فضائل الأزمة المالية العالمية ــ المقال رقم /125/

صحيفة الثورة   – دمشق – سورية

العدد:   13721 تاريخ  9/2008/ 24

 

قد يبدو العنوان غريباً سيما وأن الجميع يتحدث اليوم عن مخاطر الأزمة الراهنة وخسائرها وآثارها السلبية على الاقتصاد العالمي ، مع ذلك أجد في هذه الأزمة فضائل عديدة ، منها: تذكير العالم بطبيعة الرأسمالية ومنها كذلك الاعتراف الأمريكي بالدور الاقتصادي للدولة وقد يكون من نتائجها أيضاً كبح جماح تطرف الأصولية الرأسمالية في دول الجنوب التي تسمي نفسها اليوم الليبرالية الاقتصادية بما يجعلها أكثر اعتدالاً وأقل اندفاعاً في سعيها المحموم لفرض أنظمة سوق اقتصادية تتجاوز في سوقيتها أحياناً ما هو معمول به في أمريكا وأوروبا .

الأزمة بدأت مؤخراً كما هو معروف بما سمي أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية وكان من تداعياتها إفلاس مصارف وشركات تأمين عملاقة . فمصرف ليمان برازر في الولايات المتحدة الأمريكية الذي أعلن إفلاسه قبل أيام يعتبر رابع أكبر مصرف في الولايات المتحدة بالإضافة الى أنه من أعرق المصارف الأمريكية فقد أسس منذ نحو 158 سنة .قام المصرف بطلب الحماية من الدائنين بموجب القانون الأمريكي ، حيث أمرت محكمة تجارية في نيويورك بوضعه تحت الحراسة القضائية لإدارته بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه فقيمة ديونه (613 بليون دولار أمريكي ) وصلت الى ما يقارب قيمة موجوداته  (633 بليون دولار ) .كما أن شركة التأمين الأمريكية العملاقة  AIG    ( American International Group) شارفت على الإفلاس لولا تدخل الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية لإنقاذها . بالإضافة الى إفلاس وانخفاض أسعار أسهم العديد من الشركات العقارية والمؤسسات المالية الأمريكية الكبيرة الأخرى ، مع توقعات الكثير من المهتمين والمحللين بازدياد الوضع سوءاً في الفترة القريبة القادمة .

ما سبق يستدعي السؤال التالي : هل الأزمة المالية الراهنة أزمة طارئة صنعتها سياسات مالية واقتصادية خاطئة أم أنها أزمة قديمة متجددة تنتجها ومثيلاتها بشكل دوري طبيعة النظام الرأسمالي ( أو الليبرالي ) ؟

السياق التاريخي للرأسمالية يؤكد أن الأزمة إنتاج النظام والسياسات الخاطئة ليست أكثر من مناسبة لظهور الأزمة وليس لصناعتها ، أي أن السياسات تكون عادة _ كما نقول نحن العرب _ الشعرة التي تقسم ظهر البعير . القرن الماضي شهد الأزمة الأولى في عام 1929 بانهيار سوق نيويورك للأوراق المالية ( وول ستريت ) ، وفي عام 1971 أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون من طرف واحد على إلغاء اتفاقية بريتون وودز التي أبرمت عام 1944 من خلال مؤتمر دولي أريد منه وضع أسس النظام النقدي الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية ، ومن بين تلك الأسس التزام الولايات المتحدة الأمريكية باستبدال كتلة النقد المتداولة عالمياً بالدولار الأمريكي بما يقابلها من الذهب وفق سعر تعادل محدد . كان ذلك الإلغاء انعكاساً لأزمة الاقتصاد الأمريكي في تلك الفترة والتي لعبت حرب فيتنام دوراً رئيسياً فيها . بعد ذلك تتالت الأزمات المالية في النظام الرأسمالي    العالمي ، أزمات الاقتصاد الأمريكي عام 1987 وعام 1990 وأزمة دول جنوب شرق آسيا عامي 1997و1998 … وغير ذلك العديد من الأزمات المحلية أو الأقل أهمية . في تلك الأزمات كانت المشاهد الرئيسية متشابهة . يسبق الأزمة في العادة دعوات منظري الرأسمالية لتخلي الدولة عن دورها الاقتصادي لتتحول الى دولة خدمات تعنى بشؤون السياسة الخارجية والدفاعية وأحياناً يضاف الى تلك الوظائف بعض المهام المتعلقة بالصحة والتعليم . على أن تتولى ما يسمى ” باليد الخفية للسوق ” تنظيم جوانب الحياة الاقتصادية بما يجنب الاقتصاد الأزمات والمجتمع الهزات ، وفي الواقع يتضح بأن هذه اليد الخفية ليست إلا إخطبوط المال وشبكات المصالح التي لا تنتمي الى وطن إلا الثروة ولا عقيدة إلا الربح . وقد لخص أحد كبار اقتصاديي الرأسمالية في القرن العشرين الأمريكي الراحل ميلتون فريدمان ذلك بقوله : إن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة للبيزنس (أي الأعمال ) هي أن يزيد أرباحه .

