الحاضر الروسي يوقظ مخاوف الماضي في أوروبا ـــ المقال رقم /17/

صحيفة البيان – الإمارات العربية

العدد :149 –   تاريخ: 25/3/1994

نشر كذلك في :

صحيفة البعث – دمشق – سورية

العدد : 9406 – تاريخ 13/4/1994

هذا المقال بمناسبة الحديث عن إحياء محور ” برلين – موسكو ” .

في جمهورية روسيا حاليا ظاهرتان بدأتا تقلقان قسما هاما من دول أوروبا وتوقظان لديهم مخاوف الماضي وهواجسه، الأولى طابعها رسمي والأخرى سمتها شعبية.

الظاهرة الأولى : تتلخص في الاتجاه الواضح لحكومة الرئيس يلتسين للتقارب مع ألمانيا بهدف  إحياء العلاقة الخاصة القديمة بين روسيا وألمانيا وقد عبر عن ذلك مؤخراً وزير الخارجية الروسي  ” أندريه كوزيريف ” بوضوح أمام وزير الخارجية الألماني ” كلاوس كينكل ” داعياً إلى إحياء ما سماه محور ” برلين – موسكو ” وما أثار قلق الأوروبيون ليست فقط دعوة الوزير الروسي وإنما وهو الأهم عدم رفضها من قبل وزير الخارجية الألماني ، كما أن اعتراض وزير الخارجية في ألمانيا على زيارة للمستشار كول كان ينوي القيام بها إلى بولونيا ، حيث صرح الوزير معلناً ” إن روسيا أهم لنا من بولونيا ” ، قد أثار الهواجس في أوروبا وضاعف من القلق فيها .

الظاهرة الثانية : التي درجت وسائل الإعلام الغربية على تسميتها بظاهرة جيرونوفسكي نسبة إلى زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي فلاديمير جيرونوفسكي ، هي الظاهرة التي تعكس إلى درجة كبيرة نمو التطرف القومي في روسيا .

ففي مقال لجيرونوفسكي في صحيفة الإزفستيا قبيل الانتخابات الروسية الأخيرة أوضح زعيم الحزب الليبرالي رؤياه لمستقبل روسيا وعلاقاتها بمحيطها الإقليمي والعالمي فهو يرى بأن القرن العشرين قد شهد صراعاً مريراً بين نزعتين أمميتين الأممية البورجوازية أو كما سماها ” أممية روتشيلدورو كفلر ” وأممية لينين أو ” الأممية الشيوعية ” . هو يعتقد بأن كلتا الأمميتين قد سقطتا أمام امتحان الزمن والذي يسود العالم اليوم ويحدده مساره وحركته هي النزعة القومية ، ويتابع موضحا رأيه في العلاقة بين القومي والأممي قائلاً : إن القومية أشبه ببيت العائلة حيث يعيش فيه أفرادها بشكل مشترك يتقاسمون حجراته وأثاثه كما يحلو لهم أن يتفقوا ولكي يحموا أنفسهم من فضولية الجيران ” الأمم الأخرى ” وإزعاجاتهم المحتملة عليهم أن ” يوصدوا أبواب منزلهم جيداً ” . ويتابع لكن ذلك لا يعني بأن العائلة التي تسكن هذا البيت وتوصد بابه جيداً ليست على استعداد لأن تتعامل مع جيرانها ومحيطها الخارجي لكنه يعني بأن ذلك يجب أن يتم على أسس محددة وقواعد واضحة انطلاقاً من رؤيته تلك لعلاقة القومي بالأممي يطالب جيرونوفسكي بأن ترسم روسيا وبشكل دقيق حدودها مع جيرانها ومحيطها الخارجي لكي تستطيع تحديد علاقاتها معهم على أسس واضحة وسليمة.

وفي هذا السياق يقدم الزعيم القومي الروسي مجموعة من التصورات لروسيا المستقبل كما يرغب أن تكون ، فهو يعتقد بأن روسيا يجب أن تخرج من آسيا الوسطى كلها بما فيها القوقاز بالكامل .  ففي الماضي كنا ” الروس ” بحاجة إلى القوقاز كمخفر متقدم لحماية عمق الإمبراطورية أما الآن وفي زمن الأسلحة البعيدة المدى فقد فقدت هذه المنطقة كل أهمية استراتيجية بالنسبة لنا ويتابع جيرونوفسكي قائلاً الأكثر من ذلك علينا أن نجلي المواطنين الروس القاطنين في تلك المناطق ونعيدهم إلى روسيا عندئذ ” لن تجد شعوب آسيا أطباء أو مهندسين أو عمالاً فنيين فالموجودون حالياً هناك هم الروس ” . وباختصار على روسيا أن تعزل نفسها عن هذه المنطقة قدر ما تستطيع حتى لو تمكنا أن نبني ” الروس ” مع آسيا الوسطى جدار كجدار برلين فعلينا أن نفعل ” ويضيف زعيم الحزب الليبرالي على روسيا أن تترك شعوب آسيا الوسطى لأمراء الحرب ورجال الدين فيها”.

