قضايا ملحة لتطوير الأداء في القطاع العام الحلقة الأولى ــــ المقال رقم /20/

صحيفة البعث – دمشق – سورية

العدد :9445   –   تاريخ: 6/6/1994

للقطاع العام في سورية دور أساسي في عملية التنمية تمليه الضرورات الموضوعية الاقتصادية منها والاجتماعية  فمن الناحية الاقتصادية لابد أن تتصدى الدولة لإنشاء و إحداث العديد من المشاريع الهامة و الحيوية التي قد لا يقدم القطاع الخاص على إنشائها و تنفيذها رغم أهميتها الكبيرة ، وذلك إما لاعتبارات ارتفاع تكاليفها الاستثمارية أو طول مدة تنفيذها أو انخفاض عوائدها المباشرة و مشاريع من هذا النوع ( مثلاً : مشاريع البنية التحتية – النفط و الغاز – الأسمدة – الصناعات الالكترونية .. ) قد تكون أساسية لنمو القطاعات الاقتصادية المختلفة كالصناعة _ الزراعة – البناء و التشييد .. وغير ذلك مما يحتم بالضرورة قيام الدولة بعبء إنشائها و تشغيلها .

ومن الناحية الاجتماعية ، فإن وجود قطاع عام قوي و كبير و يعمل بشكل اقتصادي يشكل مساهمة أساسية في تحقيق تنمية اجتماعية تكفل إيجاد فرص عمل جديدة و متزايدة للقوى التي تدخل سوق العمل دورياً ، كما أنه عامل منظم و محدد لعلاقات عمل موضوعية و إنسانية تنتقل بشكل آلي و منطقي إلى بقية قطاعات الاقتصاد الوطني ، مما يساهم في ترسيخ مبادىء العدالة في علاقات العمل على المستوى الوطني .

لقد كان للقطاع العام و لازال دور أساسي في عملية التنمية ، للاعتبارات السابقة و لاعتبارات  موضوعية أخرى لا بد لهذا الدور من الاستمرار .

إن الاهتمام الذي توليه الدولة للقطاع الخاص و القطاعات الاقتصادية الأخرى يجب ألا يحجب عنا هذه الحقيقة و يجب ألا يعني ذلك أن ثمة تناقضاً بين هذه القطاعات على الاطلاق فالتعددية الاقتصادية يمكن اعتبارها آلية إنمائية تسمح بنشوء اقتصاد تتعدد فيه أشكال ملكية وسائل الإنتاج من عام و خاص و مشترك ، اقتضتها ضرورات التطور و عززت من أهميتها المتغيرات الجديدة في عالم اليوم ، و هي تكفل التشجيع لسائر القطاعات الوطنية المتاحة مع الحفاظ على الدور الأساسي للقطاع العام .

و لكي يستطيع القطاع العام القيام بدوره هذا يجب أن يكون قوياً معافى و كي يكون كذلك لا بد من رصد العوائق في مساره لإزالتها و توصيف الثغرات و تحديد المشاكل في بنيانه و آلية عمله لمعالجتها أو التخفيف من آثارها حيث كان ذلك ممكناً و بأسرع ما تسمح به معطيات الواقع و ظروفه. و هذه الدراسة مساهمة في هذا المجال سنتناول فيها بالبحث بعضاً من أهم القضايا التي تؤثر على أداء القطاع العام بهدف معالجتها بغية تحسين مردوده الاقتصادي و تفعيل دوره الاجتماعي و هذه القضايا هي :

1_ القواعد الحاكمة للإدارة .

2 _ أسلوب التخطيط .

3 _ الأنظمة و التشريعات .

4_ المستوى التكنولوجي و الفني .

5 _ الرقابة و التفتيش .

6 _ الحافز الفردي و الجماعي .

1 – القواعد الحاكمة للإدارة :

