حول العمل العربي المشترك في المجال الصناعي ما له و ما عليه ؟ ــــ المقال رقم /18/

صحيفة  تشرين – دمشق – سورية

العدد :5918   –   تاريخ: 23/4/1994

هذا المقال بمناسبة انعقاد المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين في دمشق .

افتتحت الأسبوع الماضي  برعاية السيد وزير الصناعة في الجمهورية العربية السورية الدورة السادسة لاجتماعات المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين التي تشارك فيها وفود تمثل الدول العربية الأعضاء في المجلس .

المنظمة هي إحدى مؤسسات العمل العربي المشترك ويعود تأسيسها في جذوره الى عام 1967 تنفيذاً لعدد من قرارات القمة العربية أواسط الستينيات والمتعلقة بضرورة العمل على زيادة مستوى التعاون و التنسيق بين الدول العربية في مختلف مجالات العمل الاقتصادي تمهيداً للوصول  إلى مرحلة التكامل وحتى الاتحاد إن أمكن ذلك مستقبلاً .

لاشك بأن أطروحة تعزيز العمل العربي المشترك في العديد من المجالات ومنها الاقتصادية التي كثر الحديث عنها لدى دوائر القرار والمهتمين العرب في تلك الفترة مثلت بشكل ما بعض الاستجابة لعدد من التحديات على مختلف الصعد الدولية والقومية والقطرية . منها :

  • على الصعيد الدولي : شهد العالم أوائل و أواسط الستينيات تطوراً تكنولوجياً غير مسبوق  و اتساعاً غير مألوف لآفاق التكنولوجيا و استخدامها ، حيث دخل العالم في ما سمي المرحلة الثانية من الثورة العلمية التكنولوجية أو ما سماه البعض عصر الكيبرنتيك (التحكم الالي ) وكان غزو الفضاء أبرز إنجازات ذلك العصر و أهم تطبيقاته التكنولوجية . ومع بلوغ العلم ومعه العالم ذلك المستوى التكنولوجي المتطور ازداد الإنسان ثقة بنفسه و قدراته كما ازداد بالمقابل ثقة بحقه في الأحلام و الآمال والتطلعات لحياة أفضل أكثر رفاهاً و أقل عناء .

وقد أدرك العالم المتقدم آنئذ بشرقه وغربه بأن للرفاه ثمنا ًوهو مرتفع و أن للتقدم كلفاً وهي عالية فاتجه نحو التعاون             و التنسيق بين دوله و أجزائه سعياً وراء توظيف أفضل لقدراته و استغلال أمثل لموارده ذلك كله بهدف تحقيق مردود أعلى لجهوده وعناء أقل لسكانه .

فأوروبا الغربية انتقلت من مرحلة السوق الاوربية المشتركة ( اتفاقية روما 1957 ) إلى مرحلة المجموعة الأوربية (1967 )       و أوربا الشرقية قطعت من خلال منظمة التعاون والمساعدة المتبادلة بين دولها  (الكوميكون في ذلك الوقت ) اشواطا بعيدة في مجال تقسيم العمل والتخصص الإنتاجي فيما بينها ، وبين الغرب والشرق كان العالم الثالث ، والدول العربية جزء منه ، يتأثر وعلى درجات متفاوتة بثورة التطلعات نحو حياة أكثر رفاها واقل عناء .

فتحركت  دوله بأشكال مختلفة لإيجاد صيغ للتقارب والتنسيق في ما بينها ، وبالنسبة للدول العربية كان الإطار جاهزاً من خلال الجامعة العربية حيث بدأ و على أعلى المستويات ، مستوى القمة  ، بإنشاء منظمات العمل العربي المشترك المتخصصة في كافة مجالات التعاون و منها المنظمة التي نحن بصدد الحديث عنها اليوم أي المنظمة العربية للتنمية                   الصناعية والتعدين  .