كما ينصح بألا تتدخل روسيا في الخلافات والصراعات القائمة والمحتملة بين الدول الإسلامية التقليدية القريبة منها ” تركيا ، ايران ، وباكستان ” بل أن تراقب باهتمام ما يجري فيها    وينصح كذلك ببيع السلاح لكل من يستطيع دفع ثمنه من أطراف الصراع حيثما نشب في المناطق والدول الإسلامية . بعد ذلك ينتقل الزعيم الروسي ليتنبأ بأن هذه الشعوب وبعد أن تنهكها الحروب لن تجد أمامها من خيار سوى أن تأتي إلى روسيا ” زاحفة راكعة مهزومة تستجدي مساعداتها ويضيف عندئذ يمكننا “الروس ” أن نتدخل كمنقذين حيث يستطيع جنودنا غسل أقدامهم في مياه المحيط الهادئ الدافئة ” .

هذا بالنسبة لشعوب الشرق أما بالنسبة ” لأخوتنا من الشعوب السلافية ” كما يصفهم جيرونوفسكي فعلينا أن نبقي الباب وأن نرحب بهم في كل وقت .

أما شعوب أوروبا الأخرى من الأصول غير السلافية فينصح جيرونوفسكي بمعاملتهم بالمثل على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.

من العرض السابق يستطيع الدارس أن يتفهم بعض التسميات التي تطلقها وسائل الاعلام الغربية على جيرونوفسكي وأراءه كالتطرف والفاشية وما شابه ذلك ، فآراؤه تلك وغيرها من تصريحاته الإعلامية شبه اليومية لا تخلو من العنصرية ولا يمكن تبرئتها من التعصب . وبالنسبة لقسم هام  من أوروبا . فإن بروز هذه الظاهرة في روسيا مع الدعم والتأييد الكبيرين اللذين حظيت وتحظى  بهما في الشارع الروسي ( فالحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي يحتل الآن في مجلس الدوما ” البرلمان الروسي ” 66 مقعداً أي يأتي في المرتبة الثانية بعد حركة خيار روسيا “101” ) فالدعم يعد مؤشراً على احتمال بروز ما يسميه البعض بالتقليد الإمبريالي الروسي أو النزعة التوسعية الروسية  والتي تعود في جذورها إلى قرون من الزمن .

العديد من دول القارة اليوم خاصة في شرق أوروبا تستيقظ لديها بسبب مخاوف الماضي وهواجسه  وهي ترى بأن النزعة الإمبريالية الروسية إذا ما توافر لها ظرف دولي مناسب كالظرف الذي يمكن أن يخلقه محور ” برلين – موسكو ” ستعود كما كانت تاريخياً عامل تهديد وعدم استقرار في القارة الأوروبية على وجه العموم وفي أوروبا الشرقية بشكل خاص .

فبولونيا قسمت في القرن الثامن عشر فقط ثلاث مرات ” 1772 و 1793 و 1795 ” بين روسيا وبروسيا والنمسا .. وفي القرن التاسع عشر اعتمد بسمارك بشكل غير مباشر على هذا المحور  ” العلاقة الخاصة التي أنشأها مع البلاط الروسي عندما كان سفيراً لبروسيا لدى روسيا القيصرية في الفترة 1859 – 1862 ” في حروب بروسيا ضد كل من الدانمرك ، النمسا وفرنسا” 1864 ، 1866 . 1870 ، 1871 ” والتي كانت انتصارات بروسيا فيها الأساس الذي بنى عليه الرايخ الألماني الثاني.

وفي القرن العشرين فإن محور ” برلين – موسكو”  الذي نشأ مع التوقيع على معاهدة عدم الاعتداء  بين الرايخ الثالث والاتحاد السوفييتي ” 23-8-1939 ” أو ما يسمى أحياناً بمعاهدة ريبتروب     ” وزير خارجية الرايخ الثالث ” مولوتوف ” وزير خارجية الاتحاد السوفييتي في حينها ” شكلت أيضاً الأساس لتقسيم بولونيا بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي وضم جمهوريات البلطيق الثلاث ” ليتوانيا – استونيا – لاتفيا ” ” إلى الاتحاد السوفييتي ” أيام هتلر وستالين ” بل إن بعض المؤرخين يذهبون إلى   أبعد من ذلك ليؤكدوا بأنه لولا هذه المعاهدة لترددت ألمانيا كثيراً قبل إقدامها على اجتياح بولونيا ” 1-9-1939 ” ذلك الاجتياح الذي أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية .

تلك هي بعض من مخاوف الماضي الذي يكثر الحديث عنها اليوم في أوروبا حيث يرى البعض من الأوروبيين بأن علاجها يكمن في توسيع نطاق حلف شمال الأطلسي ليشمل دول أوروبا الشرقية الراغبة في الانضمام إليه . أغلب الظن أن هذه المخاوف هي من الدواعي الرئيسية للرغبة التي عبرت عنها بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق وشرق أوروبا ” ليتوانيا – بولونيا – جمهوريتي التشيك والسلوفاك – هنغاريا ” بالانضمام إلى الناتو كما أنها من الأسباب الجوهرية الكامنة وراء دعوة المشاركة من أجل السلام التي أطلقها الرئيس الأمريكي كلينتون والموجهة لأوروبا الشرقية ، تلك الدعوة التي تبناها قادة الناتو فيما بعد خلال اجتماعهم في بروكسل ” 10-1-1994 ” .

فهل يستطيع الناتو فعلاً ضمان السلام في أوروبا وشفاء القارة من مخاوفها ؟ ذلك ما سيجيب عليه تطور الأحداث في المستقبل .

 

الدكتور محمد توفيق سماق