هل ستصبح تركيا أوروبية ـــ المقال رقم /96/

صحيفة الثورة   – دمشق – سورية

العدد:   12592 تاريخ  12/2004/ 27

 

اتخذ مجلس الاتحاد الأوروبي ( أو ما يعرف إعلامياً بقمة الاتحاد الأوروبي) المنعقد في بروكسل خلال الفترة /12/2004 / (17-16) قراراً يقضي ببدء المفاوضات مع تركيا حول انضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي في شهر تشرين الأول ( أكتوبر ) من عام 2005 . قوبل هذا الإعلان بمشاعر متباينة لدرجة التناقض في الشارع التركي وعلى الصعيد الأوروبي. ففي تركيا طالب زعيم المعارضة في البرلمان التركي رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بوقف المفاوضات والعودة إلى تركيا خاصة عندما ألح مجلس الاتحاد على ضرورة اعتراف تركيا بجمهورية قبرص( الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي منذ 1/5/2004 ) الذي اعتبرته المعارضة التركية ابتزازاً يصل إلى درجة جرح الكبرياء الوطني وبالنتيجة تم التوصل إلى حل وسط يقضي بتأجيل اتخاذ قراراً تركياً حول الموضوع حالياً وبالنتيجة تم الإعلان عن قبول مجلس الاتحاد البدء بالمفاوضات دون ربط ذلك بالموقف التركي من قبرص وعاد رئيس الوزراء أردوغان إلى تركيا واستقبل بحفاوة من قبل المتحمسين للانضمام إلى الاتحاد وحصول تركيا على جنسية أوروبية . وبالمقابل كانت المشاعر في الشارع الأوروبي متباينة ، إلا أن الأغلبية كما يتضح من استطلاعات الرأي العام في بعض الدول الأوروبية ( 67% من الفرنسيين و55% من الألمان ) تعارض منح تركيا هوية العضوية في النادي الأوروبي كما ترغب وتلح منذ عقود من الزمن .

فكيف بدأت قصة الجنسية الأوروبية لتركيا ؟ وهل ستقبل أوروبا بنهاية المفاوضات التي من المقرر أن تستمر لأكثر من 10 سنوات بتحول تركيا من حضارة الشرق إلى حضارة الغرب ومن مهاجرة شرقية إلى مواطنة أوروبية ؟ قصة جنسية تركيا الأوروبية بدأت مع تأسيس تركيا باعتبارها الوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية إثر انهيارها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى . فمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك ( عاش خلال الفترة 1881-1938) بدأ حياته السياسية بمعارضة إرادة الحلفاء الأوروبيين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى ( حيث رفض معاهدة سيفر معاهدة الصلح التي وقعها فريد باشا حاكم استانبول في ذلك الوقت باسم السلطان العثماني مع الحلفاء ) ، إلا أن صدمة الهزيمة ولدت لديه إدراكاً عميقاً بأن نتيجة الحرب لم تكن فقط خسارة سياسية وعسكرية لدولة بل هي أكثر من ذلك إنها انتصار لحضارة الغرب بقيمها وثقافتها ( العلمانية والحداثة ) وهزيمة لحضارة الشرق برموزها وشاراتها ( تاج السلطان وطرابيش الرعية ) . حدد هذا الإدراك توجهات تركيا الرسمية منذ ولادة الجمهورية التركية في 29/10/1923 وحتى الآن ، فانحازت في البدء لحضارة المنتصر وانتهت إلى ما ترغب به اليوم من مواطنة أوروبية كاملة وغير منقوصة . الشواهد على واقعية الاستنتاج السابق عديدة ، منها :

