مفهوم الدولة في ظل النظام العالمي الجديد ـــ المقال رقم /25/

صحيفة البعث ـــــــ دمشق ــــــ سورية      

العدد :9495 – تاريخ 3/8/1994

نشر كذلك في :

صحيفة البيان  – الإمارات العربية

العدد : 5221  ــ تاريخ  4/10/1994 .

أكد ميثاق الأمم المتحدة الموقع في عام 1945 في مادته الثانية على الحق المتساوي لجميع دول العالم في السيادة، كما أن إعلان الأمم المتحدة حول حقوق الشعوب الصادر في عام 1970 قد تضمن بعض التوضيحات المتعلقة بحقوق الدول في السيادة ومن بينها:

  • تساوي جميع الدول مع بعضها من زاوية القانون الدولي.
  • حق كل دولة في اختيار نظامها السياسي، الاجتماعي والاقتصادي وتطويره بما ينسجم ومصالح مواطنيها.

وعلى الرغم من أن هذه النصوص وما شابهها لم تتغير في المواثيق الدولية حتى الآن إلا أن متابعة متفحصة لأسس وصيغ العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة وفي ظل ما يعرف بالنظام العالمي الجديد يوحي بتبدلات جوهرية في مفهوم الدولة ودورها خاصة في العالم النامي مما يؤذن في حال استمرار الاتجاه العام لتطور العلاقات الدولية على هذا النحو ، بتحول مفهوم الدولة القطرية أو المحلية من سلطة ذات سيادة مطلقة أو تامة إلى سلطة ذات سيادة نسبية أو محدودة وبتعبير آخر اتساع سلطة الدولة العالمية أو الإقليمية مع تراجع وانحسار سلطة الدولة القطرية. والشواهد على ذلك كثيرة والدلائل متعددة إلا أنه قبل استعراض هذه الشواهد والدلائل قد يكون من الضروري سوق بعض التوضيحات الخاصة بمقولة النظام العالمي الجديد بهدف التحديد والدقة:

  • يرى بعض المفكرين بأن نشوء النظام العالمي الجديد ارتبط ارتباطاً تاريخياً وبشكل وثيق بنشوء قوة اقتصادية وعسكرية مسيطرة تملكها دولة أو تحالف دول لها حضورها الفاعل وتأثيرها الملموس على كل الأحداث الهامة في مختلف أنحاء العالم.

تأسيساً على ذلك يرى هؤلاء المفكرون بأن الولادة الأولى لفكرة النظام العالمي يمكن إرجاعها إلى زمن الحروب البونابارتية حيث اجتمع القسم الأهم والأكبر من أوروبا والعالم آنذاك في مؤتمر فيينا الشهير (اجتماع مندوبي ما يزيد عن مائتي دولة وإمارة في أوروبا في 1/11/1814 وحتى 19/6/1815) والذي لم ينته إلا بعد هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو 18/6/1815.

قبل ذلك عرف العالم دولاً قويةً وامبراطوريات كبيرة سادت في مناطق محدودة ومراحل معينة إلا أن تأثيرها ظل مهما اتسع محدوداً من الناحية الجغرافية ومحكوماً من الناحية العملية بقدرة وسائل المواصلات المعروفة في عصرها على نقل أسباب هذه القوة وضمان إمكانية استخدامها وبنتيجة مؤتمر فيينا نشأ ما عرف بالتاريخ بالحلف المقدس بين الدول الأوروبية الكبرى في القرن التاسع عشر “بريطانيا ، روسيا ، الإمبراطورية النمساوية الهنغارية ، بروسيا ” وكانت بريطانيا بلا شك هي الدولة الغالبة أو المهيمنة في ذلك التحالف والذي أسس لمرحلة ما سماه بعض المؤرخين عصر السلام البريطاني وسماه البعض الآخر عصر الهيمنة أو السيطرة البريطانية.

على الرغم من محاولات بعض القوى الأوروبية الكبرى كألمانيا والإمبراطورية النمساوية وروسيا وغيرها في مراحل زمنية مختلفة خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين اعتراض أو حتى إسقاط القيادة البريطانية للنظام العالمي الذي أسس له مؤتمر فيينا ” مما أدى إلى نشوب حربين عالميتين في هذا القرن ” إلا أن العصر البريطاني استمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية حيث انحسر بنتيجتها ليحل مكانه نظام عالمي آخر في زمن الحرب الباردة ثنائي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق.

