الصناعة و التنمية في سورية الواقع الراهن و اتجاهات المستقبل الحلقة الأولى ــــ المقال رقم /23/

صحيفة البعث – دمشق -سورية

العدد :9462   –   تاريخ: 26/6/1994

سنتناول في هذه الدراسة بالبحث و التحليل و بشكل مختصر ، ثلاث قضايا هي :

  • دور الصناعة و مهامها التنموية في اقتصاديات الدول النامية .
  • الواقع الراهن للصناعة السورية في سياقه التاريخي .
  • الاتجاهات المستقبلية المقترحة لتطوير دور الصناعة السورية و تعزيز مساهمتها في التنمية على المستوى الوطني .

1- حول دور الصناعة و مهامها التنموية في اقتصاديات الدول النامية

 تدل التجربة التاريخية للعملية التنموية في العديد من البلدان بأن جوهر التنمية يكمن في تنويع الهيكل الاقتصادي لهذه البلدان من ناحية كذلك في التحديث المستمر للمستوى العلمي  و التكنولوجي لقطاعاتها الاقتصادية المتاحة من ناحية أخرى . و نظراً لما يحقق وجود قطاع صناعي واسع و فعال من تنويع في اقتصاديات الدول النامية و ما يساهم به في تطوير المستوى العلمي و التكنولوجي لقطاعات الاقتصاد الوطني المختلفة فيها بالإضافة إلى ما ينتج عن ذلك من إعادة تشكيل و صياغة لمنظومة العلاقات الاجتماعية في هذه الدول يمكننا أن ننظر إلى دور الصناعة في التنمية باعتباره شرطاً ضرورياً لا غنى عنه لأي تجربة تنموية حقيقية و ناجحة . هذه النظرة لدور الصناعة في التنمية ترتب على قطاع التصنيع مهاماً كبيرة و تلقي على كاهله أعباء عديدة و متنوعة ذات أبعاد اقتصادية ، تكنولوجية و كذلك اجتماعية منها :

  • إنتاج السلع و الخدمات للمساهمة في سد حاجات المجتمع و التخفيف من درجة الاعتماد على السوق الخارجية في هذا المجال ، كذلك توفير فوائض قابلة للتصدير تساعد على تحسين وضع ميزاني المدفوعات و التبادل التجاري مع العالم الخارجي .

تعميق الترابطات بين قطاعات الاقتصاد الوطني المتعددة و إزالة اختناقات محتملة لدى بعضها ، حيث إن الكثير من مخرجات بعض القطاعات الاقتصادية تستخدم كمدخلات في القطاع الصناعي كما أن جزءاً هاماً من مخرجات قطاع الصناعة يوظف كمدخلات في القطاعات الاقتصادية الأخرى ( زراعة – بناء – و تشييد – نقل و مواصلات .. ) .

  • المساهمة في توسيع القاعدة التكنولوجية للاقتصاد الوطني و تحديثها المستمر وفق معطيات الواقع و بما يتلاءم          و المستوى العالمي في هذا المجال .
  • توفير فرص عمل جديدة للقوى التي تدخل سوق العمل دورياً مما يشكل عامل ضبط و توازن لحركة المجتمع و تفاعلاتها

فذلك كله وغيره الكثير مما يمكن أن يذكر عن مهام قطاع الصناعة يؤكد الدور الأساسي الذي يلعبه التصنيع في اقتصاديات الدول النامية باعتباره شرطاً ضرورياً من شروط التنمية .