في عام 1923 أعلنت الجمهورية وبعد أقل من عام في 3/8/1924 اتخذت الجمعية الوطنية التركية قراراً بإلغاء الخلافة وإخراج الخليفة من البلاد ، وكان قد سبق ذلك في 20/4/1924 الإعلان عن صيغة جديدة للدستور التركي تضمنت تأكيد الطابع العلماني للدولة . وفي العام نفسه تم إلغاء وزارة الأوقاف وعهد شؤونها إلى وزارة المعارف ، وفي عام 1925 حظرت جميع الطرق الصوفية ، وفي عام 1928 اعتمدت اللغة التركية بصيغتها الجديدة بعد استبدال الحروف العربية بحروف لاتينية ، وفي عام 1935 منحت المرأة حق الانتخاب والترشيح . وبعد إنشاء السوق الأوروبية المشتركة ( أنشئت بموجب اتفاقية روما التي وقع عليها في 25/3/1957 ودخلت حيز النفاذ بداية عام 1958 ) بعامين أي في عام 1959 تقدمت تركيا بطلب انضمام إلى الاتفاقية وهي منذ ذلك الحين تحاول الحصول على الجنسية الأوروبية وخلال الفترة الماضية عملت على توثيق علاقاتها بأوروبا ، حيث وقعت في التسعينيات اتفاقية اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي . ونتيجة للإلحاح التركي اعتمدت قمة الاتحاد الأوروبي التي عقدت في كوبنهاغن ( الدانمارك 13/12/2002 – 12 ) قراراً يقضي بالنظر والتدقيق في توفر المعايير السياسية المطلوبة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لدى تركيا في قمة الاتحاد اللاحقة (12/2004) . وبالفعل هذا ما تم كما أشرنا في قمة الاتحاد هذا العام حيث اتخذ القرار ببدء المفاوضات مع تركيا بهدف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي اعتباراً من الشهر العاشر في عام 2005 وهنالك احتمال بتأجيل البدء إلى أوائل عام 2006 لأسباب تتعلق بجاهزية تركيا للمفاوضات . ما سبق كان تسجيلاً موجزاً لما جرى ويجري على الجانب التركي مع تحليل مركز لأسبابه ودواعيه ، أما على الطرف الأوروبي فالواضح حتى الآن – كما أشرنا سابقاً – أن الحماس للخطوبة التركية الأوروبية   أقل ، وللمعارضين من الأوروبيين أسبابهم ، ومنها :

الجغرافية :  تبلغ مساحة تركيا 779452 كم2 ، يقع 97% من الأراضي التركية في  آسيا و3% في جنوب شرق أوروبا مما يجعل من تركيا بلد آسيوي أكثر بكثير مما      هو أوروبي بالمعايير الجغرافية كما تعتقد نسبة كبيرة من الأوروبيين .

الثقافية : ربما كان الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان أوضح من عبر عن  الدواعي الثقافية للمعارضة الأوروبية عندما قال :

” تركيا تنتمي إلى تراث آخر غير تراثنا ، فالهوية الأوروبية غير الهوية التركية  ولايمكن الخلط بينهما ، لماذا ؟

لأن الهوية الأوروبية تشكلت من عدة تجارب ثقافية متتالية لم تشهدها تركيا ولم  تعشها أبداً ، فكيف يمكن أن تنضم الينا وهي غريبة عنا كل الغرابة . نحن هضمنا     التراث ( اليوناني – الروماني ) القديم ، ثم التراث المسيحي وكانت بعد ذلك  انطلاقتنا الرائعة لعصر النهضة ثم فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر ، ثم العقلانية    الفلسفية والعلمية التي تلتها في القرنين التاسع عشر والعشرين أما تركيا فقد   عاشت تاريخاً آخر موازياً لهذا التاريخ ، وهو يستحق الاحترام بدون شك لكنة         ليس تاريخنا وتراثنا وبالتالي يستحيل أن تندمج معنا أو تنصهر فينا ” ؟! .

الديموغرافية : ترى المعارضة الأوروبية بأن انضمام 70 مليون تركي يشكلون نحو 14% من مجموع سكان دول الاتحاد الأوروبي (الـ25) الحالية و يمثلهم 95 عضواً في البرلمان الأوروبي وفق نسب التمثيل الحالية ( يبلغ عدد أعضاء البرلمان الأوروبي في الوقت الراهن 626 عضواً ) سيعني خللاً كبيراً في التوازن الديموغرافي في أجهزة الاتحاد وفي مجتمعات دوله لصالح ثقافة غريبة غير مؤهلة للاندماج في الثقافة الأوروبية ، مما قد يحول تعددهم القومي إلى تناحر عرقي يهدد  سلام  مجتمعاتهم .