إن مقولة النظام العالمي الجديد قد شاع استخدامها في الأدبيات السياسية مع نهاية حرب الخليج وبعد أن استخدمها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في الخطاب الذي وجهه بتاريخ 6/3/1991 مباشرة بعد انتهاء العمليات العسكرية حيث قال (.. وحتى الآن كان العالم الذي نعرفه عالماً منقسماً عالم الأسلاك الشائكة وجدران الإسمنت وعالم الصراع والحرب الباردة .. والآن نستطيع أن نرى عالماً جديداً آخذاً في التبلور عالماً يمتاز باحتمال حقيقي جداً لتحقيق نظام عالمي جديد ، نظام جديد ، كما قال ونستون تشرشل : نحمي فيه مبادئ العدل وإنصاف الضعيف من القوي .. عالماً تتأهب فيه الأمم المتحدة بعد أن تحررت من جمود الحرب الباردة لتحقيق الرؤيا التاريخية لمؤسسيها) .

وكان الرئيس الأمريكي قد أراد بذلك أن يبشر العالم بولادة تشكيلة جديدة من الأسس والمفاهيم التي ستحدد شكل وصيغ العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

أثارت هذه المقولة عاصفة من الخلافات في الأدبيات السياسية فالبعض اعتبر أن ما تحدث عنه الرئيس بوش ليس نظاماً جديداً وإنما نظام قديم يراد تجديده بترسيخ قواعده وتثبيت أركانه بزعامة الولايات المتحدة بعد غياب الاتحاد السوفييتي والبعض الآخر اعتبر أن العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة يمر في مرحلة انتقالية وإن ما نعيشه الآن لا يرقى لمستوى النظام فهو في أحسن الأحوال نوع من الترتيبات العالمية الجديدة التي قد تمهد لنشوء النظام الجديد الموعود وآخرون أقروا ما ذهب إليه الرئيس الأمريكي السابق من أننا نعيش ولادة النظام العالمي الجديد الذي لن يطول به الزمن حتى يبلغ سن النضج . وعلى أية حال وكما هو واضح من مختلف الآراء السابقة فإن قاسماً مشتركاً يقرب بينها وهو أن جديداً ما قد ولد في العلاقات الدولية وعلى الجميع تهيئة أنفسهم للتعامل معه. في محاولة البحث لتحديد هوية النظام الجديد وسماته يمكن رصد ركنين بارزين من أركانه هما الحرية السياسية والحرية الاقتصادية كما يمكن رصد سمة غالبة من سماته وهي العالمية. فالخطاب السياسي للولايات المتحدة الأمريكية ” زعيمة النظام الجديد ” وسياساتها شواهد لا تخطئ في تحديد هوية النظام وسماته.

هنا لا بد من التوضيح بأن الحرية التي يعترف بها النظام الجديد هي الحرية كما يفهمها الغرب الصناعي ويمارسها وعلى الآخرين في هذا العالم مواءمة مفاهيمهم وضبط حركتهم على إيقاع حركة النموذج الغربي ومفاهيمه فعالمية النظام الذي نتحدث عنه تقتضي ذلك وتستدعيه وهذا ما يعود بنا إلى البدء لنسأل: كيف تتجلى عالمية النظام الجديد وما تأثير ذلك على مفهوم الدولة القطرية وخاصة في العالم النامي؟

يبدو أن الاتجاه السائد حالياً هو أن تحديد المنطلقات الأساسية ورسم التوجهات العامة لحركة العالم من الناحيتين السياسية والاقتصادية قد أضحت شأناً عالمياً أكثر مما هو شأن قطري أو محلي حيث نقلت معالجة أبرز القضايا السياسية والاقتصادية من ولاية الدولة القطرية وأجهزتها لتوضع في عهدة النظام العالمي الجديد وآلياته، وسنستعرض في الآتي بعضاً من هذه القضايا:

