لماذا أصبحت روسيا أطلسية ؟ ــ المقال رقم /81/

صحيفة الثورة – دمشق  – سورية   

العدد :11820  تاريخ 20/6/2002   

في 28/5/2002 وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظرائه قادة الدول الـ 19الأعضاء في حلف شمال الأطلسي و في مقدمتهم الرئيس الأمريكي جورج بوش          على وثيقة أرست قواعد علاقات جديدة بين روسيا و الحلف سميت بإعلان روما . جاءت هذه الوثيقة في سياق مسار طويل و متعرج بين الطرفين استمر من سقوط الاتحاد السوفييتي نهاية عام 1991و حتى الآن . فبعد انتهاء الحرب الباردة و تفرد الولايات المتحدة الأمريكية على قمة العالم زعيمة وحيدة بلا منازع ، حاول الحلف تعزيز حضوره العالمي على حساب خصمه الاتحاد السوفييتي و مجموعة الدول الاشتراكية السابقة   التي ارتبطت به و من بين محاور تعزيز هذا الحضور كان رغبة الحلف في التوسع شرقاً أي في الدول التي كانت حليفة للسوفييت . اعتبرت روسيا ذلك تهديداً مباشراً لأمنها فعارضته ، و لطمأنتها قام الحلف في عام 1997 بتشكيل مجلس مشترك ضم دول الحلف الـ 19 بالإضافة إلى روسيا سمي بمجلس الـ ( 19+1 ) بهدف معلن يقضي بتوفير مستوى مرضٍ من التنسيق بين الطرفين . عملياً تحول مجلس الـ ( 19+1 )   إلى مجلس الـ 19 ضد واحد كما وصفه بعض الدبلوماسيين الروس، حيث استمر الحلف في التوسع شرقاً على الرغم من المعارضة الروسية فانضمت إلى عضويته في عام 1999كل من بولونيا ، وهنغاريا ، وتشيكيا. و من المتوقع أن يعلن عن انضمام دول أخرى إلى عضوية الحلف في القمة المتوقع عقدها في وقت لاحق من هذا العام  في مدينة براغ التشيكية و من بينها ثلاث دول كانت من دول الاتحاد السوفييتي السابق ، هي دول بحر البلطيق الثلاث : أستونيا ، ولاتفيا ، و ليتوانيا . أما إعلان روما فقد نص على تأسيس مجلس جديد للشراكة سمي في وسائل الإعلام بمجلس الـ 20  بدلاً  من مجلس الـ ( 19+1 ) كما كان الحال منذ عام 1997، و تغيير التسمية يوحي بتحول العلاقة من علاقة تعاون بين طرفين ( دول الحلف و روسيا ) إلى علاقة شراكة بين 20 شريكاً متساوين في الحقوق و الالتزامات ، منهم الشريك الروسي   والأمريكي .. و غيرهما. لكن هل لتغيير التسمية مضمون حقيقي من الناحية العملية ؟

ورد في إعلان روما أن هدف الشراكة الجديدة مكافحة الإرهاب ، والحد من التسلح ،  و إدارة الأزمات . يتضح من تلك الأهداف بأن الهم الأمريكي بعد أحداث ١١ أيلول   هو المحدد الأهم لأهداف الشراكة و محاور حركتها . نص إعلان روما أيضاً على حق كل طرف بسحب أية قضية معروضة على المجلس إذا لم تحظَ بالإجماع ، مما يعني  أن الدول الأعضاء في الحلف يمكنها سحب أية قضية لا تحظى بموافقة روسيا و بحثها فيما بينهم و اتخاذ ما يلزم من قرارات بشأنها مما يحرم روسيا من حق الاعتراض  من خلال مجلس الشراكة . هذه الآلية تحول روسيا إلى طرف شريك للغرب طالما كانت موافقة ، وطرف غريب متى كانت معارضة أي شريك بالموافقة        و غريب بالمعارضة ؟

الرئيس جورج بوش وصف في كلمته أثناء حفل التوقيع  ، الحدث بأنه لحظة تاريخية . وأضاف ” أصبح عدوان سابقان اليوم شريكين تجاوزا 50عاماً   من الانقسامات      و عقداً من الشكوك ” . أما الرئيس الروسي بوتين فقد أعرب عن أمله ” في أن تشكل الوثيقة أساساً لعمل مشترك و ليس مجرد إعلان نوايا … أضاف بأن الجانبين عبرا درباً طويلاً من المجابهة إلى الحوار والتعاون وشرعا في بناء علاقات جديدة مع الطموح إلى إنشاء فضاء أمني موحد من فانكوفر( في كندا ) غرباً إلى فلاديفوستوك شرقاً ( تقع في أقصى الشرق الروسي بالقرب من اليابان ) ”  . و بصرف النظر عن عبارات بوش و بوتين التي لا تنقصها البلاغة الإنشائية ما جرى يستدعي السؤال الآتي:  ما الذي جعل روسيا تقبل شراكة هي في الواقع أقرب للتبعية مما دفع بعض وسائل الإعلام لوصف روسيا بعد إعلان روما بروسيا الأطلسية ؟

