  ربما أهمل دون قصد أو أساء عندما انكسرت مقاومته الداخلية بتأثير ضغوط مختلفة أو غير ذلك ومهما كانت أسباب خطأه فهذا لا يلغي ما قدمه من خدمات للمجتمع خلال ممارسته لوظيفته ( وقد يكون ذلك لسنوات أو عقود ) مما يؤهله لأن يكون الأجدر بالتسامح . أما التهريب فكما هو واضح من التسمية يقوم في الجوهر على الهروب من إرادة المجتمع والخروج عنها . التهريب إذا خطأ عن عمد وسبق إصرار ( حسب مصطلحات القانون المتداولة) وبذلك يكون التهريب أكثر من خطأ فهو خطيئة مما يبرر التشدد مع الظاهرة ، ومع ذلك نجد التعديل المقترح – كما أشرنا سابقاً – يتسامح نسبياً مع الخطيئة ويتشدد نسبياً مع الخطأـ أليس في ذلك مفارقة يصعب تفسيرها وازدواجية يتعذر تبريرها ؟

بالإضافة إلى ماسبق تستدعي فكرة التعديل السؤال التالي: هل تفي التعديلات المقترحة بما هو مطلوب لجعل التشريعات ذات الصلة بالأمن الاقتصادي أكثر كفاءة في تحقيق غاية المشرع من وضعها ؟ تلك التشريعات وضعت بالأصل لحماية الاقتصاد الوطني ، إلا أن ما نصت عليه من محاكمة المتهم موقوفاً ( أي توقيفه قبل أن تثبت إدانته ) أدت إلى اهتزاز الثقة في عدالة إجراءات التقاضي . فالكثير من المتهمين الذين أحيلوا إلى محاكم الأمن الاقتصادي حوكموا أو حكمت المحاكم ببراءتهم بعد إجراءات تقاض طويلة ومضنية كانوا خلالها موقوفين لشبهة لم تثبت أو لذنب لم يرتكبوه؟

في هذا السياق يروى أنه بعد نجاح ثورة 23 تموز ( يوليو ) في مصر طالب بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة بمحاكمة الملك فاروق وإعدامه . عارض الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ذلك بمنطق بسيط قائلاً : ما هو معنى أن نحاكم الملك ونعدمه ؟ إذا كنا قد قررنا سلفاً أن نعدم الملك فلماذا نحاكمه؟

المنطق نفسه ينطبق على بعض تشريعات محاكم الأمن الاقتصادي لدينا ، إذ يمكن للمرء أن يسأل : إذا كان القانون قد قرر سلفاً حبس المتهم فلماذا نحاكمه؟

بالإضافة إلى ما سبق أليس في تقييد حرية المتهم أثناء محاكمته تقييداً لحريته في البحث عن أدلة براءته.

أليس في ذلك تقييداً مماثلاً لحقه في الدفاع عن نفسه؟!

إن محاكمة المتهم موقوفاً ساهمت كما أشرنا في اهتزاز الثقة بعدالة إجراءات التقاضي ودفع بالكثير من موظفي الخدمة العامة للتهرب من تحمل المسؤولية بدافع من غريزة البقاء وخوفاً من شبهة الخطأ التي قد تقود المتهم للتعامل مع إجراءات لا يطمئن لعدالتها . أليس في التهرب من تحمل المسؤولية ضرراً للاقتصاد الوطني ؟ ألا يعني ذلك شيئاً من التناقض بين الغاية من التشريع ( أي حماية الاقتصاد الوطني ) والنتيجة التي أدت إليها وسائل تطبيقه ( أي التهرب من تحمل المسؤولية )؟

أغلب الظن أن جوهر التعديل المطلوب يكمن في إلغاء النص القانوني القاضي بمحاكمة المتهم موقوفاً، والاستعاضة عن ذلك بمحاكمته طليقاً ففي ذلك:

  • انسجاماً مع المبدأ القانوني القائل : لا عقوبة بدون جريمة .
  • تعزيزاً للثقة في عدالة إجراءات التقاضي.
  • حماية لطرفي القضية القانونية المحكمة والمتهم : المحكمة من خطأ محتمل والمتهم من تعسف غير مقصود.

ما سبق وغيره من النتائج الإيجابية لمحاكمة المتهم طليقاً يساهم في إشاعة الطمأنينة لدى موظف الخدمة العامة عند ممارسته لوظيفته مما ينمي من شعوره بالمسؤولية ويزيد من قدرته على تحملها . ذلك ما هو مطلوب وذلك ما هو ضروري للارتقاء بكفاءة أداء اقتصادنا ، والارتقاء بكفاءة الأداء يجب أن يكون غاية أي حديث عن حماية اقتصادنا الوطني وهدف أي تعديل للتشريعات الناظمة لها.

نعود لنقول التعديلات المقترحة هي تعديلات مرغوبة فهل لنا أن نتوقع التعديل المطلوب في وقت ليس ببعيد .

 

 

الدكتور محمد توفيق سماق