دعوة للمراجعة الاقتصادية قضية ومطلب لا يحتملان المزيد من التأجيل ـــ المقال رقم /71/

صحيفة تشرين– دمشق – سورية

العدد:   7828  تاريخ  10/2000/ 15

يقول الإمام علي بن أبي طالب لأحد ولاته : ” إنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها ، وإنما يعوز أهلها الولاة في الجمع ” . على الرغم مما بذل ويبذل لتحسين مستوى حياة المواطنين في بلادنا لازال العديد من مظاهر الحاجة والعوز غير المبررة سمة يصعب نكرانها وحالة يتعذر تجاهلها في العديد من جوانب الحياة الغالبية منا. من المجالات التي تتجلى فيها تلك المظاهر:

الدخل : من المعروف أننا نملك العديد من الثروات الهامة ( نفط – غاز – حبوب – قطن) ومع ذلك بلغ أواخر التسعينات وفق بيانات البنك الدولي وسطي نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في سورية 1160 دولاراً أمريكياً فقط بينما يزيد هذا الرقم في دول عربية مجاورة عن مثيله في سورية علماً بأن هذه الدول لا تملك من الثروات مثل ما نملك أو حتى شيئاً من بعض ما نملك ففي لبنان بلغ في الفترة نفسها متوسط نصيب الفرد من الناتج الإجمالي 2979 دولاراً أمريكياً وفي الأردن 1650 دولاراً فكيف يمكن أن نبرر ذلك؟

توزيع الدخل: ليس هناك من بيانات متاحة يمكن الوثوق بها عن توزيع الدخل الوطني في سورية لكن هنالك بعض المؤشرات الجزئية القابلة للتعميم فمثلاً بلغ عدد العاملين في الدولة والقطاع العام أواخر التسعينيات نحو 1,2 مليون عامل شكلوا نحو 42% من قوة العمل في البلاد . قبل زيادة الأجور الأخيرة بنسبة25% كانت كتلة الرواتب والأجور التي يتقاضاها العاملون في الدولة والقطاع العام   نحو 67 مليار ليرة سورية أصبحت بعد الزيادة نحو 84 مليار ليرة سورية شكلت حوالي 11% من الناتج المحلي الإجمالي بسعر السوق لعام 1998 أما في أوائل السبعينات فكانت نسبة المشتغلين بأجر تشكل نحو 30% فقط من قوة العمل في البلاد بينما شكلت كتلة الرواتب والأجور التي كانوا يتقاضونها نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي فهل يمكن أن نبرر هذا التراجع الكبير في نصيب العاملين في الدولة والقطاع العام من دخل البلاد إلا بتراجع مواز لعدالة توزيع ذلك الدخل ؟ وعلى الصعيد الفردي نجد أن سقف الأجر في سورية بعد الزيادة لا يتجاوز 9660 ليرة سورية مهما كانت المرتبة الوظيفية للمشتغل أو مؤهله العلمي ، وإذا اعتبرنا أن وسطي الإعالة في البلاد خمسة أشخاص فهذا يعني أن نصيب الفرد من أسرة المشتغل الذي يبلغ السقف مرتبة وراتباً لا يتجاوز 1932 ليرة سورية أي نحو 39 دولاراً أمريكياً شهرياً وهذا يعني على حافة خط الفقر المتعارف عليه دولياً 1 دولار أمريكي للفرد يومياً . فكيف إذاً بوضع المشتغلين وأسرهم الذي يتقاضون أقل من سقف الراتب وهم الغالبية العظمى من العاملين في الدولة والقطاع العام ، وإذا أردنا المقارنة بدول عربية مجاورة نجد الفوارق كبيرة بما لا يقاس لمصلحة العاملين في تلك الدول فمثلاً يبلغ الحد الأدنى للأجر في لبنان نحو 300 دولار أمريكي شهرياً بينما لا يزيد سقف الأجر الشهري في سورية على ما يعادل 193 دولاراً أمريكياً كما أشرنا سابقاً وهنا أيضاً لنا أن نتساءل كيف نبرر كون الحد الأدنى للأجر في لبنان يبلغ حوالي 1,5 ضعف الحد الأعلى في سورية ؟ اقتصادياً يصعب التبرير؟.

