على الطريق إلى مؤتمر البعث ــ المقال رقم /69/

صحيفة تشرين– دمشق – سورية

العدد: 7715 تاريخ  6/2000/ 4

يبدو أننا في الطريق الآن لعقد المؤتمر القطري التاسع لحزبنا ، حزب البعث العربي الاشتراكي . الدعوة لعقد هذا المؤتمر كانت منذ سنوات نداء يتردد بالأمل أحياناً والوعد أحياناً أخرى ، تأهباً لقادم وتحسباً لاحتمالاته . لكن الظروف لم تسمح – على ما يبدو – إلى الآن ، لا شك بأن لذلك أسباباً ليس هنا مجال استقرائها وليست اللحظة وقت التفصيل فيها ، فالمهم في هذا كله ما أضحى مقرراً من أن الوعد سيتحقق والمؤتمر سيعقد ، المناسبة تستدعي أن يتحول الحديث من موضوع الانعقاد إلى المهمة الكبيرة التي أجدها – وربما مع كثيرين – جديرة بهذا المؤتمر وهي:

صياغة ملامح مشروع للإصلاح والتحديث ( أي مشروع معاصر ) ذي محاور ثلاثة : عقائدي – سياسي – اقتصادي.

كلمة معاصر في هذا السياق تستدعيها بإلحاح مجمل المتغيرات : المحلية والإقليمية والدولية التي جرت خلال الحقبة الفاصلة بين المؤتمرين القطريين للحزب . المؤتمر الثامن ( 1/ 1985) والمؤتمر التاسع ( 2000/6) أغلب الظن أن ذلك ضروري وأن ذلك ملح ، صوناً للحزب وإنجازاته خلال العقود الماضية وتأسيساً لعصر قادم يصنعه البعث بمشروع يستهدف في جوهره تقدم الوطن وازدهاره.

ماهي أبرز ملامح هذا المشروع المعاصر ؟

مشارف القرن الحادي والعشرين تومئ إلى عصر مختلف ، من أوضح حقائقه:

  • اتجاه العولمة لأن ترتقي لتصبح الظاهرة التاريخية للقرن الحادي والعشرين كما هو حال القومية التي أضحت الظاهرة التاريخية للنصف الثاني من القرن التاسع عشر وكذلك القرن العشرين . إن استمرار هذا النهج بتأكيد ذاته سيعني انحساراً موازياً للظاهرة القومية لمصلحة العالمية ، مما يستدعي من أي حزب قومي إجراء مراجعة معمقة لمشروعه بهدف مواءمته مع إيقاع العصر دون التخلي عن أطروحاته العقائدية الجوهرية.
  • الطبيعة الأحادية للعالم اليوم . مع تفكك منظومة الدول الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفييتي أضحى عالم اليوم أحادي الهوية مركزي النزعة تنفرد على القمة فيه الولايات المتحدة زعيمة بلا منافس حتى الآن ، مما يقيد من حرية الجنوب في الحركة ويحد من قدرته على الاختيار .
  • انحسار الاقتصاديات المخططة مركزياً وانتصار اقتصاد السوق ، بعد حرب طويلة استمرت أكثر من 70 عاماً ( منذ ثورة أكتوبر في روسيا عام 1917 ومن ثم إنشاء الاتحاد السوفييتي عام 1922 وحتى انهياره عام 1991) . مما أفقد نموذج الاقتصاد المخطط مركزياً جاذبيته في القدرة على تحقيق العدل الاجتماعي وما يقتضيه من توزيع عادل للثروة ، النموذج الذي لا يستطيع إنتاج ما يكفي من الثروة لا يستطيع الحديث عن توزيعها بما يكفي من العدل ، فمن لا يملك لا يستطيع أن يوزع.

حتى لا نكون في غربة عن العصر أو في خصام مع قيمه أجد أننا مطالبون بصياغة مشروعنا المعاصر بالارتكاز إلى حقيقتين اثنتين مع تهيئة أنفسنا للتعامل الإيجابي مع تداعياتهما المحتملة: الأولى هي : أننا لا نستطيع الخروج على العصر، الثانية هي : أننا لا نستطيع الخروج من العصر . لا نستطيع الخروج على العصر لأن موازين القوى السائدة بين شمال العالم وجنوبه لا تسمح بذلك ، فخيار الخروج على العصر في ظل حقائق القوة السائدة هو خيار معركة يمكن التنبؤ بنتائجها قبل أن تبدأ، إنها معركة خاسرة.

