القطاع العام الصناعي و اقتصاد السوق ـــ المقال رقم /45/

مجلة الأموال – السعودية

العدد :1- تاريخ:11/1996

يتكون الاقتصاد السوري من ثلاثة قطاعات هي :  القطاع العام والقطاع المشترك  والقطاع الخاص . يأتي هذا التقسيم تحت ما يعرف بالتعددية الاقتصادية . وتعمل سورية على تطوير هذه التعددية من خلال تفعيل دور القطاع العام و إتاحة الفرصة للقطاعات الأخرى بأن تمارس أدواراً مكملة لدور القطاع العام . فهنالك العديد من قطاعات التنمية يصعب على القطاع الخاص تحمل أعباء النشاط الاقتصاد فيها ، أو أنها لا تدخل ضمن نطاق اهتماماته أصلاً بسبب ارتفاع تكاليفها الاستثمارية ، أو انخفاض أو ربما انعدام عوائدها المباشرة . من هذا المنطلق تكفل التعددية الاقتصادية التشجيع لسائر القطاعات ، وتعمل  على تفعيل دور القطاع العام .  لكن كيف يمكن تفعيل هذا الدور؟ هل يستطيع القطاع العام الصناعي  في سورية التعايش مع قوانين السوق ؟  في هذا الجزء من الملف الاقتصادي ، سوف نسلط الضوء على هذا الجانب المهم مع التركيز   على بعض القضايا المحورية ذات العلاقة بالقطاع العام.

هيكل القطاع العام الصناعي

تقسم الصناعة السورية تبعا لنشاط قطاعاتها الإنتاجية ووفق نظام التصنيف العالمي للنشاط الاقتصادي الموضوع من قبل الأمم المتحدة إلى:

  • الصناعات الاستخراجية : تضم النشاطات الصناعية المتعلقة بالتعدين واستخراج النفط .
  • صناعة الماء والكهرباء: تشمل جميع النشاطات الصناعية المتعلقة بتخزين المياه وتوزيعها، وكذلك النشاطات المتعلقة بتوليد ونقل وتوزيع القدرة الكهربائية .

ج-  الصناعات التحويلية : تضم جميع النشاطات الصناعية غير المشمولة بالصناعات الاستخراجية وصناعة الماء والكهرباء ، بالتالي فهي تضم عدداً كبيراً من الأنشطة الصناعية ، لكن لغايات التصنيف الإحصائي يقسم قطاع الصناعات التحويلية إلى تسع مجموعات حسب   نشاطها الإنتاجي:

  • صناعة المواد الغذائية و المشروبات و التبغ.
  • صناعة الغزل و النسيج و الحلج و الجلود.
  • صناعة الخشب و الموبيليا و الأثاث.
  • صناعة الورق و منتجاته و الطباعة.
  • الصناعات الكيماوية و منتجاتها و تكرير البترول.
  • صناعة المنتجات غير المعدنية.
  • الصناعات المعدنية الأساسية .
  • صناعات المنتجات المعدنية المصنعة.
  • صناعات متنوعة أخرى.

الناحية التنظيمية

بقيت حتى قيام وزارة الصناعة ( بموجب المرسوم /٢٤  / تاريخ 29/4/1958 م ) ، عدة جهات حكومية تتولى الإشراف على قطاع الصناعة التحويلية ، أهمها كان وزارة الاقتصاد . بعد قيام وزارة الصناعة عهد إلى الوزارة الجديدة مهام الإشراف و التوجيه و الرقابة على جميع السياسات المتعلقة بقضايا التصنيع على الصعيد الوطني ، لكن ذلك لم يلغ وجود بعض منشآت الصناعات التحويلية الحكومية التي تتبع من الناحية الإدارية وزارات أخرى غير وزارة الصناعة . و تتوزع حالياً أهم المؤسسات الحكومية المملوكة من قبل الدولة و العاملة في مجال الصناعة التحويلية، على النحو التالي:

وزارة الصناعة: المؤسسة العامة الغذائية – المؤسسة العامة للسكر- المؤسسة العامة للصناعات النسيجية – المؤسسة العامة للصناعات  الهندسية – المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية – المؤسسة العامة للإسمنت – شركة الفرات لتصنيع الجرارات.

