تحول الغات من اتفاقية إلى منظمة ـــ المقال رقم /28/

صحيفة البعث –  دمشق ــــ سورية      

العدد :9617 –   تاريخ: 26/12/1994  .

مع مطلع عام 1995 تتحول الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة الغات من اتفاقية إلى منظمة عالمية للتجارة ، هذا التحول لا يتعلق بالتسمية فقط بل بالمضمون وهذا هو الأهم ، فارتقاء الغات من مستوى الاتفاقية إلى مستوى المنظمة العالمية يطرح عدداً من القضايا الهامة بعضها يظهر فيه أثر التحول بشكل واضح ومباشر كقضية التجارة العالمية والبعض الآخر بشكل غير مباشر كقضية التنمية والسيادة .. وغير ذلك مما يتطلب من الدول القطرية الإعداد المناسب للتعامل معها ، ومن هذه القضايا:

  • تدويل التجارة العالمية:

حتى الآن كانت السياسات المتعلقة بالتجارة العالمية تعالج بين دول العالم بشكل ثنائي أو من خلال اتفاقيات متعددة الأطراف.

فاتفاقية الغات نفسها بدأت بـــ 23 دولة عام 1947 وانتهت مع اتفاق مراكش 1994 بتوقيع حوالي 120 دولة على نصوصها ، ومع ذلك لم يكن لها من وجهة نظر القانون الدولي أي وضع خاص يخولها التعبير عن إرادة المجتمع الدولي بشأن التجارة العالمية . ما يتم الاتفاق عليه من خلال الغات أو غيرها من الاتفاقيات الدولية الأخرى المتعلقة بالتجارة تلتزم   به الأطراف المتعاقدة دون أن يكون للقبول به أو رفضه من قبل الآخرين أية دلائل قانونية  أو سياسية بالاقتراب أو الابتعاد عن الإرادة الدولية . أما مع إنشاء منظمة للتجارة العالمية يوكل إليها مهمة رسم السياسات العامة والتوجهات البعيدة المدى المتعلقة بهذا القطاع والإشراف على تطبيقها وامتلاك الأجهزة والوسائل الكفيلة بذلك ( التزامات متبادلة ، محكمة لفض النزاعات ، لجان متخصصة ، إمكانيات مادية ، كادر بشري مؤهل ومتفرغ …) مع وضع قانوني دولي كمنظمة متخصصة تتمتع بالاستقلال الذاتي من منظمات الأمم المتحدة ، فقد تبدل الوضع تبدلاً جوهرياً. فإنشاء المنظمة على هذا النحو يوحي بأن هنالك إرادة دولية لتنظيم وتوجيه التجارة بين دول العالم وشعوبه وفق قواعد نمطية جديدة ذات طابع عالمي مما يضعف من قدرة السلطات المحلية أو الدول القطرية ( الصغيرة منها بشكل خاص ) على صياغة سياساتها التجارية بشكل مستقل وبما ينسجم ومصالحها القطرية فقط.

فوفق أحكام الغات يجب أن تتحول جميع الحواجز والقيود غير الجمركية ( منع ، حصر ، تقييد ، حصص .. ) على التجارة العالمية إلى تعرفات ومن ثم فالتعرفات يجب أن تلغى بالنسبة لبعض القطاعات ( مثلاً قطاع النسيج والملابس على مدى العشر سنوات القادمة )وتخفض بالنسبة للبعض الآخر بنسبة 30% على حوالي 60% من السلع المصنعة على فترات زمنية متفاوتة .. وغير ذلك من الإجراءات الأخرى المتعلقة بتخفيض مستويات الدعم على المنتجات الزراعية وتحديد مستويات متدنية لدعم بعض الصادرات تمهيداً لإلغائها.

هذه الإجراءات وغيرها تخدم تحقيق الهدف البعيد المدى والمعلن للغات بخلق عالم بلا   حدود تجارياً. ذلك كله بالإضافة إلى الوضع القانوني الخاص الذي أعطي للمنظمة الجديدة يوحي وربما يؤكد صحة الاستنتاج القائل أن تحول الغات من اتفاقية إلى منظمة عالمية يحمل في طياته مؤشراً على البدء بنقل القضايا الأساسية والمتعلقة بالتجارة العالمية من ولاية الدولة القطرية  إلى ولاية السلطة العالمية أي ولاية النظام العالمي الجديد بأجهزته ومؤسساته وقواه الدولية الكبرى والفاعلة.

  • تدويل السياسات التنموية:

إن تنظيم التجارة الدولية وفق قواعد نمطية جديدة ذات طابع عالمي سيؤدي بشكل غير مباشر وربما تدريجي إلى تدويل مرافق لجزء لا يستهان به من السياسات التنموية للدول القطرية وخاصة في العالم النامي . فمعظم الدول النامية قامت برسم سياساتها التنموية وفق عدد من الأسس أبرزها:

  • الحماية: أي حماية الانتاج المحلي بأشكال متنوعة وصيغ مختلفة ومستويات متعددة ( تعرفات جمركية – رسوم – ضرائب – منع – حصر ..).
  • الدعم : أي دعم المنتج المحلي بالأسعار إما بهدف زيادة الإنتاج لتلبية احتياجات السوق المحلية أو لتشجيعه على التصدير إلى الأسواق الخارجية.