البطالة : منذ سنوات والموازنات الحكومية تشير إلى التخطيط لتوفير عشرات آلاف فرص العمل سنوياً مع ذلك فالبيانات الرسمية تدل على زيادة طفيفة لعدد العاملين في الدولة والقطاع العام من المدنيين. فنهاية عام 1994 بلغ عدد هؤلاء 737692 مشتغلاً بينما بلغ عددهم 788388 مشتغلاً بنهاية عام 1996 أي بزيادة مطلقة بلغت خلال عامين نحو 52 ألف فرصة عمل فقط . هذه المفارقة بين ما تقوله الموازنات الحكومية وما يقوله الواقع ساهمت في تراكم البطالة في سوق العمل فبعض البيانات تتحدث حالياً عن نحو نصف مليون عاطل عن العمل وبعضها الآخر يشير إلى أن حوالي 60% من هؤلاء هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15-24 عاماً أليس فيما سبق مفارقة تستعصي على التبرير ؟ وحالة تجعل الحديث عن توفير فرص العمل حديثاً محاطة بالشبهات؟

تلك هي بعض مظاهر الحاجة والعوز في حياتنا إلا أن الأكثر أهمية من توصيف المظاهر هو تحديد مصادر هذا العوز ورصد آلياته مما يقودنا بالضرورة إلى مراجعة بعض المألوف وبعض المعتاد في اقتصادنا فالاقتصاد مصدر العوز أو مولد الوفرة لدينا ولدى غيرنا مع الإدراك بأن مراجعة من هذا النوع تحتاج إلى الكثير من الجرأة والكثير من الحكمة لكن ظني أن لدينا ما يكفي من كليهما . من المألوف أو المعتاد الذي أرى أن تشمله المراجعة المقترحة الآتي:

تدني اقتصادية التشغيل

لدينا بعض النشاطات أو المنشآت الاقتصادية التي تعمل منذ سنوات بدون أي عائد اقتصادي إلا توفير السلعة إذا اعتبرنا ذلك عائداً وللتوضيح نسوق الأمثلة الآتية:

 

القمح : من المألوف أن تقوم مؤسسة الحبوب بشراء كيلو القمح المحلي من الفلاح بنحو 10 ليرات سورية وإذا أضفنا 15-20 % نقل وتخزين وغربلة وغير ذلك فهذا يعني ارتفاع سعر الكيلو من القمح المحلي إلى نحو 12 ليرة سورية بينما يبلغ السعر العالمي للقمح تسليم 11/2000 حوالي 90 دولار أمريكي للطن الواحد وبذلك يزيد السعر المحلي عن السعر العالمي بحوالي 7ليرة سورية لكل 1 كغ  من القمح أي أن إنتاج 1 مليون طن يرتب على المؤسسة حوالي 7 بليون ليرة سورية خسائر تغطى من الموازنة العامة للدولة وهذه بدورها تمول من ثروات المواطنين وعوائدها؟

القطن : من المألوف أيضاً أن يتم شراء 1كغ من القطن السوري المحبوب بنحو 28ليرة سورية في المتوسط وبعد حلجه يصل السعر إلى ما يقارب الـــ90 ليرة سورية بينما يتراوح وسطي السعر العالمي للقطن المحلوج بين 55-60 ليرة سورية أي أن إنتاج 100 ألف طن من القطن المحلوج محلياً يرتب خسائر تصل إلى حوالي 3 بليون ليرة سورية تغطى أيضاً من الموازنة العامة للدولة وهذه بدورها تمول من ثروات المواطنين وعوائدها؟

السكر : تبلغ كلفة 1 كغ من السكر المنتج محلياً نحو 38 ليرة سورية في المتوسط بينما يبلغ السعر العالمي تسليم 11/2000 تحو 254 دولار أمريكي أي أن الفارق بين كلفة السكر المنتج محلياً والسعر العالمي يبلغ في المتوسط نحو 25 ليرة سورية لكل 1 كغ أي أن إنتاج 100 ألف طن   من السكر محلياً يرتب على المؤسسة العامة للسكر خسائر بحوالي 2,5 بليون ليرة سورية تغطى  من الموازنة العامة للدولة وهذه بدورها تمول من ثروات المواطنين وعوائدها؟

أليس فيما سبق ما يوحي بأننا أمام أنشطة اقتصادية تعمل بلا عائد اقتصادي ؟ هل لذلك أسبابه ؟ ربما ؟ لكن لكي نقطع الشك باليقين لا بد من مراجعة معمقة وموسعة وإلا كنا أمام مصدر لا ينضب لاستنزاف المتوافر من إمكانياتنا وهدر المتاح من مواردنا؟

الأجور والأداء الاقتصادي

اعتدنا منذ سنوات على ترداد المقولة لا يمكن زيادة الأجور بشكل مجز إلا بتطوير الأداء الاقتصادي ومرت السنوات وأداء اقتصادنا لم يتطور بالشكل المرغوب أو المطلوب .

