حوار صحفي حول الأزمة المالية العالمية ــ المقال رقم /130/

صحيفة سوريانا – بيروت – لبنان

العدد:  40 تا ريخ 12/4/2009

الحديث مع الدكتور محمد توفيق سماق ليس حديثاً مفيداً ، وشيقاً ، وممتعاً وحسب ، بل إنه جميل أيضاً ، يشبهه كثيراً بقامته البهية وأناقته اللافته ووجهه النضر وعينيه الزرقاوين الواسعتين ، بل والحديث معه يشبه مكتبه أيضا الذي يضفيه جمالاً بمكوناته اللطيفة والأخاذة ، ألوان هادئة ، مقاعد مريحة ، وعلى الجدران أمامه لوحة لم أرها في مكتب آخر ، لا مكتب مسؤول ، ولا مكتب غير مسؤول ، لوحة بيضاء عاجية كتب عليها بخط جميل ، كلمة واحدة بلون ذهبي يسرق الأبصار على الرغم من صغر مساحة اللوحة ، الكلمة هي ( اقرأ)  ولا شيء حولها لا في إطار اللوحة ولا على الجدار كله ، غير أنني وقتما رأيتها ، أحسست بارتعاش في فؤادي ، وشعرت أن المكتب كله تحتويه تلك اللوحة ، وليست هي التي فيه.

استغربت لماذا انتابتني هذه الأحاسيس والمشاعر ، رغم أنني أعرف مقام الدكتور محمد جيداً ، وأدرك تماما أنه يعيش حياة تصالحية مع هذه الكلمة المعلقة ( اقرأ) وعلى الرغم من أنني لم أشأ الحديث معه حولها ، أكاد أجزم أنه لا يضعها كمجرد شعار ، وإنما لأنه يعيش معها ، ويستمتع بأبعادها ، وأعماقها ، ودلالاتها ، وحتى بمنظرها الجميل ، وهو المتذوق لما تعنيه تماماً ، وآفاقه الرحبة التي نرى بعضها على شكل مقالات يكتبها ومحاضرات يلقيها وبحوث يجريها وكتب يؤلفها ، تشكل الدليل على تذوقه لهذه الكلمة وكيف يعيش معها سعيداً مستمتعاً.

الدكتور مجمد توفيق سماق ، وعلى الرغم من كونه معاونا لوزير الصناعة ، وعضواً فعالاً في مجلس النقد والتسليف ، فإننا لن نتحدث في لقائنا معه عن شيء من هذا ، على الرغم من أنه لا يبخل ، ففي ذهنه وذاكرته دون شك أشياء كثيرة عن السياستين الصناعية والنقدية ، غير أن حديثنا معه سنحاول أن نستثمره باتجاه آخر ، نحو هذا الشبح المخيف القادم إلينا ، شبح الأزمة المالية العالمية ، التي بدأت تخيم علينا – كما على غيرنا – ماليا واقتصادياً وعقارياً وجوانب عديدة تتبلور شيئاً فشيئاً ويوماً وراء يوم ، لنرى كيف تابع الدكتور محمد هذه الأزمة ، وكيف يقيمها ، رؤيته حولها . وذلك من خلال سؤالين اثنين فقط ؟

  • بداية سألنا الباحث الاقتصادي الدكتور محمد توفيق سماق ، فيما إن كان يعتقد من خلال تركيبة هذا العالم الجديد ، أن أحواله ومفاجآته سوف تقتصر على هذه الأزمة المالية والاقتصادية العالمية ،أم أن هذه التركيبة قد هيأت العالم لفرز أزمات مماثلة متلاحقة ؟

يقول الدكتور محمد :

أعتقد أن الأزمة ليست أزمة عالم ، بقدر ما هي أزمة نظام . النظام الرأسمالي عبر تاريخه مقترن بظهور الأزمات ، فهو يولد وينتج الأزمات منذ انتقال العالم من العصر الإقطاعي إلى العصر الصناعي الذي ترافق مع ظهور الرأسمالية . فحروب أوروبا في القرن التاسع عشر ، ومن ثم حربين عالميتين في القرن العشرين ، وما سميت بأزمة الكساد الكبير عام ( 1929) وبعد الحرب العالمية الثانية إلغاء الولايات المتحدة الأمريكية لاتفاقية بريتن وودز عام ( 1971 ) في فترة إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون ، ومن ثم أزمات دول جنوب شرق آسيا عامي ( 1997 – 1998 ) والأزمة الحالية التي بدأت بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة وتطورت إلى أزمة مالية تحولت إلى أزمة اقتصادية ليست فقط أمريكية ، إنما أزمة اقتصادية عالمية ، بعضا من الشواهد على صحة الاستنتاج السابق.

الرأسمالية تقوم في الجوهر على حرية المبادرة  الفردية وما يقترن بها من جشع واحتكار واحتيال وفساد وهذا من طبائع البشر وتلك بدورها أبرز مولد لأزمات الرأسمالية .رأسمالية بلا أزمات تقتضي بشراً بطبائع الملائكة وهؤلاء ليسوا على الأرض.

