مقبرة الإمبراطوريات ــ المقال رقم /137/

صحيفة الثورة   – دمشق – سورية

العدد:   14151 تاريخ  2/2010/ 22

يقول الكاتب الأمريكي جون غراي إن الحروب و الديون هي مقبرة الإمبراطوريات عبر التاريخ من إمبراطورية فارس وروما في العصور القديمة إلى الإمبراطورية السوفيتية في العصر الحديث .

جاءت مقولة غراي هذه في سياق تحذيره من مستقبل الإمبراطورية الأمريكية الغارقة في حروبها وديوانها . فحربي أفغانستان و العراق كلفت المجتمع الأمريكي آلاف القتلى وعشرات آلاف المشوهين جسدياً أو المعاقين نفسياً . وأمريكا اليوم هي أكثر دول العالم مديونية فحجم الدين العام الأمريكي بلغ 11,3 تريليون دولار منتصف عام 2009 شكلت مايقارب 79% من الناتج المحلي الأمريكي بينما بلغت هذه النسبة 62 % في الأرجنتين     و 47 % في تركيا و 43% في البرازيل وتلك الدول هي من أكثر دول الجنوب مديونية . كما أن عجز الموازنة الأمريكية للعام المالي ( 2010- 2011 ) قُدر بـ 1,56 تريليون دولار في حين بلغ حجم الموازنة 3,8 تريليون , أي بنسبة عجز بلغت 41% وهي نسبة مرتفعة حتى بمقاييس دول الجنوب .

بالإضافة إلى ذلك فإن مستويات الفقر في الولايات المتحدة التي تقدر حالياً بـ12,5 %  مشابهة لمثيلاتها في دول الجنوب , حيث تبلغ نسبة الفقراء بين 10 و 20 % في دول مثل الأردن , سورية , مصر و المغرب و تنخفض إلى حوالي 10% في تونس , الجزائر و لبنان.

جملة القول إن حروب أمريكا وديونها أدخلتها في دوامة من الخسائر و المشاكل تحاول الخروج منها ولا تدري كيف حتى الآن , ثم جاءت أزمتها المالية لتصب الزيت على النار فتحول حاضر البلاد إلى حاضر مأزوم ومستقبلها إلى مستقبل غامض . مظاهر الأزمة الأمريكية عديدة , منها :

1 – السقوط الأخلاقي للسياسة الأمريكية , فدعاوى الديمقراطية و حقوق الإنسان التي صمت أمريكا الآذان بمطالبة دول العالم الأخذ بها و احترامها دُفنت في زنزانات سجن غوانتانامو وأقبية سجن أبو غريب .

2 – اهتزاز إيمان المواطن الأمريكي بما عرف تقليدياً بالحلم الأمريكي القائم في الجوهر على إطلاق المبادرة الفردية و حرية السوق لتحقيق الأمن و توليد الرفاه .

3 – أفول جاذبية نمط الحياة الأمريكي بالنسبة للكثيرين في العالم . فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي تحول هذا النمط إلى نموذجٍ ملهمٍ للعديد من دول العالم و شعوبه يقاس به    و عليه صواب حركة المجتمعات البشرية و صحة نهجها . أما اليوم و نتيجة لازمة المجتمع الأمريكي و تداعياتها فقد أضحى هذا النموذج موضوعاً للجدل       و قضية للخلاف .

4 – تنامي حاجة الولايات المتحدة للآخرين في مواجهة أزمات العالم و إدارتها . فمطالباتها المتكررة لشركائها في حلف النيتو لزيادة مساهماتهم في حرب أفغانستان    و دعمها لدور فاعل لمجموعة العشرين في مواجهة الأزمة المالية العالمية  تعبيراً واضحاً عن تنامي تلك الحاجة ومؤشراً إضافياً على تراجع موازٍ لتفردها في قيادة العالم  و زعامته.

5 – قلق النخبة الأمريكية على حاضر أمريكا , فنائب الرئيس الأمريكي جو بايدن اعتبر عجز الموازنة الأمريكية المشار إليه آنفاً تهديداً للأمن القومي الأمريكي , كما حذر بيرجنسكي (مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر لشؤون الأمن القومي) من مخاطر صراع طبقي قادم وعنيف يهز توازن المجتمع الأمريكي وقد يودي باستقراره .

لكن دفعاً لأي التباس محتمل أو سوء فهم غير مقصود أجد من الضروري التوضيح بأن أمريكا ليس لها بديل في عالمنا حتى اليوم . فلازال اقتصادها الأكبر بين اقتصاديات دول العالم , إذ يشكل نحو 23% من الاقتصاد العالمي وهي كذلك المنتج الأهم للتطور العلمي   و التقدم التكنولوجي فإنفاقها على البحث العلمي يُقدر بحدود مليار دولار يومياً كما أنها الخزان البشري الأغنى بالنخب الماهرة و العقول المبدعة .

بعد ذلك كله لنا أن نتساءل هل ستكون الإمبراطورية الأمريكية بحروبها و ديونها شاهداً آخر على صحة نبوءة غراي أم أنها ستشكل استثناءً تاريخياً في هذا السياق ؟

الجواب متروك للزمن ؟!

 

                                                                                             الدكتور محمد توفيق سماق