مع بداية مرحلة التأميم في سورية و توسع ملكية الدولة و نشوء قطاع فعال و كبير عهد إلى الأجهزة البيروقراطية القائمة آنئذ بإدارة القطاع العام في وقت لم تكن تلك الأجهزة مؤهلة لممارسة مسؤولية من هذا النوع تمكنها من إدارة ملكية الدولة بشكل اقتصادي. و قد دفع هذا بالقيادة السياسية للدولة للتدخل و في فترات مختلفة لتدارك هذا النقص و سد الكثير من الثغرات ، حيث أصدرت العديد من التشريعات بهدف رفع مستوى الأداء الإداري ( مثلاً إصدار المرسوم ١٨ الناظم لعمل مؤسسات القطاع العام ثم القانون رقم ١ الناظم لعمل شركات الإنشاءات العامة ..   و غير ذلك) . إلا أن هذا لم يحل المشكلة الإدارية و إن كان قد ساهم في بعض المراحل بالتخفيف من حدتها ، مع مرور الزمن تراكم لدينا في مجال إدارة ملكية الدولة عدد من القواعد غير السليمة القائمة على مبدأ الوصاية الشاملة للمالك أو من يمثله من جهات سياسية و تنفيذية على الإدارة بدءاً من التخطيط انتهاء بالعديد من الجوانب التفصيلية للعملية الإدارية .

و على مدى ما يزيد عن ربع قرن عمل العديد من الأجهزة البيروقراطية النافذة في مجال الإدارة الاقتصادية على ترسيخ هذه القواعد مستخدمة لذلك كل الوسائل و السبل المتاحة حتى وصل الحال إلى تعطيل التشريع أحياناً عن طريق الأوامر الإدارية . من أوضح النتائج العملية لممارسة الإدارة وفق هذه القواعد :

تعدد الجهات التي تعتبر بحكم التشريع أو تعتبر نفسها بحكم الواقع وصية على عمل القطاع العام دون أن تكون مسؤولة عما يحققه من نتائج ، بحيث أصبحت الصلاحية تمارس بشكل جماعي و من جهات متعددة أما المسؤولية فمحدودة و أحياناً فردية تتحملها في الغالب الحلقة الأضعف في الجهاز الإداري .

لقد أدى ذلك إلى خلل بين في المعادلة الضرورية لتطوير كفاءة الأداء الاقتصادي في القطاع العام ، ألا  وهي معادلة التوازن بين الصلاحية و المسؤولية .

إن حالة خلل التوازن هذه التي تعيشها إدارة القطاع العام قد أفرزت العديد من النتائج أهمها :

– الهروب من تحمل المسؤولية بحيث أصبح تجيير المسؤولية هو القاعدة و التصدي لها هو الاستثناء .

– عجز الموقع الإداري عن اتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب .

– البحث عن الحماية في النصوص و التعليمات الإدارية من جهة و لدى الجهات المعنية بالمساءلة من جهة أخرى . مما عقد الإجراءات الإدارية و أسهم بشكل كبير بانتشار و تعميم الروتين و تسليط الأسلوب البيروقراطي على العمل و دفع الكثير من شاغلي المواقع الإدارية لممارسة الولاء الشخصي للمستويات الوظيفية الأعلى ، و بطبيعة الحال كل ذلك على حساب العمل و الإنتاج .

تلك النتائج كانت أهم مدخلات آلة الكبح لكثير من جوانب العملية الاقتصادية في سورية . إن آلة الكبح هذه تنتج و تراكم الأزمات و المشاكل في اقتصادنا الوطني منذ زمن طويل .

لقد دلت تجارب العديد من الدول المتقدمة و النامية على أن تحرير ملكية الدولة من قيود الوصاية و كوابح السيطرة يقتضي ضرورة التخلي التدريجي عن مبدأ وصاية المالك على الإدارة وصولاً إلى الأخذ بالمبدأ القائل بالفصل بين المالك و الإدارة . إن الأخذ بهذا المبدأ و اعتماد نظرية إدارية جديدة تقوم على أساسه يستلزم كمدخل أمرين اثنين :

أ – التحديد الدقيق للشخصية الاعتبارية التي تمثل الدولة في ملكيتها ( وزارة ، مؤسسة ،  أو غيرها ) بحيث تكون هي الجهة  الوحيدة المخولة بالتعامل مع الغير في ما يتعلق بشؤون و قضايا هذه الملكية .

ب _ تنظيم العلاقة بين الطرفين المالك و الإدارة بشكل عقدي ، و ليس بشكل أوامر فوقية . العلاقة العقدية الجديدة ينبغي أن تكفل حقوق كلا الطرفين و توضح واجباتهما على أن تنظم وفق مجموعة من التشريعات تضعها الدولة مسبقاً لهذه الغاية . في نهاية كل دورة إنتاجية تجري عملية تقييم لمستوى الأداء بحيث يكون الهدف الاقتصادي المنصوص عليه عقدياً أساس التقييم و غايته . و غني عن القول أن الكادر الإداري الذي سيتولى ممارسة العملية الإدارية على الأساس المشار إليه آنفاً يجب أن يكون من سوية تتناسب و حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه من حيث الخبرة و الكفاءة و المقدرة الشخصية على تحمل المسؤولية و ممارسة الصلاحية . إن تحقيق ذلك يقتضي بالضرورة التأكيد على اعتماد الأسس الموضوعية و العملية في اختيار الإدارات بعيداً عن الاعتبارات الشخصية و الانتماءات الأخرى المختلفة . ذلك ما هو معتمد في الدول الصناعية المتقدمة و هو ما يجري الأخذ به حالياً و بأشكال مختلفة في الدول الأقل   نمواً .