   2- الواقع الراهن للصناعة السورية في سياقه التاريخي

وفقاً لنظام تصنيف النشاط الاقتصادي المعمول به لدى الأمم المتحدة و معظم دول العالم ومن بينها الجمهورية العربية السورية فإن قطاع الصناعة و التعدين يضم النشاطات التالية :

  • الصناعة التحويلية
  • الصناعة الاستخراجية و التعدين
  • صناعة الماء و الكهرباء

في هذا البحث فإن الصناعة التي نعني هي الصناعة التحويلية فقط و يضم هذا القطاع النشاطات الصناعية التالية :

صناعة المواد الغذائية و المشروبات و التبغ – الغزل و النسيج و حلج الأقطان و الجلود – الخشب و الموبيليا و الأثاث – الورق و منتجاته و الطباعة – الصناعات الكيماوية و منتجاتها  و تكرير البترول – المنتجات غير المعدنية – المنتجات المعدنية الأساسية – المعدنية المصنعة – صناعات متنوعة أخرى .

من حيث علاقات الملكية فإن لكلا القطاعين العام و الخاص حضوراً فاعلاً في مجالها ، فمنشآت الصناعات التحويلية العائدة للقطاع العام تتوزع ملكيتها على عدد من وزارات الدول أهمها : الصناعة- النفط – الاقتصاد- التموين – الزراعة .

أما القطاع الخاص فيملك وفق إحصائيات وزارة الصناعة – ٣٥٨٦١ منشأة تعمل في هذا المجال يقدر حجم رأس المال المستثمر فيها ١٥٤٢٢ مليون ليرة سورية و توفر حوالي ١٢٧٧٦٣  ( فرصة عمل نهاية النصف الأول من عام ١٩٩٣ بيانات وزارة الصناعة ) .

من الناحية التاريخية يمكننا أن نميز منذ الاستقلال و حتى الآن بين ثلاثة أطوار نمطية لنمو الصناعة السورية مقسمة تبعاً لـ : تخصص الصناعة الإنتاجي – قاعدة استخدامها للمواد الخام – دور الدولة في الحياة الاقتصادية .

أ‌- الطور الصناعي الأول منذ الاستقلال و حتى قيام الوحدة عام ١٩٥٨ :

اكتسبت الصناعة في هذا الطور تخصصاً إنتاجياً يعتمد على صناعات زراعية غذائية لمعالجة بعض الخضار و الفواكه بهدف حفظها و تعليبها و أخرى زراعية غير غذائية لحلج الأقطان – الغزل  و النسيج – التبغ و لفائفه .. ثم توسع هذا التخصص ليشمل بشكل رئيسي صناعة الاسمنت و مواد البناء و صناعة الزجاج بهدف تلبية جزء من الطلب المحلي لقطاع البناء و التشييد .

لقد تبلور هذا التخصص في معظمه من خلال تطور تراكمي سريع غذته مدخرات محلية جرى توظيفها عبر الاستثمار الخاص بمبادرات فردية ( شركات مساهمة ، شركات محدودة  الشركاء ) تعود للقطاع الخاص . كان دور الدولة محدوداً في هذا الطور من حيث التخطيط و الاستثمار في قطاع الصناعة كما لم يكن لديها استراتيجية محددة تهدف إلى إنماء الصناعة بمجهود إرادي مسبق و بذلك نستطيع القول أن قوى السوق قد لعبت الدور الأساسي و الحاسم في توجيه التطور الصناعي في تلك الفترة و التحكم فيه . و الموضوعية تقتضي منا الاعتراف بعدد من النجاحات الملحوظة التي حققتها الصناعة في ذلك الطور من حيث استخدام الموارد الطبيعية المحلية ( خاصة الزراعية ) و مساهمتها في تغطية جزئية للطلب المجتمعي على بعض السلع المصنعة .

بلغت مساهمة قطاع الصناعة و التعدين ١٣ ٪ في الناتج المالي الإجمالي عام ١٩٥٤   و حقق هذا القطاع نمواً ملحوظاً بلغ ١٢ ٪ سنوياً خلال الفترة ١٩٥٠ – ١٩٥٦ و تم توظيف حوالي ١٦٢ مليون ليرة سورية خلال تلك الفترة ١٩٤٦ – ١٩٥٨ و على الرغم من ذلك فإن مهاماً عديدة بقيت مفتوحة للأطوار التالية .