وزارة الاقتصاد: المؤسسة العامة للتبغ – المؤسسة العامة لحلج  و تسويق الأقطان .

وزارة النفط والثروة المعدنية: شركتا تكرير النفط حمص وبانياس   ( مصفاة حمص ومصفاة بانياس).

وزارة التموين والتجارة الداخلية: المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب.

علماً بأن كلاً من المؤسسات السابقة تضم مجموعة من الشركات العاملة  في مجالها أو الفروع التابعة لها.

التوسع الصناعي

شهد قطاع الصناعات التحويلية خلال فترة السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات توسعاً كبيراً خاصة خلال سني الخطة الخمسية الرابعة  1976-1980 م .  شكلت الاستثمارات الحكومية الموظفة في هذا القطاع خلال الفترة ١٩٧١-١٩٨٥ م نحو ٢٥ مليار ليرة سورية تبلغ ١٨ % من إجمالي الاستثمارات الحكومية الموظفة في الاقتصاد الوطني والمقدرة بنحو ١٤٢ مليار ليرة سورية خلال نفس الفترة . من أبرز التحولات البنيوية التي شهدها قطاع الصناعة التحويلية ككل، ومنه القطاع العام، خلال تلك الفترة تراجع دور الصناعات التقليدية من غذائية وغزل ونسيج في نشاط الصناعة التحويلية مع نمو مرافق لدور بعض الصناعات غير التقليدية كالصناعات الكيماوية بما في ذلك تكرير النفط . فمساهمة الصناعات الغذائية وصناعة الغزل والنسيج في قيمة إنتاج قطاع الصناعة التحويلية العام تراجعت  من ٦٩ % في عام ١٩٧٤ إلى ٥٣ % عام ١٩٨٥م.

في الفترة التي تلت نهاية الخطة الخمسية الخامسة ، استمرت الدولة  في تطوير قطاع الصناعات التحويلية لكن بوتائر أقل من الماضي. فمثلاً خلال الأعوام ١٩٨١-١٩٨٥ م ازداد المجموع التراكمي لرؤوس الأموال المستثمرة في مؤسسات القطاع العام الصناعي   من نحو ٢٩,٣ مليار ليرة سورية في السنة الأولى إلى حوالي ٥٩،٦ مليار ليرة سورية في السنة الأخيرة ( معدل نمو وسطي بلغ  ١٩،٤ % سنوياً ) ، بينما ارتفع هذا المجموع إلى نحو ٨٣،٢ مليار ليرة سورية بنهاية عام  ١٩٩٢ م (معّدل نمو وسطي بلغ ٤،٨٨ % سنوياً فقط).

عودة إلى النشاطات التقليدية

كان للمشاكل التي رافقت توسع قطاع الصناعات التحويلية الحكومي     من زيادة كبيرة في المستوردات لتلبية حاجة هذا القطاع من مستلزمات الإنتاج وتدني مستوى الكفاءة في استثمار وتشغيل منشآته أثراً هاماً على دفع دوائر القرار الاقتصادية لإجراء مراجعة موسعة للسياسات التنموية في الاقتصاد السوري أدت إلى الانعطاف باتجاه قطاع الزراعة ،  حيث أعطت الزراعة أولوية نسبية فيما يتعلق بتخصيص الموارد و توظيف الاستثمارات على الصناعة . كما أنه جرى إعادة ترتيب لأولويات التطوير والتوسع ضمن قطاع الصناعة التحويلية العام ، حيث أوليت النشاطات التقليدية من غذائية نسيجية مجدداً اهتماماً أكبر من الفترة السابقة  ( منذ أواسط السبعينيات وحتى أواسط الثمانينيات )  وقد انعكس ذلك في تنامي دور الصناعات التقليدية في نشاط الصناعة التحولية ككل   ( عام وخاص ) . ففي القطاع العام التحويلي ازدادت مساهمة الصناعات الغذائية والنسيجية من ٣٤٪ في عام ١٩٨٥ إلى ٥٦٪ في عام ١٩٩٢ م وتراجعت مساهمة الصناعات الكيماوية من٥٣٪ إلى ٣٢٪ خلال نفس الفترة.