2 – أسلوب التخطيط

التخطيط أداة رئيسية لإدارة عملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية في بلد ما . و نظراً لاختلاف الظروف بين بلد و آخر و كذلك بين مرحلة تطور و أخرى بالنسبة للبلد الواحد ، فإن مستوى كفاءة أساليب التخطيط و بالتالي مردود الخطط بأكملها يعتمد إلى حد بعيد على الإدراك الدقيق للظروف الموضوعية للبلد المعني بالخطة و سمات المرحلة التي يراد التخطيط لها .

تأسيساً على ذلك فإن مرحلة التطور التي بلغها الاقتصاد الوطني في سورية و خاصة توسيع نشاطات قطاعاته المتعددة عام ، خاص ، مشترك و تعاوني بفعل التعميق المتزايد لنهج التعددية الاقتصادية يقتضي ضرورة تطوير أساليب التخطيط المألوفة سابقاً لدينا في سورية بحيث نصل إلى تحقيق صلة وثيقة بين الخطة و السوق ( الداخلية و الخارجية ) .إن الأمر الجوهري في ذلك هو إيجاد الصيغ العملية التي تحقق عملية الربط المنشودة  تلك ، و نقترح في هذا المجال اعتماد التوجه الأساسي التالي عند وضع خطط  الدولة  و تنفيذها : يعهد إلى هيئة تخطيط الدولة وضع الخطط الطويلة الأمد و الخطط ذات الأجل المتوسط . أما الخطط السنوية فتترك للمؤسسات و الوحدات الاقتصادية بالتنسيق مع هيئة تخطيط الدولة وفقاً للمنطلقات التالية :

أ _ تقوم هيئة تخطيط الدولة بإعداد الدراسات المتضمنة التنبؤات و التقديرات عن التطور الاقتصادي في الأمد الطويل و ذلك على قاعدة من المعلومات الدقيقة و المتجددة المبنية على إحصاءات سليمة و دورية .

ب – بعد ذلك تقوم هيئة تخطيط الدولة بإعداد الخطط ذات الأجل المتوسط ( خمس سنوات) تقدم فيها تقديراتها الأولية عن النمو الممكن للاقتصاد الوطني خلال هذه الفترة ، تعتبر هذه الخطط الخمسية ذات طابع إرشادي توجيهي بشكل عام مع استثناءات إلزامية بالنسبة لبعض المؤشرات المتعلقة بتوجيهات أو منتجات ذات طابع استراتيجي .

ج – تقوم إدارات المؤسسات و الوحدات الاقتصادية بوضع خططها السنوية الفرعية الخاصة بها و كذلك البرامج التنفيذية لها في ضوء توجهات الخطة الخمسية العامة للدولة بالتنسيق مع المالك و هيئة تخطيط الدولة بما يحقق استغلال الطاقات المتاحة بهدف الوصول إلى نسبة النمو المقررة على أن يترك للإدارة التكيف بنوع الإنتاج حسب متطلبات السوق .

د – تستمر هيئة تخطيط الدولة في مراقبة التطور الاقتصادي و متابعة سير الخطة الخمسية مع الخطط السنوية للمؤسسات و الوحدات الاقتصادية ، و عند ظهور التباين بين الخطة و الواقع يتوجب التحليل و التدارك .

إن الأخذ بهذا النهج ينطلق من اعتبار المؤسسات والوحدات الاقتصادية التي تقوم بعملية الإنتاج هي الأكثر قدرة على كشف و توظيف جميع الإمكانيات المؤدية إلى زيادة المردود و تحسين الإنتاج بما ينعكس تطويراً مستمراً لأساليب عمل الإدارات المعنية و يؤدي بالتالي إلى رفع مستوى كفاءة الأداء للاقتصاد الوطني ككل .

                                                                       الدكتور محمد توفيق سماق