” ماذا يحدث في تركيا؟ ” عنوان المقال الأصلي ” هل يعود العسكر لحكم تركيا ” تم التغيير من قبل الصحيفة لعدم إثارة الحساسية التركية تجاه دور العسكر في تركيا ـــ المقال رقم / 114/

صحيفة الثورة – دمشق – سورية

العدد: 13306 تاريخ 10/5/2007

مناسبة  هذا السؤال هي الأزمة السياسية التي تعيشها تركيا حاليا والدور الذي يلعبه الجيش فيها ، فكيف بدأت هذه الأزمة وما هي تداعياتها ؟

انتخب رئيس الجمهورية الحالي أحمد نجدت سيزار في 16/5/2000 لمدة سبع سنوات غير قابلة للتجديد وفق أحكام الدستور التركي . مع اقتراب نهاية الولاية الدستورية للرئيس سيزار في أيار الحالي تسربت أنباء عن احتمال ترشح رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية ذي الأصول الإسلامية لمنصب رئاسة الجمهورية فدفع ما يعرف في تركيا بالتيار العلماني بمظاهرات حاشدة لشوارع بعض المدن التركية تعارض وصول أردوغان إلى رئاسة الجمهورية بدعوى الحفاظ على علمانية الدولة ومواجهة نشر الأصولية الإسلامية في تركيا، وقد أعلنت قيادة الجيش التركي في بيانها الأول في 12/4/2007 موقفا محايدا في الصراع على رئاسة الجمهورية.

مع ذلك أعلن أردوغان عن عدم وجود نية لديه للترشح لمنصب الرئاسة وتبع هذا الإعلان بأيام ترشيح الحزب لوزير الخارجية الحالي عبد الله غول للمنصب ، حيث قال أردوغان في خطاب له أمام الكتلة البرلمانية لحزبه ” في ختام مشاوراتنا اخترنا أخي عبد الله مرشحا عن الحزب . حزب العدالة والتنمية .ليصبح الرئيس الحادي عشر للجمهورية التركية”.

بعد ذلك وفي آخر شهر نيسان الماضي عقد البرلمان التركي جلسة انتخابية لم يستطع غول الحصول على الأغلبية المطلوبة للفوز فيها حيث حصل على 357 صوتا وهي أصوات نواب حزب العدالة والتنمية . حسب الدستور التركي يجب على المرشح الحصول على ثلثي أصوات أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 550 نائبا للفوز من الجولة الأولى ، أي كان على غول الحصول على 371 صوتا . وفق أحكام الدستور تجري جولة ثانية لانتخاب الرئيس يشترط لفوز المرشح فيها الحصول أيضا على أصوات ثلثي أعضاء المجلس . وفي حال عدم تحقق ذلك تجرى جولة ثالثة حاسمة يشترط للفوز فيها حصول المرشح على 50%+1 واحد فقط وهذه الأغلبية متوفرة لحزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي ، وقد طالبت المعارضة في البرلمان إبطال نتائج الجولة الأولى بدعوى عدم توفر النصاب لانتخاب رئيس الجمهورية أي ثلثي أعضاء المجلس.  أثناء عرض الدعوى أمام المحكمة الدستورية أصدرت قيادة الجيش في 26/4/2007 بيانها الثاني ، ومما تضمنه البيان أن قيادة الجيش ضد المناقشات الجارية حول أسس العلمانية في تركيا بين الإسلاميين والعلمانيين وستعلن موقفها عندما يصبح ذلك ضروريا.

اعتبر هذا البيان رسالة تذكير بدور الجيش وتحذير من تجاهله كما اعتبر ضغطا على المحكمة الدستورية لتطويع قرارها بما يتفق ورؤية قيادة الجيش.

بالفعل أبطلت المحكمة الدستورية نتائج الجولة الأولى من انتخابات البرلمان بدعوى عدم مشاركة ثلثي النواب فيها أي بدعوى عدم توفر النصاب . بالرغم من ذلك عقد البرلمان التركي جلسة انتخابية ثانية ولم يستطع غول الحصول على الأغلبية المطلوبة، حيث أقدم بعدها على سحب ترشيحه لمنصب رئاسة الجمهورية . في الجلسة نفسها أقر البرلمان الدعوة لانتخابات مبكرة في 22/7/2007 مع التوصية بإجراء تعديل دستوري ينص على انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من قبل الشعب وليس من قبل البرلمان كما هو معمول به حاليا. كلا الأمرين بحاجة لمصادقة رئيس الجمهورية وهو من مناصري التيار العلماني في تركيا ، ومن المتوقع أن يستمر في منصبه حتى انتخاب رئيس جديد للبلاد.