ومع دخول اتفاق مراكش مرحلة التطبيق وتحول الغات من اتفاقية إلى منظمة فإن كلا الأساسين قد اهتزا وأضحت إمكانية الاعتماد عليهما محدودة ومقيدة بإرادة دولية تعبر عنها المنظمة الوليدة أي منظمة التجارة العالمية .

  • تغير مفهوم السيادة:

أكد ميثاق الأمم المتحدة على الحق المتساوي لجميع دول العالم في السيادة وبالتالي حق كل دولة في اختيار نظامها السياسي ، الاجتماعي والاقتصادي وتطويره بما ينسجم ومصالح مواطنيها. وعلى الرغم من أن هذه النصوص وما شابهها لم تتغير في المواثيق الدولية حتى الآن إلا أن متابعة متفحصة لأسس وصيغ العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة وفي ظل ما يعرف بالنظام العالمي الجديد توحي بتبدلات جوهرية في مفهوم سيادة الدولة القطرية على الأرض والموارد والمصالح الخاصة بها مما يؤذن في حال استمرار الاتجاه العام لتطور العلاقات الدولية على هذا النحو بتغير جوهري في مفهوم السيادة بحيث تصبح محدودة    أو نسبية وليست تامة أو مطلقة.

فالاتجاه السائد حالياً يتمثل في العمل على نقل الاختصاص في معالجة أبرز القضايا السياسية والاقتصادية من ولاية الدولة القطرية وأجهزتها لتوضع في عهدة النظام العالمي الجديد وهيئاته المتخصصة. فبعد تنامي دور النظام العالمي الجديد وهيئاته في معالجة قضايا :

  • الأمن ، التسلح ، حقوق الإنسان ، البيئة عن طريق المؤتمرات والمعاهدات الدولية المتعددة كذلك بواسطة الهيئات المتخصصة كمجلس الأمن ووكالة الطاقة الذرية.
  • كذلك قضايا النقد والاستثمار عن طريق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

يأتي دور التجارة العالمية التي ستتولى رسم سياساتها العامة وتحديد توجهاتها الأساسية القوى الكبرى الفاعلة في النظام العالمي الجديد من خلال المنظمة التي نحن بصدد الحديث عنها.

تلك الوقائع وغيرها توحي بأن الحق في السيادة لم يعد مطلقاً بل نسبياً ومقدرة الدول على رسم سياساتها التنموية وصياغة علاقاتها الدولية في ظل النظام العالمي الجديد وهيئاته المتخصصة لم تعد محكومة بحدود المصلحة القطرية فقط بل أصبحت الدول مطالبة بأكثر من ذلك فهي مطالبة بالانسجام مع التوجهات العامة للنظام الجديد والتكيف مع مفاهيمه والتعبير عن مصالحها بلغته وإلا اعتبرت نشازاً وصنفت مع الخارجين عن قوانينه.

تأسيساً على ما سبق يمكن الاستنتاج أنه مع توقيع اتفاق مراكش وتحول الغات إلى منظمة عالمية للتجارة بدأ نظام تجاري دولي جديد بالتشكل له منعكسات اقتصادية وسياسية بالغة الأهمية وعلى الجميع تهيئة أنفسهم للتعامل معه.

بالنسبة للدول النامية فالنظام الجديد يضعها على مفترق طرق فخياراتها محدودة ، إما الرفض وبالتالي الانعزال وربما المواجهة مع الجزء الأهم والأقدر من العالم أي الجزء المنتج للتطور العلمي والتقدم التكنولوجي أو القبول وبالتالي التكيف مع نظام يعتقد كثيرون في الجنوب دولاً وأفراداً أنه غير عادل وغير منصف  ، لكلا الخيارين  ثمن يتوجب دفعه ولكل منهما كلفة ينبغي تحملها.

هنالك العديد من المهتمين بالشأن التنموي في دول الجنوب يحرضون على الرفض ويدعون إلى بديل يعتقدون أنه الأجدى للدول النامية وشعوبها وهو زيادة مستوى التنسيق والتعاون بين الدول وتكتيلها إن أمكن لمواجهة الوقائع الجديدة في الاقتصاد العالمي بهدف تعديلها أو التأثير فيها على الأقل لمصلحة الجنوب . وعلى الرغم من الجاذبية النظرية لهذا الخيار إلا أن إمكانية تطبيقه في الواقع تواجهها العديد من الصعاب والعقبات منها:

  • القدرات الاقتصادية المحدودة لدول الجنوب في وضعها الراهن ، فعلى الرغم من أنه تحت عنوان الجنوب يقصد مجموعة كبيرة من الدول يزيد عدد سكانها على 80% من سكان العالم إلا أنها لا تساهم في الدخل العالمي بأكثر من حوالي 20% ويقدر نصيبها من سوق الصادرات العالمية بــ 24,3 % ويعيش فيها أكثر من مليار نسمة تحت خط الفقر كما أن نصيبها في صنع التطور العلمي والتقدم التكنولوجي متواضع يكاد لا يذكر على المستوى العالمي . فالوطن العربي على سبيل المثال يعتبر من المناطق الهامة والغنية في نصف الكرة الجنوبي ومع ذلك فالإحصائيات توحي أن مساهمة الاقتصاديات العربية في النشاط الاقتصادي العالمي لا زالت متواضعة ومحدودة . فبيانات الجامعة العربية تشير إلى أن سكان الوطن العربي يشكلون حوالي 4,5 % من سكان العالم ويساهمون بحوالي 2% من الدخل العالمي وتقدر حصتهم في التجارة العالمية بحوالي 3% كما أن الإنتاج الزراعي العربي يقدر بــ 1,5 % من الإنتاج الزراعي العالمي والإنتاج الصناعي العربي بــ0,5% من الإنتاج الصناعي العالمي ( البيانات السابقة مستوى أوائل التسعينيات).
  • تدني مستوى الإرادة لدى معظم دوائر صنع القرار في هذه الدول لتطوير مستوى التعاون والتنسيق فيما بينها لمواجهة النظام الاقتصادي العالمي من ناحية أخرى . فواقع وعمل المنظمات والتكتلات الإقليمية والدولية الخاصة بالجنوب ( مجموعه 77 ، مجموعة دول عدم الانحياز ، منظمة الوحدة الإفريقية ، الجامعة العربية ، التكتلات الإقليمية العربية ..) شواهد حية على ذلك .

تلك الوقائع وغيرها تلقي بظلال كثيفة من الشك حول الإمكانية الفعلية والجدوى العملية لمقولات رفض ومواجهة النظام الاقتصادي الدولي القائم أو الجديد وربما كان ذلك من بين الأسباب التي دعت حوالي 80 دولة نامية حتى الآن للتوقيع على اتفاق مراكش علماً أن هذا العدد مرشح للزيادة في المستقبل القريب كما تشير معظم التوقعات.

تأسيساً على ذلك يبدو أن خيار التكيف أقل الخيارات كلفاً وتكاليف وأكثرها واقعية وجدوى . ولعملية التكيف مقتضيات عديدة من أهمها:

  • أن تمتلك دول الجنوب الإرادة والقدرة على إجراء مراجعة موسعة وشاملة لسياساتها التنموية تمهيداً لإعادة صياغتها بما ينسجم والمتغيرات الجديدة في عالم اليوم.
  • أن تمتلك الإرادة والقدرة على تطوير آليات عملها الاقتصادي بما يساهم في استغلال أفضل لطاقاتها المتاحة ومواردها الممكنة.

أغلب الظن أنه بمقدار ما تستطيع دول الجنوب النجاح في عملية التكيف بمقدار ما تستطيع تحسين قدرتها التنافسية في السوق العالمية وبالتالي تحسين موقعها التفاوضي مع القوى الاقتصادية الكبرى الفاعلة في النظام الاقتصادي العالمي.

ذلك سيجعل من دول الجنوب أكثر قدرة على الاستفادة من الإيجابيات المتوقعة لاتفاقية الغات  أو منظمة التجارة العالمية (وغيرها من الاتفاقيات والمنظمات الدولية المشابهة) والتي لا يمكن تجاهلها على المستوى العالمي ومن بينها:

  • من المتوقع أن يؤدي زيادة مستوى تحرير التجارة العالمية إلى تطور مواز في الطلب وبالتالي زيادة في استغلال الطاقات الإنتاجية المتاحة والكامنة على المستوى العالمي بما سيؤدي إلى زيادة في الدخل العالمي قدرت بين 213 و 274 مليار دولار أمريكي سنوياً حتى عام 2002 ، يمكن للدول النامية الحصول على جزءٍ منها .
  • زيادة الصادرات العالمية ومن بينها صادرات الدول النامية بسبب إلغاء أو تخفيض  الحواجز الجمركية.
  • التخفيف من النزعة الحمائية والتي برزت بشكل خاص لدى دول الاتحاد الأوروبي وبعض دول جنوب وشرق آسيا (كاليابان مثلاً) مما يجعل وصول الدول النامية إلى أسواق هذه الدول سواء لتصدير سلعها أو الاستفادة من تطورها العلمي والتكنولوجي أكثر يسراً وسهولة.

هذه الإيجابيات وغيرها قد تساهم في خلق نظام اقتصادي دولي أكثر عدالة وهذا ما كانت تطالب به الدول النامية منذ أمد طويل.

خلاصة القول ، في الوضع الراهن لحقائق القوة السائدة بين الجنوب والشمال يبدو أن رهان الجنوب العملي والواقعي يكمن في قدرته على التكيف . فهل ينجح في ذلك؟

 

 

الدكتور محمد توفيق سماق