  • وعلى المستوى القومي : فبالإضافة إلى ما خلفته حقائق التاريخ و الجغرافيا في المنطقة العربية من أسباب التنسيق و التكامل بين دولها أوجد التحدي الإسرائيلي الكامن في السعي للسيطرة على خيرات المنطقة  تنوعاً في أشكال الصراع القائم بين الدول العربية و إسرائيل حيث أضحى الصراع على الموارد الاقتصادية واحداً منها .
  • وقد ساهم ذلك في دفع دوائر القرار العربية أواسط الستينيات للبحث عن صيغ للتعاون فيما بينها ولتعزيز قدراتها في مواجهة مطامع إسرائيل ، وتكفي الإشارة في هذا المجال إلى أن أول مؤتمر قمة عربية عقد ( كانون الثاني ) 1964 خصصت مناقشاته لوضع الصيغ  و إيجاد السبل الكفيلة بمواجهة قيام اسرائيل ببناء مشروعات على نهر الأردن تضمن لها أكبر قدر من المياه على حساب العرب الذين تقع في أراضيهم منابع هذا النهر .
  • وعلى المستوى القطري: فإن الاعتقاد الذي ساد في تلك الفترة جزءاً هاماً من الأمة العربية، بأن محاولات التنمية القطرية مهما حققت من إنجازات ستبقى كسيحة عاجزة إذا لم تتم ضمن منظور قومي للتعاون أوسع و أعم في عالم تزداد فيه حدة الاستقطاب و في منطقة تتفاقم فيها أسباب الصراع وعوامل مواجهة قد تشكل عامل ضغط إضافي زاد في حدة اصوات المنادين بتعزيز العمل العربي المشترك و إنشاء منظماته مما زاد من سرعة حركة الدول العربية في هذا الاتجاه . في ذلك وغيره مما يمكن أن يورد في هذا السياق يستطيع الدارس أن يجد الجذور الحقيقية لما نسميه اليوم منظمات العمل العربي المشترك والمنظمة العربية  للتنمية الصناعية والتعدين واحدة منها .

ومن حيث النشأة يمكننا اعتبارها المنظمة الوليدة أو المنظمة الخلف لثلاث منظمات عربية متخصصة وجدت منذ أواسط الستينيات وحتى أواخر الثمانينيات حيث تم دمجها   معاَ ، والمنظمات الثلاث السابقة هي :

مركز التنمية الصناعية العربية – المنظمة العربية للثروة المعدنية و المنظمة العربية للمواصفات والمقاييس ،

وقد أوكل للمنظمة الجديدة ( المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين ) مهمة وضع الصيغ الملائمة  و إيجاد السبل الكفيلة بزيادة مستوى التعاون و التنسيق بين الدول العربية في المجال الصناعي وصولاً إلى مرحلة التكامل مستقبلاً .

في العرف الدولي ينظر إلى المنظمة كوكالة إقليمية متعددة الأطراف معنية بشؤون الصناعة في الدول العربية ، حيث تقيم المنظمة علاقات عمل متطورة مع العديد من المنظمات الدولية كمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية والوكالة الدولية للطاقة الذرية و برنامج الأمم المتحدة الإنمائي …. وغيرها .

الآن و بمناسبة انعقاد المجلس التنفيذي للمنظمة و بعد هذه الرحلة الزمنية الطويلة  التي قطعتها المنظمة ومعها العمل العربي المشترك في المجال الصناعي التي بلغت حتى الآن حوالي 27 عاماً يطرح بالتداعي سؤالان :

ماذا حقق العمل العربي المشترك في المجال الصناعي ؟

وماذا يمكن أن يحقق ؟

في الإجابة على السؤال الأول يمكننا أن نشير إلى عدد من الإنجازات . فإنشاء المنظمة   بحد ذاته يشكل من ناحية دليلاً على الرغبة في التعاون بين الدول العربية في المجال الصناعي كما يمكن اعتباره من ناحية أخرى إطاراً مؤسسياً مقبولاً لتطوير هذا التعاون  و زيادة كفاءته مستقبلا ً، كما أن المنظمة قد ساهمت و بنجاح في إنشاء وتوطين عدد من المشاريع الصناعية العربية المشتركة في الدول العربية كما قامت بإجراء العديد من الدراسات القطاعية للعديد من فروع الصناعة التحويلية على المستوى العربي وتعمل الآن على إنشاء بنك للمعلومات عن الصناعة العربية سيوضع بتصرف الجهات المهتمة في الدول العربية من مستثمرين ومنتجين ومسوقين من مختلف القطاعات   العام والخاص والمشترك .

يضاف إلى ذلك جهودها المشكورة في التقريب بين هيئات المواصفات العربية عن طريق اعتماد مواصفة عربية واحدة لعدد من السلع المنتجة في الدول العربية أو الاتفاق على اعتماد شهادات المطابقة التي تصدرها هيئات المواصفات العربية المختلفة من قبل جميع الدول العربية بما يساهم في تيسير وتنشيط التبادل التجاري البيني على المستوى العربي بالنسبة للسلع المصنعة أو النصف مصنعة أو المواد الخام .