و لإعطاء فكرة أوضح عن أداء قطاع الصناعة التحويلية العام يوضح الجدول رقم ١ تطور مؤشرات الأداء لهذا القطاع .

تطور بعض مؤشرات الأداء في قطاع الصناعة التحويلية العام جدول رقم ( 1 )
البيان 1975 1980 1992 1993
قيمة إنتاج القطاع العام الصناعي (مليون ليرة سورية) 3506 9102 77121
نسبة من الإنتاج الإجمالي للاقتصاد الوطني 11,4% 11% 12,3%
قيمة ناتج قطاع الصناعة التحويلية(مليون ليرة سورية) 1253 3715 12592
نسبة من إنتاج القطاع العام الصناعي 49% 58% 57%
قيمة صادرات القطاع العام الصناعي (مليون ليرة سورية) 619 2252 3100
     نسبتها من إجمالي الصادرات الوطنية 18% 27% 8,8%
نسبة صادرات قطاع الصناعة التحويلية من صادرات القطاع العام الصناعي 69% 82,5% 40,3%
قيمة واردات القطاع العام الصناعي (مليون ليرة سورية ) 4087 8414 17050
نسبتها من إجمالي الواردات الوطنية 66% 52% 37%
نسبة واردات قطاع الصناعة التحويلية من واردات القطاع   العام الصناعي 74% 70% 40%
عدد المشتغلين في القطاع العام الصناعي 63158 79038 102700
نسبتهم من إجمالي قوة العمل في البلاد 3,4% 3,6% 2,9%
المصدر : المجموعات الإحصائية الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء

ومن دراسة تلك المؤشرات يمكننا استخلاص مجموعة من النتائج ، أبرزها:

أ – سجلت القيم المطلقة للمؤشرات المدروسة ( الإنتاج – الناتج – قيمة الصادرات – قيمة الواردات – عدد المشتغلين ) تطوراً إيجابياً مطرداً  منذ أواسط السبعينيات وحتى نحو أواسط التسعينيات.

ولاشك في أن ذلك يوحي بتوسع وتنوع القاعدة الإنتاجية في هذا القطاع خلال فترة الدراسة، وهذا ما يمكن أن يحسب لقطاع الصناعة   التحويلية العام.

ب – يحسب على هذا القطاع :

  • التزايد المستمر لقيمة استهلاكاته الوسطية خلال الفترة ١٩٨٠-١٩٩٢ م وبالتالي انخفاض القيمة المضافة لنشاطه الاقتصادي من٤١٪ في عام ١٩٨٠ م إلى ١٦٪ في عام ١٩٩٢ م .
  • التنامي المطرد لقيمة وارداته خلال الفترة ١٩٧٥-١٩٩٣ م بأكثر  من أربعة أضعاف.
  • انخفاض نسبة صادرات هذا القطاع إلى وارداته من نحو ٢٧٪ في عام ١٩٨٠ م إلى نحو ١٨٪ في عام ١٩٩٣ .

ج – بالنسبة لدور هذا القطاع في الصناعة التحويلية السورية وفي الاقتصاد   الوطني ككل، فالمؤشرات المدروسة توحي بتنامي دور هذا القطاع خلال الفترة  ١٩٧٥-١٩٨٠ م. ويمكن تفسير ذلك بالجهود المبذولة من قبل الحكومة لتطوير هذا القطاع كماً ونوعاً خلال سني الخطة    الخمسية الرابعة.