  • الأمن : معظم النزاعات العالمية الهامة التي نشبت في مناطق مختلفة من العالم تمت معالجتها أو تعالج تحت مظلة الأمم المتحدة وبوسائل تحددها القوى الكبرى في العالم    ( الصراع العربي الإسرائيلي ، الاجتياح العراقي للكويت ، الحرب الأهلية في البوسنة   والهرسك .. وغيرها ) مما يبشر بعصر جديد في العلاقات الدولية يقوم على أساس تدويل الحروب والصراعات التي ترى فيها القوى الدولية الكبرى تهديداً لأمن العالم وسلامه.
  • التسلح : ويخضع لمجموعة من الاتفاقيات والقواعد الدولية التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض القوى الكبرى الأخرى في العالم ( معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية ، منع إنتاج وتطوير وتخزين الأسلحة الكيمياوية .. ) حيث تقوم الولايات المتحدة وحلفائها بمتابعة التزام الدول الأخرى بهذه الاتفاقيات وعدم خرقها بمساعدة بعض الأجهزة والمنظمات الدولية المتخصصة ( مجلس الأمن ، الوكالة الدولية للطاقة الذرية ).
  • حقوق الإنسان: على الرغم من أن ميثاق الأمم المتحدة قد طالب في المادة الأولى من الفصل الثالث جميع الدول باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع المواطنين بصرف النظر عن العرق أو الجنس أو اللغة إلا أن المنظمة الدولية لم تتابع بشكل فعال الالتزام بذلك  إلا مؤخراً . وكانت الخطوة الأهم في هذا المجال مؤتمر حقوق الإنسان الذي عقد في فيينا25/6/1993 – 14 بمشاركة وفود تمثل 171 دولة وحوالي 4000 مندوب يمثلون حوالي 140 منظمة غير حكومية تعنى بحقوق الإنسان حيث صدر عن المؤتمر ما عرف بإعلان فيينا لحقوق الإنسان والذي نص في أحد مواده على تسمية مفوض سام في جهاز الأمانة العامة للأمم المتحدة يختص بقضايا حقوق الإنسان ويتولى متابعة تنفيذ القرارات والمواثيق الدولية بهذا الشأن. كما أن دول الغرب الصناعي أرادت إنشاء محكمة عالمية خاصة بحقوق الإنسان إلا أنها تخلت مؤقتاً عن هذا المطلب تحت إصرار الدول النامية ( خاصة الصين الشعبية ) في رفضها لذلك.
  • البيئة : كذلك يتم تدويل السياسات المتعلقة بالبيئة وشؤونها فمؤتمر قمة الأرض الذي عقد في البرازيل الشهر السادس 1992 كان بمثابة إعلان عالمي عن نقل مسائل البيئة وشؤونها من اختصاصات الدولة القطرية لوضعها تحت ولاية النظام العالمي الجديد وأجهزته المتخصصة.
  • عملية الإنتاج : أدى التطور التكنولوجي الهائل في قوى الإنتاج ( تكنولوجيا الإنتاج السلعي والكثافة الرأسمالية العالية ) إلى جعل الاقتصاديات ذات الأحجام الصغيرة بما فيها اقتصاديات الدول القطرية غير قادرة على الاستخدام الواسع للتكنولوجيا الحديثة أو الراقية ولا على تطويرها  وقد انعكس هذا الوضع الجديد في الاقتصاد العالمي باتجاهين:
  • نشوء التكتلات الإقليمية الكبرى ( المنطقة التجارية الحرة لأمريكا الشمالية : 3دول ، 360 مليون نسمة مع ناتج محلي إجمالي عام 1991 يقدر بحوالي 6400بليون دولار أمريكي – الاتحاد الأوروبي : 12دولة ، 240 مليون نسمة مع ناتج محلي إجمالي عام 1991 يقدر بحوالي 5975 بليون دولار أمريكي – رابطة دول جنوب شرق آسيا : 6 دول ، 322 مليون نسمة مع ناتج محلي عام 1991 يقدر بحوالي 335 بليون دولار أمريكي ) وغيرها من التكتلات الأصغر حجماً مثل            ( التجمعات الإقليمية العربية ، المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ، رابطة دول الكاريبي)..
  • نشاط الشركات المتعددة الجنسية حيث تشير بعض التقديرات إلى أنه في مطلع التسعينات كان هناك حوالي 1000 شركة متعددة الجنسية في العالم تتحكم بحوالي 52% من الإنتاج العالمي فعلى سبيل المثال كانت مبيعات الخمس شركات الصناعية الأولى في العالم عام 1992 على النحو التالي ( مقدرة ببلايين الدولارات الأمريكية):

جنرال موتورز 133 – إكسون 104 – فورد 101 – شل 99 – تويوتا 79 – أي ما مجموعه 516 بليون دولار أمريكي بينما قدر حجم الناتج المحلي الإجمالي للوطن العربي في عام 1991 (بما في ذلك النفط) بحوالي 420 بليون دولار أمريكي.