كما أننا لا نستطيع الخروج من العصر لأن ذلك يعني العزلة بمجاهيلها وهذا بطبيعة الحال   ما لا نسعى إليه ، وهذا ما لا نرضى به ، لذلك يبقى التكيف أقل الخيارات كلفاً وتكاليف ، مع التوضيح بأن التكيف لا يعني الاستسلام: الاستسلام هو القبول بالواقع ، أما التكيف فيعني التعامل مع هذا الواقع على أمل ووعد وعمل لتغيير موازين القوى السائدة فيه كلما كان ذلك ممكناً  ومتى كان ذلك متاحاً.

بعد الحديث عن مرتكزات المشروع وهدفه ، ربما كان من المهم أن نسأل أنفسنا هذه اللحظة :    ما هي مجالات العمل الوطني التي يمكن لمشروع كهذا أن يتناولها بالإصلاح أو التحديث   أو بكليهما معاً .

أختصر فأقول بأن أهم المجالات المقصودة ، المجالات الآتية:

المجتمع المدني

سورية من الدول التي تحكم العلاقة بين مكونات نسيجها الاجتماعي عقود قائمة على التصالح الاجتماعي والتراضي الوطني ،مما يؤهل مؤسسات المجتمع المدني فيها من : نقابات – اتحادات مهنية – منظمات شعبية – وسائل إعلام… وغيرها ، لأن تلعب دوراً أكثر حيوية في مجال العمل الوطني بشقيه الإدارة والرقابة . إن إدراج موضوع تنشيط مؤسسات المجتمع المدني في البلاد على جدول أعمال مؤتمر الحزب هام وضروري ، لأن في ذلك :

  • تعزيزاً لجناحي البناء الديمقراطي في سورية : السلطة والسلطة الموازية . السلطة التنفيذية تمارس مهام المسؤولية مما يجعلها مثقلة بأعباء الإدارة والتزاماتها ،لذلك فإن في تنشيط دور المؤسسات غير الحكومة ( أو ما يمكن أن نسميه بالسلطة الموازية ) عاملاً مساعداً للإدارة على تصويب الانحراف والتنبيه إلى الخطأ قبل وقوعه أو في بداياته . كما أن توليد الأفكار وتقديم النصح والمشورة للإدارة يوسع دائرة الخيارات أمامها مما يجنبها مأزق الخيار الوحيد أو الخيارات المحدودة ويساعد في النهاية السلطة على تحسين الأداء وزيادة مردوه . أما بالنسبة لمؤسسات المجتمع المدني فإن تعاظم دورها سيساهم في تأكيد حضورها وينمي من قدرتها على التأثير في ساحة العمل الوطني ، ذلك ما يحسب لها ويضيف لرصيدها.
  • رداً على محاولات البعض (خاصة في الخارج ) النيل من حيوية تجربتنا الديمقراطية وقدرتها على الاستجابة لشروط العصر والانسجام مع منظومة قيمه التي يكثر الحديث عنها في خضم جديد العالم ومتغيراته.

الإعلام

للإعلام أولوية خاصة في سياق الإصلاح والتحديث ، باعتباره وسيلتنا الوطنية الأهم لتقديمنا إلى العالم وتقديم العالم إلينا . فمهما كان الرأي صائباً أو النجاح كبيراً تبقى طبيعة تلقي الآخرين له وبالتالي تعاملهم معه مرتبطة إلى حد بعيد بالطريقة التي يسوق بها ، أو بكفاءة وسيلة الإعلام وقدرتها على التأثير .في عصر الثنائية القطبية عرف العالم نمطين من تكوين الرأي العام:

النمط السوفييتي وهو ما يمكن أن نسميه الإعلام بالإعلان ، والنمط الغربي وهو ما يمكن أن نسميه الإعلام بالحوار . الإعلان ترويج لقناعة أو تلقين لمقولة ، أما الحوار فهو اتصال بين فكرتين أي تأثير متبادل بين رأيين : الرأي والرأي الآخر . مع غياب الاتحاد السوفييتي غاب نمط الإعلام بالإعلان ، إلا أن إعلام دول الجنوب ظل متأثراً بدرجات متفاوتة بذلك النمط . فهل يجد مؤتمر الحزب أن الوقت قد حان لنسأل أنفسنا:  هل استطاع إعلامنا نسيان لغة الماضي ( لغة الإعلان) ? وهل استطاع إتقان لغة الحاضر ( لغة الحوار ) مع إتقان  ما تستدعيه من استيعاب للرأي والرأي الآخر?

الاقتصاد

في الآونة السابقة – غير البعيدة- كتب وقيل الكثير في قضايا الإصلاح الاقتصادي  مما يجعل من إعادة الحديث في الكثير منها تكرارا لن يضيف جديدا ذا أهمية . لذلك سأكتفي بإيراد بعض عناوين الإصلاح المطلوب ثم التوقف عند عدد قليل من القضايا ، المؤهلة بحكم أهميتها – فيما أظن –  لأن تكون من قضايا الحوار في المؤتمر.

