العرب والشكوى من الأحادية الدولية كل عربي مدين للعالم بــ 608 دولارات !! ـــ المقال رقم / 57/

صحيفة تشرين – دمشق – سورية

العدد : 7359 تاريخ  3/1999/ 15

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وتحول عالم اليوم إلى عالم أحادي الهوية مركزي النزعة تنفرد على القمة فيه قوة عظمى وحيدة هي الولايات المتحدة الأمريكية ، تحولت الشكوى من آثار ونتائج هذه الأحادية إلى سمة ملازمة للخطاب الفكري العربي . وكي لا تتحول هذه الشكوى من سمة ملازمة إلى عادة مستحكمة ، آسرة لتفكيرنا كابحة لحركتنا ، ربما كان من الضروري تناول حالة الأحادية هذه من جوانب أخرى غير الشكوى ، وتحديداً من جانبين :

لماذا هذه الأحادية وهل هي مرشحة للاستمرار ؟ لماذا الشكوى وهل من سبيل للفكاك من أسرها ؟ في سياق الإجابة على كلا السؤالين يمكن توضيح الآتي:

غياب الاتحاد السوفيتي : كما هو معروف لم يستطع الاتحاد السوفيتي تشكيل قوة توازن اقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر عصوره ازدهاراً وتطوراً . ففي أواخر السبعينات ، وهي من فترات الازدهار في العصر السوفيتي بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفيتي 1067 بليون دولار أمريكي عام 1979 بينما بلغ ناتج الولايات المتحدة الأمريكية 2639 بليون دولار أمريكي عام 1980 ، أي أن حجم الاقتصاد السوفيتي شكل نحو 40% من حجم الاقتصاد الأمريكي في تلك الفترة . ومع ذلك استطاعت القوة العسكرية السوفيتية تشكيل توازن عسكري قلق مع القوة العسكرية الأمريكية ، وبغياب الاتحاد السوفيتي غاب هذا التوازن وانفردت الولايات المتحدة على قمة العالم كما أوضحنا سابقاً .

حقائق القوة السائدة حالياً : على الرغم من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية العديدة التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية ( ارتفاع معدلات الجريمة ، المخدرات ، البطالة ، المديونية الحكومية الداخلية ..) تظل عوامل تفوقها واضحة ، تؤكد حضورها في مختلف المجالات . ففي :

المجال الاقتصادي : بلغ إجمالي ناتج الولايات المتحدة المحلي في عام 1995 قرابة 7100 بليون دولار أمريكي شكل نحو 26% من الداخل العالمي في العام نفسه . وهذا يعني أن حجم ناتجها  قد فاق إجمالي الناتج المحلي المجموع لألمانيا وفرنسا وبريطانيا والبالغ 5886 بليون دولار أمريكي  بــ 1214 بليون  عام 1995 ، كما زاد عن الناتج المحلي الإجمالي لليابان ( 4964 بليون دولار أمريكي في عام 1995 ) بــ 2136 بليون. واحتلت المرتبة الأولى في الصادرات بين دول العالم في العام نفسه ، إذ بلغ حجم صادراتها 585 بليون دولار أمريكي شكلت 12% من إجمالي الصادرات العالمية في ذلك العام ( بينما شكلت الصادرات الألمانية 10,4% ، واليابانية 9% من إجمالي الصادرات العالمية ).

المجال العسكري: هي القوة العسكرية الأولى في العالم ، ففي عام 1995 بلغت نفقات الدفاع المعلنة في الولايات المتحدة 278 بليون دولار أمريكي ، وهذا يعني أن إنفاقها العسكري المعلن قد زاد         عن مجموع الإنفاق العسكري لبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا البالغ 144 بليون دولار أمريكي        بـــ 134 بليوناً في العام نفسه ، كما بلغ 5,6 ضعف الإنفاق العسكري الياباني في ذلك العام .

مجال الفضاء : للولايات المتحدة السبق أيضاً في هذا المجال ، وقد كان وصول العربة الفضائية ( المستكشف) إلى سطح المريخ في عام 1997 أحد أهم معالم ذلك السبق:

تأسيساً على ما سبق يمكن القول بأن عوامل تفوق الولايات المتحدة حالياً واضحة تؤكدها الوقائع وتدعمها البيانات ، فسواء الاتحاد الأوروبي أو اليابان مازالا غير مؤهلين اقتصادياً وعسكرياً لأن يشكلا تهديداً جدياً للزعامة الأمريكية للعالم ، هذا مع افتراض وجود الرغبة لدى أوروبا واليابان لذلك.

وفيما يتعلق بالمستقبل فليس هنالك ما يمكن البناء عليه للاستنتاج بأن حالة التفوق الأمريكي مرشحة للأفول أو في طريقها للانحسار ، في المدى المرئي على الأقل.