  • السياسات النقدية: من المعروف بأن صندوق النقد الدولي الذي أنشئ في عام 1944 والذي يعتبر من الهيئات التي تتمتع باستقلال ذاتي في إطار الأمم المتحدة يقوم بدور فاعل ومؤثر في كل ما يتعلق بوضع السياسات النقدية وتطبيقها على المستوى الدولي وخاصة في العالم النامي (أسعار الصرف وسياسات الدعم الحكومي للسلع والمواد الغذائية وقضايا المديونية الخارجية ..) وتجربة مصر والجزائر الحالية مع صندوق النقد الدولي شواهد في هذا السياق.
  • السياسات الاستثمارية : ( وهنا يبرز دور البنك الدولي) أنشئ عام 1944 والذي يعتبر أيضاً من الهيئات التي تتمتع باستقلال ذاتي ضمن إطار الأمم المتحدة ، فيما يتعلق بالتوجهات الأساسية للسياسات الاستثمارية على الصعيد العالمي خاصة في الدول النامية. فهو يقوم حالياً بالتعاون مع صندوق النقد الدولي بمراقبة ومتابعة تنفيذ ما اصطلح على تسميته في الأدبيات الاقتصادية ببرامج الإصلاح الاقتصادي وإعادة الهيكلة التي لا تعني في جوهرها أكثر من انسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية مع تشجيع القطاع الخاص على النشاط الاقتصادي عامة والاستثماري على وجه الخصوص بالإضافة إلى إطلاق قوى السوق وتحريرها من رقابة الدول وتوجيهها.
  • التجارة العالمية : شكل نجاح جولة الأوروغواي التي جرت في إطار الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة (الغات) نقلة نوعية في تنظيم التجارة الدولية السلعية والخدمية حيث فتح ذلك المجال أمام توسيع التجارة العالمية وتحريرها من الكثير من القيود الكابحة والحواجز المعيقة لحركتها على المستوى الدولي . مع نجاح جولة الأوروغواي أدخلت الغات قطاعات اقتصادية تحت ولايتها مثل الزراعة ، الخدمات ، الملكية الفكرية .. وغيرها ومن النتائج الهامة لهذا الوضع الجديد الناشئ في التجارة العالمية خلق نظام تجارة دولي وفق قواعد نمطية جديدة ذات طابع عالمي مما يضعف من قدرة الدول المحلية ( الصغيرة منها على وجه الخصوص ) على صياغة سياستها المتعلقة بالتجارة الخارجية بشكل مستقل وبما ينسجم ومصالحها القطرية فقط ، فالسلطة في هذا الشأن أصبحت في جوهرها من اختصاص القوى الكبرى في العالم من خلال منظمة التجارة العالمية والتي من المقرر أن تباشر مهامها مع مطلع عام 1995.

تأسيساً على كل ما تقدم يمكن الاستنتاج بأن مفهوم الدولة الذي نص عليه ميثاق الأمم المتحدة وكذلك المواثيق والأعراف الدولية الأخرى لم يعد كما كان بل تغير في ظل النظام العالمي الجديد وهو مرشح لأن يتغير أكثر مع تطور النظام وتنامي قدراته . فالحق في السيادة لم يعد مطلقاً بل نسبياً ومقدرة الدول على رسم سياساتها التنموية وصياغة علاقاتها الدولية لم تعد محكومة بحدود المصلحة القطرية فقط، بل أصبحت الدول مطالبة بـأكثر من ذلك فهي مطالبة بالانسجام مع التوجهات العامة للنظام الجديد والتكيف مع مفاهيمه والتعبير عن مصالحها بلغته وإلا اعتبرت نشازاً وصنفت مع الخارجين عن قوانينه. وإذا جاز في هذا السياق الاستعانة ببعض مصطلحات القانون الدولي فإن أغلب الظن أننا مقبلون على عصر تكون فيه السيادة للنظام العالمي والولاية للدولة القطرية ، فالكثير مما جرى ويجري في هذا العالم شواهد يصعب أن تخطئها العين على ذلك.

 

الدكتور محمد توفيق سماق