من العناوين المقصودة : التعامل الجاد والسريع مع مشكلة الركود – الحد من الوصايات على ملكية الدولة – عقلنة الرقابة – تطوير الجهاز المصرفي… .وغيرها.

أما بالنسبة للقضايا المقترحة لأن تكون من قضايا الحوار في المؤتمر ،فأتناولها بإيجاز   في الآتي:

  • إعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام : قطاعنا العام مثقل بالهموم متعب بالمشاكل ، مما حوله إلى ماكينة كبيرة الحجم ( يملك القطاع العام حاليا نحو 45% من إجمالي التكوين الرأسمالي الثابت للاقتصاد الوطني ) بطيئة الحركة محدودة الفاعلية ، كما أن اهتزاز جدران الحماية التي نشأ في داخلها وسقوط بعض منها قد فاقم من مشاكله وزاد من همومه . جرت وتجري محاولات – مشكورة – لمعالجة أوضاع هذا القطاع ، ومع ذلك لا زال القطاع مريضاً يئن ويتألم . القطاع العام هو قبل كل شيء إنتاج سلطة الحزب ( في معظمه) ويملك جزءاً كبيراً من التوظيفات الرأسمالية للاقتصاد الوطني . إذا قدر لهذا القطاع أن يكون على جدول أعمال المؤتمر فربما يكون من الضروري التوصية بدراسة إعادة هيكلة مؤسساته وفق اعتبارين:
  • أهمية وضرورة الوظيفة الاقتصادية التي تقوم بها المؤسسة ( أو المنشأة ).
  • مستوى الريعية أو العائد الاقتصادي.

إعادة هيكلة القطاع العام ليست قضية فنية وحسب ، بل هي – قبل ذلك –عملية مؤثرة ومتأثرة بالوظائف الأساسية الثلاث لهذا القطاع:

الوظيفة السياسية : تعزيز قدرة الدولة على إدارة المجتمع.

الوظيفة الاقتصادية:  تحقيق مستوى مرض من تغطية الطلب الاجتماعي على السلع والخدمات.

الوظيفة الاجتماعية : تحقيق مستوى مرض من تغطية الطلب على فرص العمل.

أهمية تلك الوظائف تعطي لقضايا القطاع العام أهمية خاصة تؤهله لأن يكون جديرا باهتمام المؤتمر وعنايته.

  • الأجور والرواتب : لكثرة ما كتب وقيل حول المستويات المتدنية للأجور والرواتب لدينا ومنعكساتها الضارة الاقتصادية والاجتماعية يشعر المهتم بالعجز عن إضافة جديد في هذا السياق . ومع هذا تقتضي المناسبة التذكير ببعض المقولات الأساسية في علم الاقتصاد وعالم الحياة ، ومنها:  العمل مولد التنمية ، والحافز محرك العمل ، وأهم حوافز العمل هو الأجر فما هو مستوى هذا الحافز لدينا?
  • تشير البيانات الرسمية إلى أن نسبة المشتغلين في الدولة والقطاع العام تشكل نحو 42% من قوة العمل في البلاد وأن ما يزيد عن 85% من هؤلاء العاملين يتقاضون أجراً شهرياً لا يتجاوز 5300 ليرة سورية .إذا اعتبرنا أن متوسط الإعالة لدينا 5 أشخاص ، فهذا يعني أن حصة الفرد الواحد من أسرة المشتغل في الدولة والقطاع العام بحدود 1060 ل.س شهرياً علما بأن خط الفقر المتعارف عليه دولياً هو 1 دولار أمريكي للشخص الواحد يومياً. إن هذا المستوى المتدني للأجور والرواتب قد أفقد الأجر وظيفته كحافز،لا بل أكثر من ذلك لقد حوله إلى كابح للعمل وبالتداعي للتنمية. فلنحاول إعادة الوظيفة الأساسية للأجر بزيادته، فالعامل يطالبنا بذلك وضرورات التنمية تدعونا للاستجابة فهل يوصي المؤتمر بالاستجابة لمطالب العمال وضرورات التنمية?
  • الشراكات العربية والإقليمية : من النتائج الهامة للتحولات العالمية انفتاح الأسواق وتحرير التجارة وتسهيل حركة رؤوس الأموال وتيسير انتقال العمالة ( في بعض الحالات). بنتيجة ذلك اهتزت أسوار الحماية وسقط بعضها مما دفع بالعديد من دول العالم للتكتل اقتصادياً والشركات الكبرى للاندماج ، هدف ذلك تعزيز القدرة التنافسية للمتكتلين والمندمجين بالاستفادة من المزايا التي تتيحها اقتصاديات الحجم الكبير ، ومنها:
  • تحرير طاقات إنتاجية كامنة نتيجة لتحرير التبادل التجاري بالنسبة للدول ، وبالتالي زيادة في الموارد ونمواً في الدخل وتطوراً في مستويات المعيشة والحياة.
  • تخفيض كلف الإنتاج مع تخفيض كلف البحث والتطوير وتنامٍ في القدرات الإعلانية والتسويقية للشركات، مما يساهم في زيادة نصيبها من الأسواق المحلية والعالمية.