د-  منذ عام ١٩٨٠ م وحتى نحو أواسط التسعينيات، جميع المؤشرات المدروسة( باستثناء نمو طفيف في قيمة الإنتاج بلغ ١،٣٪ بين عامي ١٩٨٠-١٩٩٢ م)  توحي بتراجع دور هذا القطاع في كلا النشاطين، الصناعة التحويلية والاقتصاد الوطني ككل، ويمكن تفسير هذا التراجع بعدد من العوامل، منها :

  • انعطاف السياسات التنموية في سورية منذ أواسط الثمانينات باتجاه الزراعة كما أشرنا سابقاً .
  • الصعوبات والمشاكل الذاتية والموضوعية التي يعاني منها قطاع الصناعة التحويلية العام .

تأسيسا على ما تقدم، يمكننا القول بأن استراتيجية العولمة ( أو العالمية ) ونهج الانتقال إلى اقتصاد السوق يطرحان على المهتمين بالشأن الاقتصادي ( من دوائر قرار وباحثين ) سؤالاً محوريا قابلاً للتلخيص بالتالي:

هل يستطيع القطاع العام الصناعي في سورية التعايش مع مناخ المتغيرات العالمية السائدة وظروف التطورات المحلية الجارية ؟

وبصياغة أخرى :

هل يستطيع هذا القطاع التعايش مع قوانين السوق ؟

بصرف النظر عن العواطف الشخصية الإيجابية تجاه القطاع العام ككل والقطاع الصناعي ذي الدور التاريخي على وجه الخصوص،  فإن الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن الإجابة بنعم أو لا ليست يسيرة كما يبدو للوهلة الأولى ، وأغلب الظن أن الإجابة بنعم مرتبطة إلى حد كبير بقدرة هذا القطاع  على التكيف مع المناخ الجديد السائد في السوق   ( الداخلية منها والخارجية ) . يجدر التوضيح هنا بأن للتكيف مقتضيات وهي باختصار العمل على إجراء مراجعة موسعة للسياسات الموجهة لنشاط هذا القطاع وكذلك للآليات الحاكمة لعمله الاقتصادي . هنالك العديد   من القضايا التي نعتقد بوجود ضرورة ملحة لأن تتناولها أية مراجعة  جادة منها :

سياسات التصنيع – القواعد الحاكمة للإدارة – أسلوب التخطيط – الأنظمة والتشريعات- السياسات المالية – الرقابة والتفتيش – المواد البشرية -المستوى العلمي والتكنولوجي- أنظمة ضبط الجودة ومراقبتها …..  وغير ذلك . لضيق المجال سوف نسلط الضوء و بشكل مختصر   على القضايا الثلاث الأولى فقط لاعتقادنا بأنها الأكثر إلحاحاً في  المرحلة الراهنة :

أ- سياسات التصنيع : اعتمدت سياسات التصنيع في سورية ولازالت    على الحماية و الدعم كحجر زاوية في تطوير قطاع الصناعة . إن الوضع الجديد الناشئ على الصعيدين المحلي و العالم يستدعي إجراء مراجعة موسعة لهذه السياسات بهدف إعادة رسمها على أساس زيادة القدرة التنافسية للصناعة السورية وفي مختلف القطاعات ( عام خاص ومشترك)  بدلاً    من الرهان على الحماية و الدعم ووسائلهما المعهودة ، ذلك سيؤدي بالضرورة إلى توجيه عملية التصنيع نحو النشاطات الصناعية التي يملك  فيها ميزة نسبية كالصناعات النسيجية والفدائية والإسمنت ، حيث نملك    في هذه الأنشطة ميزة توفر جزءاً هاماً من مواردها الأولية محلياً بالإضافة إلى ميزة أخرى وهي توفر يد عاملة خبيرة  نسبياً .  كذلك من المفيد الإشارة في هذا السياق إلى ضرورة عدم التوسع في الصناعات السريعة التطور  كالصناعات الإلكترونية – صناعة مكونات أجهزة المعلومات التي تتطلب خبرات علمية وتقنية رفيعة المستوى نظراً للقفزات الهائلة والسريعة التي تشهدها هذه الصناعات على الصعيد العالمي حاليا وتجنباً للدخول في منافسة مع منتجين عالميين على درجة عالية من الخبرة والعراقة .

