الدرس الأهم من الانتخابات الروسية ــ المقال رقم / 118/

صحيفة الثورة – دمشق – سورية

العدد : 13486 تاريخ 12/12/2007

فاز حزب روسيا الموحدة الذي تزعم قائمته الانتخابية الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين بنحو 64% من أصوات الناخبين الروس في الانتخابات التي جرت أوائل هذا الشهر.

بالمقابل حصل الحزب الشيوعي الروسي على 11،6% حيث حل في المركز الثاني وحزب روسيا الآن ( يسار الوسط)  والحزب الليبرالي الديمقراطي  ( حزب جيرونوفسكي الذي يصنف قومياً متطرفاً) على 8،2% و 7،8% على التوالي  أي في المركزين الثالث والرابع الحزبان الأخيران يعتبران من الحلفاء السياسيين لبوتين ونهجه لذلك اعتبرت معظم وسائل الإعلام بأن نتائج الانتخابات حققت لبوتين السيطرة الفعلية على نحو 80% من مقاعد البرلمان الروسي ( أو ما يسمى الدوما)  الذي يبلغ عدد أعضائه الإجمالي 450 عضواً ما يعطي لبوتين وحلفائه قوة دستورية كبيرة تمكنهم من تمرير أو اعتراض ما يرغبون فيه من قوانين وبالتالي توجيه روسيا وضبط مسار حركتها الداخلية والخارجية وفق إيقاعهم الخاص.

فما تاريخ فلاديمير بوتين وكيف تمكن من الفوز بهذا التفويض الشعبي الكبير?

بوتين من مواليد بطرسبورغ ( لينيغراد سابقاً)  في 7/10/1952 . درس القانون في المدينة نفسها وبعد إنهاء دراسته الجامعية التحق عام 1975 في فرع الأمن الخارجي التابع لجهاز الأمن السوفييتي ذائع الصيت KGB ،حيث خدم خلال الفترة ( 1985- 1990) في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة . بعد زوال ألمانيا الديمقراطية وانهيار الاتحاد السوفييتي عينه سلفه الرئيس بوريس يلتسين في عام 1998 رئيسا لجهاز الأمن الداخلي ، أوائل عام 1999 سماه مستشاراً للرئيس لشؤون الأمن بالإضافة لعمله.

وفي شهر آب عام 1999 فاجأ الرئيس يلتسين العالم بتكليف بوتين برئاسة الوزراء . ولم يكن في حينه من الأسماء المألوفة والمتداولة في حاشية الرئيس   أو في الحياة السياسية الروسية ، فهو كما أوضحنا كان من سكان شارعها الخلفي أي شارع الأمن.

مع تنحي يلتسين عن الرئاسة في 31/12/1999 كلف بوتين بمهام الرئيس ومن ثم فاز بانتخابات رئاسية بمنصب رئيس جمهورية روسيا الاتحادية في عام 2000 لدورة انتخابية مدتها 4 سنوات ثم أعيد انتخابه عام 2004 لدورة ثانية تنتهي في أيار القادم ، تجري خلالها في آذار من عام 2008 انتخابات رئاسية لانتخاب الرئيس المقبل لروسيا.

نظام الحكم في روسيا حسب الدستور الروسي جمهوري رئاسي يتم انتخاب     رئيس الجمهورية فيه بالاقتراع المباشر من قبل المواطنين الناخبين  ( من بلغوا 18 عاماً ) لمدة 4 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط.  أي أن الرئيس بوتين لا يستطيع دستورياً أن يترشح لدورة انتخابية ثالثة ، هذا الوضع الدستوري مع تزعم بوتين للائحة الانتخابية لحزب روسيا الموحدة وتصريحه بعد الانتخابات بأن النصر الكبير لحزبه يمنحه تفويضاً للبقاء في دائرة السلطة ، شغل المحللين السياسيين تحديد الكيفية التي سيبقى بها بوتين في دائرة السلطة؟

البعض يقول أنه سيتولى رئاسة الوزراء وآخرون يرون بأنه سيكتفي بموقع الزعيم للقوي للأغلبية البرلمانية وهنالك من يظن بأنه قد يقدم على تعديل الدستور الروسي من خلال البرلمان مما يتيح له العودة لموقع الرئاسة أو إقالة الرئيس القادم الذي سيتم انتخابه في شهر آذار المقبل بعد فترة من توليه ومن ثم يعود بوتين رئيساً للمرة الثالثة لكن بعد انقطاع وهذا ما يتيحه الدستور الحالي؟