من هنا تنشأ أزمات الرأسمالية لكن مع نشوء الأزمة وظهور تداعياتها وانعكاساتها على المجتمع تبدأ الأصوات تعلو مجدداً مطالبة الدولة بالتدخل لكن ليس لحماية المجتمع إنما لحماية جشع رأس المال وأموال المضاربين ، أي أن المجتمع هو الخاسر في الحالتين عند انسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية ونشوء الأزمة وعند عودة الدولة للتدخل في الحياة الاقتصادية لمواجهة الأزمة وإطفائها . ففي الأزمة الراهنة أعلنت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عن تخصيص نحو 800 بليون دولار أمريكي من أموال دافعي الضرائب لمواجهة الأزمة ، كما اقتدت بها العديد من حكومات الدول الأخرى  فبنك إنكلترا خصص20 بليون جنيه استرليني ( نحو 36 بليون دولار أمريكي ) كذلك خصص البنك المركزي الأوروبي 100 بليون دولار والياباني نحو 15 بليون دولار بالإضافة الى ما خصصته أستراليا وروسيا …. وغيرها للغرض نفسه . ربما كانت الفضيلة الأبرز لذلك هو اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية وهي زعيمة النظام الحر _كما تسمي نفسها _ وإقرارها بدور الدولة في مواجهة هذه الأزمة ، علماً بـأنها لا تكل ولا تمل من مطالبة دول العالم الأخرى خاصة دول الجنوب بالانسحاب من الحياة الاقتصادية تحت دعاوي مختلفة كالحرية الاقتصادية وتحريض المبادرة الفردية وتوفير شروط المنافسة العادلة …وغيرها .

بقيت رغبة أعرضها بهذه المناسبة وأجدها بمثابة فضيلة أخرى للأزمة العالمية الراهنة إذا تحققت وهي أن يمعن حملة لواء الليبرالية لدينا التفكير بما يدعون إليه من انسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية وصولاً الى استقالتها من دورها الاقتصادي . فإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تقّر من خلال إجراءاتها التي أشرنا إليها سابقاً بأهمية الدور الاقتصادي للدولة وتعترف به ، أليس من الغلو والتطرف أن نطالب دول الجنوب بالانسحاب أو الاستقالة من الحياة الاقتصادية بحجة الإصلاح ؟

إمام المصلحين الرسول العربي الكريم يقول :

 ” إياكم والغلو  في الدين فقد هلكت أمم قبلكم لغلوها في الدين ” .

الرسول الكريم ينهى عن الغلو حتى في الدين فهل يجوز للبعض الغلو في الرأسمالية بدعوى الإصلاح ؟!

 

                                                       الدكتور  محمد توفيق سماق