إذ أن الدخول في منافسة كهذه ضرب من عدم الواقعية من جهة وهدر لموارد التنمية وإمكانياتها من جهة أخرى.

ب-  القواعد الحاكمة للإدارة : مع بداية مرحلة التأميم في سورية وتوسع ملكية الدولة ونشوء قطاع عام فعال وكبير عهد إلى الأجهزة البيروقراطية القائمة بإدارة القطاع العام في وقت لم تكن فيه تلك الأجهزة مؤهلة لممارسة مسؤولية من هذا النوع تمكنها من إدارة ملكية الدولة بشكل اقتصادي.

مع مرور الزمن تراكم لدينا في مجال إدارة ملكية الدولة عدد من القواعد غير السليمة القائمة على مبدأ الوصاية الشاملة للمالك أو من يمثله  من جهات سياسية وتنفيذية على الإدارة بدءاً بالتخطيط وانتهاء بالعديد    من الجوانب التفصيلية للعملية الإدارية.  على مدى ما يزيد عن ربع قرن عمل العديد من الأجهزة البيروقراطية النافذة في مجال الإدارة الاقتصادية على ترسيخ هذه القواعد مستخدمة لذلك كل الوسائل والسبل المتاحة.  والمتفحص لآلية العمل الإداري لدينا يجد أن أهم أدواته من أنظمة وتشريعات ورقابة وتفتيش وسياسات مالية وماشابه ذلك تؤكد مبدأ الوصاية هذا   في مختلف المجالات . من أوضح النتائج العملية لممارسة الإدارة وفق هذه القواعد تعدد الجهات التي تعتبر بحكم التشريع أو تعتبر نفسها بحكم الواقع وصية على عمل القطاع العام دون أن تكون مسؤولة عما يحققه من نتائج ، بحيث أصبحت الصلاحية تمارس بشكل جماعي ومن جهات متعددة ، أما المسؤولية فمحدودة وأحياناً فردية تتحملها في الغالب الحلقة الأضعف  في الجهاز الإداري . لقد أدى ذلك إلى خلل بيّن في المعادلة الضرورية لتطوير كفاءة الأداء الاقتصادية في القطاع العام ، ألا وهي معادلة التوازن بين الصلاحية والمسؤولية . إن حالة خلل التوازن هذه التي تعيشها إدارة القطاع العام قد أفرزت العديد من النتائج أهمها :

–  الهروب من تحمل المسؤولية بحيث أصبح تجيير المسؤولية هو القاعدة والتصدي لها هو الاستثناء .

–  عجز الموقع الإداري عن اتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب .

–  البحث عن الحماية في النصوص والتعليمات الإدارية من جهة ولدى الجهات المعنية بالمساءلة من جهة أخرى ، مما عقد الإجراءات الإدارية وأسهم بشكل كبير في انتشار وتعميم الروتين وتسليط الأسلوب البيروقراطي على العمل ودفع بالكثيرين من شاغلي المواقع الإدارية لممارسة الولاء الشخصي للمستويات الوظيفية الأعلى، وبطبيعة الحال كل ذلك على حساب العمل والإنتاج .

تلك النتائج كانت من أهم مدخلات آلة الكبح الحاكمة حاليا لكثير من جوانب العملية الاقتصادية في سورية . إن آلية الكبح هذه تنتج وتراكم الأزمات والمشاكل في اقتصادنا الوطني منذ زمن طويل .

العلاقة بين المالك والإدارة

لقد دلت تجارب العديد من الدول المتقدمة والنامية على أن تحرير ملكية الدول من قيود الوصاية وكوابح السيطرة يقتضي ضرورة التخلي التدريجي عن مبدأ وصاية المالك على الإدارة وصولاً إلى الأخذ بالمبدأ القائل بالفصل بين المالك والإرادة . إن الأخذ بهذا المبدأ واعتماد آلية إدارية جديدة تقوم على أساسه يستلزم أمرين أساسيين :

– التحديد الدقيق للشخصية الاعتبارية التي تمثل الدولة في ملكيتها ( وزارة ، مؤسسة ،….أو غيرها ) ، بحيث تكون هي الجهة الوحيدة المخولة بالتعامل مع الغير فيما يتعلق بشؤون وقضايا هذه الملكية.