ب –   الطور الصناعي الثاني ١٩٥٨ – ١٩٧٠ :

شهد هذا الطور في فترته الأولى ١٩٥٨ – ١٩٦٣ انعطافات حادة في دور الدولة و توجهاتها في الحياة الاقتصادية إلا أنه بعد ثورة ٨ آذار ١٩٦٣ انتقلت الدولة و بثبات لأن تمارس دوراً يتسم بالتدخل الواسع و المكثف في النشاط الاقتصادي على أساس توسيع قاعدة استخدام الموارد المحلية المتاحة و تنويعها و توسيع حيز الإحلال محل الواردات .

ففي الطور الصناعي الثاني تم إنجاز مصفاة النفط الأولى في البلاد ( مصفاة حمص )  و إنشاء الصناعة الأولى لإنتاج الأسمدة . كما تم أواخر هذا الطور ١٩٦٩ التعاقد لإنشاء معمل القضبان الحديدية في حماه بطاقة إنتاجية تبلغ ٩٥٠٠٠ طن و بذلك خطت الصناعة السورية خطواتها الأولى باتجاه صناعة الحديد و الصلب التي سيتم التوسع فيها في الطور الثالث كما سنوضح لاحقاً كما تم في عام ١٩٥٨ إحداث وزارة الصناعة ، كوزارة مستقلة تتولى الإشراف على رسم السياسات و التوجهات المتعلقة بالنشاط الصناعي و متابعة تطبيقها .

زادت في هذا الدور مساهمة الصناعة و التعدين في الناتج المحلي الإجمالي من ١٧ ٪ عام ١٩٦٣ إلى ٢٥ ٪ عام ١٩٧٠ كما زاد عدد المشتغلين من ٩٦٤٩٨ مشتغلاً إلى ١٤٠٧١٦ مشتغلاً ، كما وظف خلال الفترة ١٩٦٣ – ١٩٧٠ ما مجموعه ١٣٤٩ مليون ليرة سورية الصناعة شكلت ٢٨ ٪ من إجمالي الاستثمارات الموظفة في الاقتصاد الوطني خلال تلك الفترة .

و بشكل عام يمكننا تلخيص أبرز السمات التي ميزت هذا الطور من نمو الصناعة السورية بالتالية :

  • تعزيز التوجه الاستراتيجي للإحلال محل الواردات.
  • تحسين قدرة قطاع الصناعة على تغطية الطلب المحلي على السلع المصنعة .
  • تنامي دور هذا القطاع في مجال سد الطلب الإجماعي على فرص العمل .

إلا أن التحول الأساسي و العميق الذي طرأ على الصناعة السورية دورها في مختلف مجالات التنمية يمكن للدارس رصده في الطور الثالث أي منذ عام ١٩٧٠  و حتى الآن.

جـ – الطور الصناعي الثالث :

في هذا الطور شهدت الصناعة تحولات عميقة شملت العديد من الجوانب ، من بينها :

  • التوسع الكبير في استخدام الموارد المحلية خاصة الموارد الزراعية لإنشاء صناعات زراعية غذائية وغير غذائية .
  • التوسع الكبير في صناعة الأسمدة .
  • دخول البلاد في مجال بعض الصناعات الكيميائية الجديدة ( مثلاً صناعة الإطارات  ) .
  • توسع كمي ونوعي ملحوظان في مجال صناعة الحديد و الصلب ، حيث تم أوائل السبعينات دخول معمل القضبان الحديدية في حماه و المتعاقد عليه عام ١٩٦٩ مرحلة الإنتاج الفعلي ، كما تم في عام ١٩٧٥ التعاقد لإنشاء معملي صهر الخردة و الأنابيب المعدنية دخل الأول في الإنتاج ١٩٧٨ و الثاني عام ١٩٧٩ .
  • دخول البلاد في مجال بعض الصناعات الهندسية الأخرى كثيفة استخدام رأس المال و الكنولوجيا مثل الجرارات بهدف تلبية حاجة قطاع الزراعة ( عام ١٩٧٤ شركة الفرات للجرارات كشركة مشتركة سورية اسبانية بطاقة تعاقدية بلغت ٣١٥٠ جراراً في العام ) .
  • تطوير كمي و نوعي للصناعات الالكترونية القائمة في البلاد منذ الطور الصناعي الثاني (١٩٦٠ ) و بشكل خاص التطور الذي بدء به مع عام ١٩٧٤ فيما يتعلق بتصنيع بعض المكونات الأساسية للأجهزة التلفزيونية و الهواتف الآلية .