السياسية : بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ستتوسع حدود الاتحاد لتصبح حدود جوار مع دول يعتبرها الكثير من الأوروبيين مناطق توتر وعدم استقرار  مثل   (إيران – العراق – سورية ) . ومع تحول تركيا إلى دولة أوروبية ستتحول  المسألة الكردية إلى مسألة أوروبية أيضاً ، مما يزيد من مشاكل الاتحاد الأمنية  وينمي مشاعر القلق والتوتر التي لا تفتقر إليها المجتمعات الأوروبية بالأصل .

الاقتصادية : هنالك فوارق كبيرة حالياً في مستويات الغنى والوفرة بين تركيا ودول  الاتحاد الأوروبي. فوسطي دخل الفرد في تركيا بلغ 2530 دولار أمريكي في       عام 2001 بينما بلغ وسطي دخل الفرد في دول الاتحاد الـ15 ( الدول القديمة )  نحو  22000 دولار أمريكي وفي دول الاتحاد الـ25 نحو 17208 دولار  أمريكي  في مطلع القرن الحالي .

تعكس تلك البيانات الفوارق الكبيرة بين مستوى تطور الاقتصاد التركي ومستوى تطور اقتصاديات دول الاتحاد . القبول بانضمام تركيا إلى الاتحاد سيعني التزاماً أوروبياً بزيادة المساعدة المادية إلى تركيا بهدف تقليص الفجوة بين الوفرة والفقر في البيت الأوروبي . وهذا  ما عمدت إليه دول الاتحاد عندما قبلت بانضمام الدول العشر الجديدة اعتباراً من 1/5/2004 حيث خصصت لتقليص الفجوة بين سكان البيت الأوروبي القدامى والجدد نحو 40 مليار يورو تنفق على مدى السنوات القادمة حتى عام 2007 . هذا مع العلم بأن تركيا تعتبر حالياً من الدول الرئيسية المتلقية للمساعدة الأوروبية ، فقد حصلت على 2ر8 مليارات يورو في عام 2001 تلتها إسبانيا ( العضو في الاتحاد منذ عام 1986) التي حصلت على 7 مليارات يورو في العام نفسه ، مما يزيد من حدة المعارضة التي تعتبر تركيا دولة مكلفة لأوروبا . بالإضافة إلى ما سبق هنالك خشية من ازدياد أعداد المهاجرين الأتراك إلى دول الغنى والوفرة في الاتحاد ( ألمانيا ، فرنسا …) بحثاً عن فرص للعمل ومستويات أفضل للحياة ، وبعض هذه الدول كما هو معروف تشكو بالأصل من الأعداد الكبيرة للمهاجرين الأتراك المقيمين فيها حالياً (أكثر من 2 مليون تركي في ألمانيا ) الذين يعتبرونهم عاملاً ضاغطاً على سوق العمالة ، وهم يشغلون فرص عمل يعتبر بعض مواطنيهم أنفسهم أولى بها وأحق .

تأسيساً على كل ما سبق يمكن القول بأن قرار قمة الاتحاد موضوع البحث هو إنجاز هام لدوائر القرار في تركيا باعتباره الاستجابة الأبرز والأوضح للنزعة الأوروبية للجمهورية التركية منذ ما يزيد على ثمانين عاماً أي منذ تأسيسها ، إلا أن المعارضة الأوروبية لا زالت كبيرة . لذلك يصعب الجزم منذ الآن بأن الخطوبة الأوروبية التركية التي أعلنتها قمة بروكسل ستنتهي حتماً بالزواج فتحصل تركيا على جنسية أوروبية وعضوية كاملة غير منقوصة في الاتحاد . هنالك من يطرح بديلاً للعضوية سماه الشراكة المميزة بين تركيا والاتحاد الأوروبي دون تحديد معالم هذا التميز لكن يفهم من  سياق الجدل الدائر حول هذا الموضوع بأن هذه الشراكة تعني علاقة خاصة ترضي الطموح التركي ولا تجرح الغرور الأوروبي .

فهل ستنتهي المفاوضات إلى عضوية كاملة أو شراكة مميزة … الجواب لدى الزمن فلنتابع متغيراته ومفاجآته .

 

                                         الدكتور محمد توفيق سماق