أغلب الظن أن جوهر الإجابة على هذا السؤال يكمن في جملة واحدة ، هي: الخلل الكبير في موازين القوى بين روسيا و الغرب عموماً و الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص . من مؤيدات الاستنتاج السابق ، الوقائع الآتية: تعتبر جمهورية روسيا الاتحادية الدولة الأولى من حيث المساحة في العالم ، فمساحتها نحو 17 مليون كيلو متر مربع ( تشكل نحو 11,5 ٪ من مساحة الأرض ) يقطنها حوالي 148مليون نسمة . تملك البلاد ثراءً هائلاً في الموارد الطبيعية : النفط – الغاز الطبيعي – الفحم – الذهب – ألماس…. وغيرها.

على الرغم من ذلك فاقتصادها يعاني مشكلات عديدة ومتداخلة ، بعضها يعود لإرث الماضي و بعضها الأخر سببه الحاضر بظروفه وتعقيداته . فمطلع القرن الحالي: لم يتجاوز الناتج الحلي الإجمالي للبلاد 329مليار دولار أمريكي   ( تعادل 3,7٪ من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية ) كما أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بلغ 2250دولاراً أمريكياً بينما بلغ هذا الرقم نحو 32000دولار في الولايات المتحدة . كما أن مديونية روسيا الاتحادية للعالم الخارجي بلغت 174مليار دولار أمريكي ، تشكل 53% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد ، وهي من نسب المديونية المرتفعة في المقياس العالمي ( أما الولايات المتحدة فهي غير مدينة للعالم الخارجي ) . ومن الناحية العسكرية صحيح أن روسيا تمتلك مخزوناً كبيراً من الأسلحة النووية و قدراتها العسكرية التقليدية فوق الشبهات ، لكن تردي الأداء الاقتصادي للبلاد يجعل من دخولها في سباق أو حتى تنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية أمراً غير واقعي لدرجة يمكن القول بأنه عملية مستحيلة . ففي أواخر التسعينات بلغت ميزانية الدفاع المعلنة في الولايات المتحدة 287 مليار دولار أمريكي شكلت 3,9% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد ، بينما بلغت ميزانية الدفاع المعلنة في روسيا 82 مليار دولار فقط شكلت 25% من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة نفسها . ذلك يعني أن تخصيص روسيا لميزانية دفاعية تساوي الميزانية الدفاعية الأمريكية كان يقتضي تخصيص نحو 84% من ناتجها المحلي لأغراض دفاعية ، و هذا ما يجعلنا نتحدث عن المستحيل عملياً . مشكلة التردي الاقتصادي في روسيا  هي في جزء منها مشكلة موروثة من العصر السوفييتي ، وقد كانت – حسب رأي العديد من المحللين و المهتمين – من بين الأسباب التي أدت إلى هزيمة الاتحاد السوفييتي و معه منظومة دولية كاملة في حرب طويلة و مكلفة سميت بالحرب الباردة ، وطبيعي أن يكون صانع القرار الروسي أكثر إدراكاً لهذه الوقائع – وغيرها – من أي طرف آخر . يبدو أن هذا الإدراك قاده إلى استنتاج عملي مؤاده الآتي:

طالما أن الصراع مع الغرب أضحى مستحيلاً فلنقبل من التعاون بالمعروض   منه ، أليست السياسة – كما يقال – هي فن الممكن ؟

هنا يطرح نفسه و بإلحاح سؤالاً آخر : ماهي معاني القبول الروسي بالممكن الأمريكي ؟ لاشك بأن المعاني عديدة يخرج التوسع في تحديدها و توصيفها  عن هذا المجال ، لكن باختصار نقول أن من المعاني الآتي :

  • على الرغم من أن جمهورية روسيا الاتحادية هي الدولة الخلف للاتحاد السوفييتي السابق من الناحية القانونية إلا أنها ليست خلفاً سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً .
  • إقرار روسيا بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية لعالم اليوم .
  • على الآخرين تكييف أوضاعهم – رضا أو ضرورة – مع الواقع الروسي الجديد .

والأهم من ذلك كله – وفق ما أرى – إن إعلان روما هو إعلان إضافي آخر للعالم بأن :

الولايات المتحدة الأمريكية هي زعيمة عالم اليوم بلا شريك ….

وأن الاتحاد السوفييتي مات و ليس له وريث .

 

الدكتور محمد توفيق سماق