الشكل الذي سيأخذه بقاء بوتين في دائرة السلطة هو قضية افتراضية لا يمكن القطع بها حتى الآن ، لكن أياً كان هذا الشكل فالواضح أن هنالك رغبة شعبية كبيرة في هذا البقاء، والسؤال هنا كيف استطاع بوتين انتزاع هذا التفويض الشعبي العارم؟

في سياق الإجابة على ذلك قد يكون من الضروري إجراء بعض المقارنات بين زمن يلتسين وعصر بوتين:

اقتصادياً : حقق الاقتصاد الروسي نمواً مضطرداً تراوح بين 6-7% سنوياً خلال الفترة ( 2001 – 2006 ) وانخفض معدل التضخم إلى نحو 8% بعد أن سجل وسطاً بلغ 140% خلال الفترة ( 1990 – 2001 ) واستقر سعر صرف الروبل بحدود 28 روبل لكل دولار أمريكي بعد أن وصل إلى حالة من الانهيار خلال فترة التسعينيات كما تراجعت معدلات البطالة إلى ما يشبه مثيلاتها في دول الاتحاد الأوروبي.

بالإضافة إلى ذلك تحول بوتين من التركيز على خصخصة القطاع العام إلى محاولة إصلاحه وتنشيط دوره ، بعد أن تحولت الخصخصة في زمن يلتسين إلى مهرجان أممي للفساد وشاركت فيه عائلة الرئيس ( ابنته وزوجها) وحاشيته وإدارته فنهبت المليارات وهدرت أخرى من ثروة روسيا ومواردها.

سياسياً : تصرف بوتين من قناعته التي عبر عنها في أكثر من مناسبة ومفادها أن انهيار الاتحاد السوفييتي كان من أكبر الأخطاء والمصائب التي عرفتها روسيا في تاريخها .

لكن كان الاتحاد السوفييتي على ما يبدو بالنسبة لبوتين عزها الذي زال ومجدها الذي تحول إلى أطلال ، فحاول بعد إنجازاته الداخلية التي أشرنا إلى بعضها أن يستعيد جزءاً ولو يسيراً من مكانة روسيا وهيبتها على الصعيد الدولي.

فبدأت السياسة الخارجية لروسيا بالتحول من تبعية شبيهة بتبعية دول الجنوب للغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية إلى نهج يتسم بالتميز وأحياناً التعارض مع سياسات الغرب ونزعته للسيطرة وطموحه للهيمنة على العالم بشعوبه ومقدراته. فكان موقفه المعروف من رفض ما سمي بالدرع الصاروخي الأطلسي في أوروبا الشرقية ، حيث رد عليها بتعليق العمل بمعاهدة الحد من الأسلحة التقليدية كما اعترض على استصدار قرار بغزو العراق وأعاق جهود الولايات المتحدة لفرض المزيد من العقوبات على إيران ورفض التهديد بعمل عسكري ضدها واستمر بالتعاون النووي معها .. وغير ذلك الكثير . سياساته تلك لم تعد بالعالم إلى أجواء الحرب الباردة فهذا خارج قدرة روسيا حالياً وخارج أولويات بوتين كما صرح هو نفسه لكنها حولت السلام مع الغرب إلى سلام بارد تتناسب حرارته طرداً مع توازن مصالح الطرفين أو لقائها.

جملة القول : إن الانجازات الداخلية وتميز السياسة الخارجية في زمن بوتين نقلت روسيا من عصر إلى عصر :

عصر يلتسين تحالف مع المافيا وعصر بوتين انحاز إلى نتاشا ( اسم شعبي روسي).

عصر يلتسين زاد من غنى الأغنياء وعصر بوتين قلل من فقر الفقراء.

عصر يلتسين نسي كبرياء روسيا وعصر بوتين أيقظه.

بوتين انحاز إلى الشعب فأحبه واحترمه وفوضه من خلال صناديق الانتخابات ..

الشعوب لا تغش و لا تُغش لا تخدع و لا تُخدع ..قديماً قالت العرب ألسنة الناس أقلام الحق .. فلنتحالف مع هذا الحق الدائم ما دامت الحياة.

 

الدكتور محمد توفيق سماق