لكن بصرف النظر عن السجال القانوني حول شرعية الجلسات الانتخابية للبرلمان التركي يبقى السؤال الأهم: هل يرغب جنرالات تركيا بالعودة إلى الحكم ؟ وإذا توفرت هذه الرغبة هل تسمح الظروف الحالية والدولية بتحقيقها.؟

للجيش التركي تاريخ طويل في الاستيلاء على مقاليد الحكم بواسطة الانقلابات العسكرية .ففي 27/5/1960 استغل قادة الجيش أزمة استقلال قبرص عن بريطانيا وقاموا بانقلاب عسكري أوصل قائد القوات البرية في حينه الجنرال جمال جورسيل إلى رئاسة الجمهورية وأدى إلى عزل واعتقال رئيس الجمهورية جلال بايار ورئيس وزرائه عدنان مندريس علما بأن الثنائي بايار ومندريس قدما للمعسكر الغربي في ذروة الحرب الباردة خدمات عديدة،منها: مشاركة تركيا في الحرب الكورية عام 1950 وانضمامها إلى حلف الناتو 1952 وحلف بغداد 1955 وحلف السينتو 1959 ، إلا أن ذلك كله لم يغفر لباريار ومندريس حيث تم عزلهما كما أشرنا وأكثر من ذلك جرت محاكمة مندريس ومن ثم إعدامه في 17/9/1961 . الانقلاب الثاني جرى في 19/3/1971 في مناخ أزمة سياسية داخلية وكان انقلابا أبيض لم يتم فيه إعدام أحد لكنه أدى إلى تصفية النظام المدني حيث عزل رئيس الجمهورية في حينه جودت سوناي ورئيس وزرائه سليمان ديميريل وقاد بالنهاية إلى تنصيب قائد القوات البحرية التركية رئيسا للجمهورية.

وفي 12/9/1980 قاد رئيس الأركان التركي في حينه الجنرال كنعان أفرين انقلابا عسكريا أزاح بنتيجته السياسي المدني سليمان ديمبرل عن رئاسة الوزراء متهما حكومته بالفساد وعدم الكفاءة ونصب نفسه رئيسا للوزراء ومن ثم رئيسا للجمهورية وعين المهندس المشتغل لفترة طويلة في البنك الدولي توركت أوزال رئيسا للوزارة وهذا بدوره أصبح رئيسا للجمهورية في عام 1989، بعد خروج العسكر من الحكم رغبة في الانسجام مع المطالب الأوروبية ومحاولة للاقتراب أكثر من المجموعة الأوروبية ” الاتحاد الأوروبي حاليا”.

من خلال العرض السابق يمكن الاستنتاج بأن سيناريو الانقلابات العسكرية في تركيا متشابه وهو استغلال أزمة معينة للإطاحة بالنظام المدني ومن ثم تنصيب جنرال رئيسا للجمهورية . لرئاسة الجمهورية في تركيا دور محدود في مجال السياسة الخارجية حيث يعتبر ذلك من شأن الحكومة إلا أن دورها كبير في مجال السياسة الداخلية فرئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو رئيس مجلس الأمن القومي ويتولى الإشراف المباشر على مؤسستي القضاء والتعليم والأهم من ذلك هو رمزية المنصب حيث يعتبر الاتجاه الايديولوجي والسياسي لشاغله مؤشرا على اتجاه الدولة التركية . فمؤسسة الرئاسة التركية في نظر الكثيرين حرس العلمانية وضامنها التي أسس عليها مصطفى كمال أتاتورك في عام  1923 الجمهورية التركية، لذلك كان تنصيب جنرال في موقع رئاسة الجمهورية الهدف الأبرز لانقلابات تركيا العسكرية وهذاما يساعد على تفسير موقف جنرالات الجيش التركي في الأزمة الأخيرة.