وفيما يخص السؤال الثاني ، ماذا يمكن أن يحقق العمل العربي المشترك في المجال   الصناعي ؟ فالإجابة قد تطول وتتشعب وسنحاول هنا ولضيق المجال إضاءة بعض الجوانب التي نعتقد بأنها تساعد على إعطاء الإجابة الدقيقة و الشاملة :

  • إن نظرة سريعة على خريطة العالم من حولنا توضح بجلاء السمة المميزة لحركة عالم اليوم نحو التكتل والتجمع           ( الاتحاد الاوربي ، منظمة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية ، منتدى التعاون / آسيا والمحيط الهادي ../ ) فالتحدي الدولي الذي واجهتاه كعرب مع أواسط الستينيات و المتمثل في الاستقطاب لازال قائماً و إن كانت سمته قد تغيرت   من الاستقطاب على أسس أيديولوجية وسياسية إلى التكتل على أسس اقتصادية وتكنولوجية .
  • على الصعيد القومي ، فمعظم الدراسات و التوقعات دولية كانت أم عربية تؤكد ليس فقط على استمرار التحدي الإقليمي الذي يواجه الدول العربية و إنما على ازدياد حدته في المرحلة القادمة .

فما يكثر الحديث عنه من مشاريع للتعاون الاقليمي في المنطقة على أسس اقتصادية كالسوق الشرق أوسطية أو البينيلوكس العربية أو غيرها ليست أكثر من عناوين فضفاضة لصراع حضاري قد نكون كعرب مقبلين عليه مع اسرائيل لن تقل حدته و أهمية ما يترتب عليه من نتائج عن حدة و أهمية نتائج ما سبقه من صراع سياسي وعسكري ولكن  بوسائل أخرى .

3- أما على المستوى القطري ، فالدلائل تشير إلى أنه بالرغم من الإنجازات التنموية الهامة في الدول العربية إلا أن حركة الزمن بما جلبته معها من تنام ملحوظ لتطلعات مواطنيها نحو حياة أكثر رخاء و ازدهاراً قد خلق العديد من الفجوات في جدار الأمن المجتمعي للدول العربية و أثار العديد من العقبات التي تنعكس سلباً على جهود هذه الدول و خططها التنموية الاقتصادية منها والاجتماعية، أبرزها :

  • تفاقم مشكلة المديونية في عدد من الدول العربية.
  • انخفاض موارد الدول النفطية و ازدياد حاجاتها التمويلية نتيجة لهبوط أسعار النفط ونتائج حرب الخليج و انعكاسات ذلك على الدول العربية غير النفطية .
  • ازدياد حدة التوترات المجتمعية في عدد من الدول العربية على خلفية اقتصادية في معظمها .

خلاصة القول بأن التحديات الدولية ، الإقليمية و القطرية التي ساهمت في تكوين مقولة العمل العربي المشترك أواسط الستينيات مازالت قائمة لا بل أخذت أشكالاً أكثر حدة ، فإذا كان من مظاهر استجابتنا كعرب لتحديات الستينيات إنشاء مؤسسات العمل العربي المشترك  فإن الرد الحالي يكمن في جزء منه بالإصرار على تفعيل دور هذه المنظمات و زيادة  نشاطها .  فالموارد متاحة و الإمكانيات كبيره و يكفي أن نشير هنا إلى المستوى العلمي و الفني المرضي لقوة العمل العربي وتوفرها ، يضاف إلى ذلك اتساع السوق العربية وتنامي الطلب فيها . ما نرجوه ان تكون الارادة إلى تحقيق ذلك بمستوى تلك الامكانيات وبما يتناسب و تلك  الموارد .

لعل اجتماعنا في دمشق ( قلب العروبة النابض ) وكأشقاء عرب معنيين ، بشؤون الصناعة العربية وهمومها يمكن أن يساهم في قطع مسافة إضافية أخرى على طريق تعزيز العمل العربي المشترك في المجال الصناعي ، راجيين أن نستطيع الحديث عن تكامل الصناعة العربية في مستقبل ليس بالبعيد .

                                               الدكتور محمد توفيق سماق