لقد كان لهذه التحولات العميقة و غيرها التي طرأت على الصناعة السورية في هذا الطور أثراً واضحاً على تنامي دور الصناعة و توسعه فيما يتعلق بالعملية التنموية في سورية على الصعيدين الاقتصادي و الاجتماعي و البيانات الإحصائية التالية تشير إلى بعض جوانب هذا التطور ( البيانات مأخوذة من وثائق وزارة الصناعة- القيمة بمليون ليرة سورية و بالأسعار الجارية ) .

الصناعة التحويلية

( عام + خاص )

رأس المال

المستثمر           ( م.ل.س )

الإنتاج

( م.ل.س )

الناتج

( م.ل.س )

عدد المشتغلين / عامل
1980 24600 15674 3158 129004
1985 24343 31223 5306 174927
1990 30947 100664 19560 209530

(علماً بأن الأرقام السابقة تأشيرية و ربما اختلفت من مصدر لآخر ، فمشكلة دقة   البيانات الإحصائية من المشاكل التي تواجه مؤسسات الإحصاء و التخطيط في معظم الدول النامية ) .

أما بالنسبة لدور الدولة في الحياة الاقتصادية و عملية التصنيع جزء منها ، فكان التحول الأساسي الذي طرأ عليه هو إعادة صياغته على أسس أكثر رشداً و عقلانية و بما يتيح إمكانية مساهمة مختلف القدرات و الطاقات المحلية للإسهام بشكل فعال في الجهود التنموية على المستوى الوطني من خلال نهج عريض و شامل هو نهج التعددية الاقتصادية ، و التي يمكن اعتبارها آلية إنمائية تسمح بنشوء اقتصاد تتعدد فيه أشكال ملكية وسائل الإنتاج.   بين عام و خاص و مشترك اقتضتها ضرورات التطور و عززت من أهميتها المتغيرات الجديدة في عالم اليوم و في معرض الحديث عن التعددية قد يكون من الضروري توضيح الرأي في إشكالية طرحتها هذه المقولة و هي أن الاقتصاد الاشتراكي لا يتسع للتعددية .

أغلب الظن أن هذه الإشكالية ترجع في جذورها إلى الطريقة التي طبق فيها الاتحاد السوفييتي السابق الاشتراكية ، حيث أصبحت تلك الطريقة مرجعاً عالمياً في القياس و الحكم على مدى اشتراكية اقتصاد أي دولة من الدول .

إن تلك الطريقة و هذا المقياس لم يصمد أمام امتحان الزمن فالاتحاد السوفييتي انهار و النظرية التي أنتجت تلك الطريقة اهتزت و أصبحت موضع شك و مراجعة حتى لدى مناصريها و محازبيها . إننا نرى بأن مقولة الاشتراكية ليست إنتاج فلسفة معينة لوحدها من الناحية الأيديولوجية أو صناعة دولة واحدة فقط من الناحية السياسية بل هي مقولة إنسانية نشأت مع احتداد مشكلة الفقر و الغنى و قد استهدفت حل هذه المشكلة أو التخفيف منها عن طريقين اثنين :

  • الوفرة في الإنتاج.
  • و العدالة في التوزيع .

 الدكتور محمد توفيق سماق