من الناحية الإجرائية هنالك أكثر من احتمال لانتخاب الرئيس الجديد في تركيا ،منها : مصادقة رئيس الجمهورية على تعديد الدستور وبالتالي إجراء انتخابات مباشرة لاختيار رئيس جديد للجمهورية من قبل الشعب ومن المرجح في هذه الحالة فوز مرشح حزب العدالة والتنمية نظرا للمصداقية التي يتمتع بها الحزب والنزاهة التي برهن عليها قادته منذ تشكيله الحكومة بعد نجاحه بالفوز بأكثرية مقاعد مجلس النواب في انتخابات خريف 2002. فأردوغان مثلا لم ينتقل إلى مقر إقامة رئيس الوزراء بل يسكن في منزله الخاص ، وهذا ما علمته شخصيا في إحدى الزيارات الرسمية التي شاركت فيها لتركيا حيث أقام السيد أردوغان حفل غداء لأعضاء الوفد السوري في منزل في أنقرة كبير المساحة جميل الترتيب أنيق المظهر به حدائق من جميع الجهات وكأنه تحفة فنية أحسن صانعها وأبدع، وعندما استوضحت عن طبيعة المكان كانت الإجابة إن هذا المنزل هو المقر الرسمي لرئيس الوزراء إلا أن أردوغان رفض الانتقال إليه وظل مقيما في بيته الخاص الذي يسكنه قبل توليه رئاسة الوزراء . هذا النمط من السلوك الشخصي أكسب حزب العدالة والتنمية وقادته مصداقية واحتراما لدى طبقات وشرائح واسعة من المجتمع التركي.

لكن المعارضة تعتبر أن إقرار التعديل الدستوري وانتخاب رئيس الجمهورية من قبل السعب مباشرة بمثابة انقلاب على الدستور ومن المرجح أن تلجأ لجميع الوسائل بما فيها اقناع الرئيس بعدم المصادقة على التعديل وكذلك إلى المحكمة الدستورية لتعطيل هذا الخيار.

في حال نجح العلمانيون في ذلك يبقى الاحتمال الأرجح هو إجراء انتخابات برلمانية مبكرة ومن ثم انتخاب رئيس الجمهورية من قبل البرلمان الجديد، وأيا كانت طريقة انتخاب الرئيس الجديد فأغلب الظن أن الأزمة التركية الحالية لن تجد حلا عنيفا عن طريق انقلاب عسكري لأسباب عديدة أبرزها:  عدم رغبة قادة حزب العدالة والتنمية في إيصال الأزمة التركية إلى حافة الهاوية ،وهذا ما توحي به تصريحاتهم وسلوكهم الفعلي من نفي أردوغان لنية ترشحه إلى سحب غول .فقد برهن قادة الحزب خلال السنوات الخمس الماضية من توليهم السلطة على درجة عالية من المرونة السياسية وربما قبلوا بأن تولي أحدهم لرئاسة الجمهورية يتخطى حدود الممكن سياسيا حتى الآن في تركيا .

معرفة قادة الجيش بخطورة النتائج المترتبة على قيامهم بانقلاب عسكري في مناخ عالمي يعتبر هذا النمط من التحولات نشازا في سياقه بالإضافة إلى ذلك الرفض الأوروبي لعودة العسكر إلى السلطة، ولا سيما وأن تركيا كما هو معروف بدأت مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ عام 2005 وهي مفاوضات طويلة ومعقدة وفق أكثر التقديرات تفاؤلا.

إذا كانت الجنسية الأوروبية غير مهمة لعسكر تركيا كما يقول بعض المراقبين فلا شك بأن جنرالات الجيش التركي يدركون أهميتها بالنسبة لتركيا ولشرائح واسعة من المجتمع التركي ، وليس أدل على ذلك من الحفاوة التي استقبل بها الشارع التركي أردوغان عند عودته من بروكسل عام 2004 وهو يحمل قرار مجلس الاتحاد الأوروبي القاضي بالموافقة على بدء المفاوضات مع تركيا لانضمامها إلى الاتحاد.

تأسيساً على كل ما سبق يمكن القول بأن طرفي الأزمة في تركيا يدركان كلف المواجهة وتكاليفها مما قد يدفعهما للقبول بحل توافقي ليس فيه منتصر وليس فيه مهزوم.

 

الدكتور محمد توفيق سماق