نحن في سورية نعيش مناخ الانفتاح هذا ، فأسواقنا بدأت الانفتاح والمتوقع هو الاستمرار بحكم جملة من العوامل ، من أبرزها – اقتصادياً – الشراكات العربية والإقليمية التي أنشأناها مع أطراف أخرى أو نحن بصدد إنشائها ، وهي:

  • الشراكات العربية في إطار منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى المتوقع الانتهاء من تطبيق برنامجها التنفيذي حتى 2007/1/1 – الاتفاق السوري اللبناني لتحرير تبادل المنتجات الوطنية بين القطرين الشقيقين حتى عام 2002 – منطقة التجارة الحرة السورية الإماراتية حتى عام 2003 – مشروع منطقة التجارة الحرة السورية السعودية … وغيرها.
  • الشراكة الأوروبية – المتوسطية القائمة على الأسس العامة لإعلان برشلونة ( 11/ 1995).
  • الاستحقاقات المترتبة على انضمام الشركاء التجاريين الرئيسيين لسورية إلى منظمة التجارة العالمية ( نحو 132 دولة في العالم منها 14 دولة عربية منضمة أو قيد الانضمام). مناخ الانفتاح هذا يرتب علينا إعادة تأهيل اقتصادنا للتعامل مع الواقع الجديد ، ذلك ضروري لأن نكون طرفاً محاوراً في تلك الشراكات نتبادل المصالح مع شركائنا ، مستفيدين من تجارب البعض الذين قصروا في إعداد أنفسهم عند دخولهم في شراكات مشابهة فتحولوا من طرف  إلى ضحية ! فهل يتوقف المؤتمر ليدرس عملية إعادة التأهيل : مبدأ ومستلزمات؟
  • اقتصادنا واحتمالات السلام : إصرارنا على السلام المقرون بالعدل أكسب سورية وقياداتها احترام العالم ، وأضاف لرصيدها مزيداً من تعاطف الأصدقاء ودعمهم . وعلى الرغم من تهرب إسرائيل من استحقاقات السلام حتى الآن، إلا أنه يمكن القول بأن عملية السلام قد تعطلت دون أن تتوقف ، ذلك يجعل من السلام احتمالاً : قد يتحقق وقد يتعطل.

بالإضافة إلى ما سبق فالتسويات التي أقدمت عليها بعض الدول العربية مع إسرائيل ، وتداعياتها من محاولات – تنشط وتخبو حسب الظروف – لإقامة سوق شرق أوسطية أو مشاريع ثنائية بين بعض الدول العربية وإسرائيل . ذلك كله يدفعنا للقول بأن المنطقة ستشهد في المستقبل صراعاً عنيفاً على الدور والنفوذ بين القوى الإقليمية الرئيسية فيها ، وسورية بطبيعة الحال في   مقدمتها ، اقتصاد إسرائيل متقدم علمياً وتكنولوجياً وهو منفتح بالأصل على العالم ، مما يرتب علينا الإسراع في إصلاح اقتصادنا وتحديثه بهدف تقليص فجوة التقدم وتعديل موازين القوى بقدر المستطاع . ذلك ضروري للحفاظ على مواقعنا الاقتصادية في المنطقة وتطويرها إن أمكن ، وهو أيضاً حيوي للحفاظ على دورنا العربي والإقليمي وتعزيزه وفق ظروف الواقع ومقتضياته.

كلا الأمرين مرغوب وكلاهما مطلوب . فهل يعالج المؤتمر مستلزمات إنجاز ذلك ، وهل  يوصي بتوفيرها .

وأخيراً فلنسر على الطريق إلى مؤتمر البعث … زادنا الجرأة في مراجعة أنفسنا .. حافزنا حق الوطن في مستقبل راياته التقدم وأعلامه الازدهار ونداؤه:                  أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.

 

 

الدكتور محمد توفيق سماق