ومع ذلك ودفعا لأي التباس محتمل أرى من الضروري التوضيح بأن هذا لا يعني التفاؤل بأن البشرية تعيش مرحلة انتقال إلى نظام اقتصادي آخر ، لأنه ببساطة ليس هنالك اليوم نظام اقتصادي آخر جاهز للتطبيق.

 

  • ثم قلنا للدكتور محمد : لقد دعت روسيا مؤخرا إلى توحيد عملات العالم بعملة واحدة قابلة للتداول على وجه الأرض كلها لتدارك الأزمة المالية ، غير أن الولايات المتحدة رفضت هذا الطرح ، وقالت : إن الدولار ما يزال قويا.
  • برأيك كيف تنظر روسيا إلى أن وجود عملة موحدة في العالم من شأنه تدارك الأزمة ؟ وهل ثمة جدوى من ذلك ؟ وهل يمكن لهذا الطرح أن يكون قابلا للتحقيق؟
  • إن كان الدولار قويا فما الضرر للولايات المتحدة في أن تدخل مع العالم بعملة واحدة ؟

يجيب الدكتور محمد توفيق سماق على هذا السؤال قائلاً:  إن إصدار عملة واحدة للعالم يقتضي وجود سلطة نقدية واحدة ، وهذه بدورها تقتضي وجود سلطة سياسية موحدة أو واحدة ، لها الولاية على السلطة النقدية ، وهذه غير متوفرة حالياً، ولا أعتقد بأنها ستتوفر مستقبلاً، لأن ذلك يعني ببساطة توحيد العالم ، ولا أظن بأن ذلك قابل للتحقيق.

قد يقول البعض بإيكال هذه المهمة للأمم المتحدة ، أو صندوق النقد الدولي . الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ليس لهما سلطة على دول العالم ، كما أنهما مؤسستان تعكسان تنوع العالم واختلافه، وفي الحالات اللتان تمارسان فيها السلطة ، تكون هذه السلطة لمصلحة الأقوى . فمجلس الأمن بحق الفيتو الممنوح للدول الخمس الدائمة العضوية يعكس موازين القوى السائدة في العالم ، ولا يعكس وحدة العالم أو اتحاده ، كذلك الحال بالنسبة لصندوق النقد الدولي  فالقوة التصويتية لكل دولة  فيه مساوية لنسبة مساهمتها في رأسمال الصندوق.  المساهمون الكبار حاليا في الصندوق هم ” الولايات المتحدة الأمريكية 16،83% – اليابان 6،04% – ألمانيا 5،9% – فرنسا وبريطانيا 4،87% لكل منهما “.

وما دام الطلب الروسي غير قابل للتحقيق ، فلا أظن بأن هنالك فائدة من الخوض في جدواه.

أما عن قوة الدولار فأظنها اليوم سياسية أكثر مما هي اقتصادية ،فالدولار الأمريكي بعد إلغاء اتفاقية بريتن وودز عام 1971 من طرف واحد أي الولايات المتحدة الأمريكية ، لم يعد كما كان مغطى بالذهب ، التغطية الأهم للدولار الأمريكي ترتكز حاليا على ثلاثة عوامل ، هي :

  • الإنتاج الأمريكي.
  • إصرار معظم الدول المنتجة للنفط في العالم ، خاصة في منطقة الخليج العربي ، على تسعير صادراتها النفطية بالدولار الأمريكي.
  • حفاظ العديد من دول العالم على احتياطياتها من العملات الصعبة بالدولار الأمريكي.

العاملان الأخيران يخضعان – وفق ما أرى – لاعتبارات سياسية أكثر مما هي اقتصادية.

وفي حال سعر النفط بعملة أخرى غير الدولار الأمريكي ،أو قررت  دول العالم تنويع احتياطياتها من العملات الصعبة ، أو التخلي نهائيا عن الدولار ، سيعني ذلك ضعف الدولار وضعف ارتباط اقتصاديات دول العالم بالاقتصاد الأمريكي ، وبالتالي تراجع القدرة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية واهتزاز نفوذها السياسي ، وهذا ما لا ترغب به الولايات المتحدة بطبيعة الحال.

بالمقابل أعتقد أن الأمر على المدى البعيد لا يتعلق فقط برغبة الولايات المتحدة ، إنما بتحولات اقتصادية وسياسية ستؤدي إلى تراجع الدور العالمي للولايات المتحدة الأمريكية ، وبالتالي إلى سقوط النظام العالمي القائم على الأحادية القطبية وتفرد الولايات المتحدة بموقع القمة فيه،مع نشوء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب والقمم قد تكون الولايات المتحدة واحدة منها ، وليست الوحيدة فيه.

 

أجرى الحوار : علي محمود جديد