أما بالنسبة لنا –  نحن العرب – فأغلب الظن أن شكوانا من الأحادية العالمية تعود في جذورها إلى نظرتنا الحالمة لطبيعة العلاقات الدولية ، فشكوانا تتمحور حول مقولة العدالة الغائبة في العلاقات الدولية ، وهذا صحيح إلى حد بعيد . لكن ما هو صحيح أيضاً هو أن العلاقات الدولية محكومة بموازين القوى وليس بموازين الأخلاق .

هذا ما هو سائد اليوم ، وأغلب الظن أن هذا ما سيظل سائداً في المستقبل ، وميزان القوة هذا هو الميزان الذي كان سائداً في الماضي ، فالعدالة كما قال الشيخ محمد عبده – منذ نحو مئة عام – هي تعادل القوى ، فإذا كنا نريد عالماً أكثر عدلاً ، علينا أن نسعى لأن نكون أكثر قوة فالظلم والشكوى وجهان لحالة واحدة هي الضعف . لكن هل هذا الضعف قدر لا فكاك منه ، وهل تلك الشكوى نشيد أبدي لا مفر من ترديده . واقع الحال يقول بخلاف ذلك إذا أحسنا توظيف مكامن القدرة         واستثمار مواضع القوة لدينا ، وهي بلا شك كثيرة ( طاقات بشرية ، نفط ، فوائض مالية ، امتداد جغرافي ، موروث حضاري ، ..) وقد قيل وكتب في ذلك الكثير بحيث يبدو الحديث عن مكامن قوتنا نوعاً من الترداد أو نوعاً من التكرار لن يضيف جديداً ذا أهمية . مع ذلك لم يتغير واقع الحال كثيراً ، فالبيانات المتوافرة عن الحالة العربية ترسم لوحة سيريالية ، قد تستعصي على الفهم ، تتداخل فيها ألوان التبعية والفقر بملامح الغنى أحياناً والثراء الأسطوري أحياناً أخرى ، ومما تقوله تلك اللوحة الآتي:

التبعية : في أواسط التسعينات كان كل مواطن عربي يستورد في المتوسط ما قيمته 342 دولار أمريكي من السلع الصناعية ، و 90 دولار من السلع الغذائية ، لسد احتياجاته الأساسية من كلتا المجموعتين السلعيتين . وفي الفترة نفسها كان كل مواطن عربي مديناً للعالم الخارجي بــ 608 دولار أمريكي.

الغنى والفقر: تقول إحدى الدراسات التي أعدتها شركة ميريل لينش المصرفية العالمية ، بأنه في أواسط التسعينات كان في دول مجلس التعاون الخليجي الست 185000 شخص تزيد الثروة الشخصية لكل منهم عن 1 مليون دولار أمريكي ويبلغ إجمالي ثرواتهم الشخصية 718 بليون دولار أمريكي ( 1,2 ضعف دخل الوطن العربي عام 1996 و 4,6 ضعف مديونيته للعالم الخارجي عام 1995 ) كما أن بعض التقديرات العربية المصدر تشير إلى أن نسبة الـــ 5% الأغنى من سكان معظم الدول العربية تحظى بـــ 40% من الدخل فيها . من جهة أخرى تشير بيانات تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 1994 إلى أن 26,5% من سكان   ( تونس ، والأردن ، والجزائر ، ومصر ، والمغرب ، والصومال ) كانوا في عام 1992 يعيشون في حالة فقر أو بؤس ، وغني عن القول بأن مستوى حياة مواطني الدول العربية الأخرى ليس أفضل بكثير من مستوى حياة مواطني الدول المشار إليها آنفاً.

البيانات السابقة وغيرها مما يمكن إيراده في هذا السياق تبين بوضوح بأن العدالة العربية ليست أفضل حالاً من العدالة الدولية ، وربما كانت العدالة الغائبة في الواقع العربي من أبرز الأسباب التي استدعت العدالة الغائبة في العلاقات العربية الدولية ، فبغياب العدالة يبقى الحديث عن توظيف مكامن القدرة لدى الأمم واستثمار مواضع القوة لدى الشعوب نداء بلا صدى ومسرحاً بلا جمهور . فالغرب الذي فرض على العالم عدالته التي نشكو منها اليوم ، لم يستطع أن يفعل ذلك إلا بعد أن أنجز         بالأمس عقداً اجتماعياً جديداً يتيح مستوى مرضياً من الشراكة في السلطة والثروة بين طبقات  مجتمعاته وفئاتها.

فهل استبدلنا الرجاء بالأمل والشكوى بالعمل لتوسيع دائرة الشراكة في مجتمعاتنا؟

ربما كانت الشراكة هي الشرط المنسي لتوظيف مكامن قدرتنا واستثمار مواضع قوتنا ، مما يمكننا من استحضار العدالة عربياً ويؤهلنا لاستحضارها في علاقاتنا الدولية .

فالمشكلة لا تكمن فقط في قوة الآخرين ، بل أيضاً في ضعفنا نحن!

 

 

الدكتور محمد توفيق سماق