– تنظيم العلاقات بين الطرفين المالك والإدارة بشكل عقدي ، وليس كما هو  قائم حاليا بشكل أوامر فوقية .

فالعلاقة العقدية الجديدة ينبغي أن تكفل حقوق كلا الطرفين و توضح واجباتهما على أن تنظم وفق مجموعة من التشريعات تضعها الدولة مسبقاً لهذه الغاية . في نهاية كل دورة إنتاجية تجري عملية تقييم لمستوى الأداء بحيث يكون الهدف الاقتصادي المنصوص عليه عقدياً أساس التقييم وغايته. وغني عن القول أن الكادر الإداري الذي سيتولى ممارسة العملية الإدارية على الأساس المشار إلية آنفاً ، يجب أن يكون متناسباً وحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه من حيث الخبرة والكفاءة والمقدرة على تحمل المسؤولية وممارسة الصلاحية . إن تحقيق ذلك يقتضي بالضرورة التأكيد على اعتماد الأسس الموضوعية في اختيار الإدارات بعيداً عن الاعتبارات الشخصية والانتماءات الأخرى المختلفة وذلك ما هو معتمد في الدول الصناعية المتقدمة وهو ما يجري الأخذ به حالياً وبأشكال مختلفة في الدول الأقل نمواً . لقد جاء المرسوم (٢٠ ) لعام ١٩٩٤م المتعلق بمنشآت القطاع العام ذات الطابع الاقتصادي معدلا للمرسوم (١٨) لعام ١٩٧٤ م الناظم لعمل هذه المؤسسات ضمن سياق التطوير، لكن يبقى السؤال الهام:

هل استطاع فعلا المرسوم (٢٠) أن يلبي حاجة القطاع العام للتطور ؟    وهل هو كاف لإحداث النقلة المرجوة لمستوى كفاءة الأداء في القطاع   العام الاقتصادي ؟

ج- أسلوب التخطيط: التخطيط أداة رئيسية لإدارة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلد ما. ونظراً لاختلاف الظروف بين بلد وآخر وكذلك بين مرحلة تطور وأخرى بالنسبة للبلد الواحد ، فإن مستوى كفاءة أساليب التخطيط وبالتالي مردود الخطط بأكملها يعتمد إلى حد بعيد على الإدراك الدقيق للظروف الموضوعية للبلد المعني بالخطة وسمات المرحلة التي يراد التخطيط لها . تأسيسا على ذلك ، فإن مرحلة التطور التي بلغها الاقتصاد الوطني السوري ، وخاصة توسع نشاطات قطاعاته المتعددة عام، خاص، مشترك ، وتعاوني ، بفعل التعميق المتزايد  لنهج التعددية الاقتصادية ، يقتضي ضرورة تطوير أساليب التخطيط المألوف سابقاً لدينا ، بحيث نصل إلى تحقيق صلة وثيقة بين الخطة والسوق ( الداخلية والخارجية ) .

إن الأمر الجوهري في ذلك هو إيجاد الصيغ العملية التي تحقق عملية الربط المنشودة تلك . ونقترح في هذا المجال اعتماد التوجه الأساسي التالي عند وضع خطط الدولة وتنفيذها:

–  يعهد إلى هيئة تخطيط الدولة بإعداد الدراسات المتضمنة التنبؤات والتقديرات عن التطور الاقتصادي في الأمد الطويلة وذلك على قاعدة   من المعلومات الدقيقة والمتجددة المبنية على إحصاءات سليمة ودورية.

–   بعد ذلك تقوم هيئة تخطيط الدولة بإعداد الخطط ذات الأجل المتوسط (خمس سنوات ) تقدم فيها تقديراتها الأولية عن النمو الممكن للاقتصاد الوطني خلال هذه الفترة ، وتعتبر هذه  الخطة الخمسية ذات طايع إرشادي توجيهي بشكل عام مع استثناءات إلزامية بالنسبة لبعض المؤشرات المتعلقة بتوجهات         أو منتجات ذات طابع استراتيجي .