بالأسعار الثابتة لعام 1995 انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي في سورية من 40258 ليرة سورية في عام 1985 إلى 33110 ليرة سورية في عام 1997 أي بمعدل وسطي بلغ ( -1,6 %) سنوياً.  تلك المؤشرات تستدعي هاجسين : هاجس التحري عن أسباب ذلك ؟ وهاجس القلق من استمرار أدائنا الاقتصادي على النحو السابق أو ربما تراجعه؟ أغلب الظن أن هواجس كهذه تبرر دراسة وتحليل المقولة الأساسية حول زيادة الأجور وتطور الأداء والعلاقة بينهما ، في هذا السياق يمكن طرح السؤال الآتي : هل يمكن لأدائنا الاقتصادي أن يتطور دون حافز؟

كما هو معروف يعتبر الأجر أهم الحوافز لدى المشتغل ، إلا أن المستوى المتدني للأجور لدينا أفقد الأجر وظيفته كحافز لا بل أكثر من ذلك حوله إلى كابح فهل يمكن لأداء اقتصادنا أن يتطور والمعنيون بتطويره أي العاملين في أنشطته المختلفة مقيدون بكابح الأجر المتدني ومكبلون بعوز  الحياة ومتاعبها؟

طبائع الأشياء وواقع الحال يقولان بعدم الإمكانية فهل شملت المراجعة تلك الأسطورة المقولة التي طمأنتنا بالوهم لسنوات . الخروج من عالم الوهم يقتضي – فيما أرى – الإدراك والإقرار بأن المدخل لأي تطوير حقيقي لأداء اقتصادنا هو زيادة كبيرة في الأجور مهما كان مصدر تمويلها حتى لو كان عن طريق الإصدار النقدي فلا تطوير بلا عمل ولا عمل بلا حافز.

هيكل القطاع العام

قطاعنا العام – كما أضحى معروفاً – يعاني من مشاكل هيكلية وحتى لا يتحول المعروف إلى مألوف لدينا أعتقد جازماً بأن أية مراجعة لأوضاع اقتصادنا ينبغي أن تشمل قطاعنا العام لدوره الهام في حياة البلاد . فالقطاع العام لدينا ساهم بنحو 43% من إجمالي التكوين الرأسمالي الثابت للاقتصاد الوطني خلال الفترة 1990-1996 وساهم بحوالي 39% من الناتج المحلي الإجمالي أواسط التسعينيات ويوفر مع الدولة فرص عمل لنحو 42% من قوة العمل في البلاد . إن الطبيعة البنيوية لمشاكل هذا القطاع تستدعي إعادة هيكلته على أسس اقتصادية مما يقتضي مراجعة بنيته المؤسساتية . ومجالات نشاطه وعلاقات الملكية فيه وفق الأساسين الآتيين:

  • أهمية وضرورة الوظيفة الاقتصادية التي تقوم بها منشآته.
  • مستوى العائد الاقتصادي ( أو الاجتماعي  في ظروف خاصة ) المحقق.

إن إعادة هيكلة القطاع العام ستطرح جملة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات جريئة ودقيقة منها :

  • ما هي ضرورة الوظيفة الاقتصادية التي تقوم بها مؤسسات التجارة الخارجية لدينا ( افتوماشين – افتوميتال- انتر ميتال)؟
  • ما هي الجدوى من الحفاظ على منشأة لا تنتج إلا الخسائر؟
  • هل يمكن التفكير في إقامة شركات مساهمة حكومية أو تحويل بعض المنشآت القائمة حالياً إلى منشآت مساهمة حكومية تشارك في ملكيتها المصارف الحكومية ، مؤسسة التأمين السورية مؤسسة التأمينات الاجتماعية وغيرها من الجهات الحكومية التي تملك فوائض مالية ترغب  في استثمارها ومن ثم إخضاع هذا النوع من شركات الاقطاع العام لنمط الإدارة السائد  في الشركات المساهمة؟
  • هل نستطيع بإمكانياتنا الذاتية إنجاز عملية إعادة الهيكلة مع ما قد تقتضيه من تمويل ( استبدال وتجديد التكنولوجيا الحالية – ادخال تكنولوجيا جديدة ومتطورة – تدريب وتأهيل .. )؟ أم قد يكون من المجدي التفكير في التعاون مع شركات أجنبية تشارك في هذه العملية وتتحمل أعباء تمويلها على أن تسترد كلفها من إنتاج المنشأة بعد إعادة هيكلتها وبالمقابل تعطى حق المشاركة في الإدارة لفترة زمنية محددة أي بصيغة تشبه تقريباً عقود الخدمة المطبقة في مجال النفط    ( أي خدمة مقابل جزء من الإنتاج )؟

أياً كانت الإجابات على الأسئلة السابقة فإن مراجعة أوضاع اقتصادنا أضحت مطلباً وقضية   قد لا تحتمل المزيد من التأجيل : فتحية إلى هؤلاء الذين يملكون الجرأة على مراجعة   المألوف والمعروف .. وأنفسهم.

 

الدكتور محمد توفيق سماق