–   تقوم إدارة المؤسسات والوحدات الاقتصادية بوضع خططها السنوية الفرعية الخاصة بها وكذلك البرامج التنفيذية لها في ضوء توجهات الخطة الخمسية العامة للدولة بالتنسيق مع المالك وهيئة تخطيط الدولة ، بما يحقق استغلال الطاقات المتاحة بهدف الوصول إلى نسبة النمو المقررة ، على أن يترك للإدارة التكيف بنوع الإنتاج حسب متطلبات السوق .

–   تستمر هيئة تخطيط الدولة في مراقبة التطور الاقتصادي ومتابعة سير الخطة الخمسية مع الخطط السنوية للمؤسسات والوحدات الاقتصادية  عند ظهور التباين بين الخطة و الواقع يتوجب التحليل والتدارك .

إن الأخذ بهذا النهج ينطلق من اعتبار المؤسسات والوحدات الاقتصادية      التي تقوم بعملية الإنتاج هي الأكثر قدرة على كشف وتوظيف جميع الإمكانيات المؤدية إلى زيادة المردود وتحسين الإنتاج بما ينعكس تطوراً مستمراً لأساليب عمل الإدارات المعنية ، ويؤدي بالتالي إلى رفع مستوى كفاءة الأداء الاقتصادي الوطني ككل . جملة القول إنه من معاني المتغيرات العالمية المتلاحقة والتطورات المحلية الجارية تحريض القطاع العام  على التنافس فهل سنساعده على ذلك ؟ وكيف ؟

القطاع العام واقتصاد السوق

على الرغم من الأهمية البالغة لمعالجة المشاكل السابقة في تحسين قدرة القطاع على التنافس وبالتالي تحسين فرص تعايشه مع قوانين العرض والطلب في مناخ حرية الأسواق ، إلا أن كل ما سبق لا يعالج إلا جانباً واحداً من القضية و هو الجانب المتعلق بقدرة القطاع العام على التعايش   مع اقتصاد السوق ومستلزمات ذلك . أما الجانب الآخر فقابل للتلخيص   بالسؤال التالي :

ما هو استعداد اقتصاد السوق لتقبل القطاع العام؟ وماهي احتمالات ذلك؟

لضيق المجال لن نفصل في هذه القضية وإنما سنشير إلى بعض جوانبها باختصار شديد حيث يمكن القول في هذا السياق:

إذا بقي حال العالم كما هو اليوم أحادي الهوية ، مركزي النزعة ، أو تطور في هذا الاتجاه مستقبلاً فالولايات المتحدة الأمريكية زعيمة النظام العالمي الجديد حريصة كما قال ريتشارد نيكسون الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية على أن تصنع قرناً أمريكياً آخر وهي في ذلك ستسعى لكسب ما يسميه نيكسون معركة انتصار الحرية بعد أن أنجزت في القرن العشرين وبنجاح معركة هزيمة الشيوعية كما يصف الرئيس الأسبق في كتابه     (أمريكا والفرصة التاريخية ) نتائج الحرب الباردة .

لاشك في أن أولى الحريات التي تريد أمريكا توسيع نطاقها وإزالة الحواجز من أمامها على الصعيد العالمي هي حرية الأسواق. فما هي القدرة الواقعية لأغلب القطاعات الاقتصادية الحكومية في دول الجنوب على التكيف  مع حرية الأسواق على الطريقة الأمريكية؟ و ما هو استعداد أجهزة النظام الجديد خاصة أجهزته الحاكمة للاقتصاد العالمي من بنك دولي وصندوق نقد دولي ومنظمة تجارة عالمية لتقبل هذه القطاعات حتى لو حاولت التكيف؟  ذلك ما يمكن أن تجيب عنه متابعة حركة التغيير في هذا العالم واتجاهاتها .

 

الدكتور محمد توفيق سماق