صحيفة الثورة – دمشق – سورية
العدد: 12593 تاريخ 12/2004/ 28
|
لا أجد من المبالغة القول بأن أزمة الإصلاح لدينا تكمن في غموض توجهاته . الموضوعية تقتضي الإقرار بأن العديد من المحاولات في مجالات متعددة قد جرت ( تشريعات ألغيت وأخرى طورت – إجراءات اتخذت …وغير ذلك ) ومع هذا لا زالت الضبابية سمة العملية الإصلاحية وحالة عدم اليقين طابع المزاج العام لدينا .السبب – وفق ما أرى – يعود في الجوهر إلى أن عملية الإصلاح تجري دون توجهات واضحة تحدد هدفها وتضبط مسارها ، مما يجعلنا نتقدم أحياناً ونتراجع أحياناً أخرى وهذا بطبيعة الحال يهز مصداقية الإصلاح ويعمق مشاعر عدم اليقين .كي يستطيع الإصلاح تجاوز أزمته أرى أن تكون الأولوية لإعطاء إجابات واضحة ودقيقة على أسئلة أربعة تطرح منذ سنوات تحدد في مجملها توجهات الإصلاح المرغوب أو المطلوب ، الأسئلة هي :
- ما هو دور الدولة : بفعل عوامل تاريخية عديدة نشأ لدينا ما يمكن أن نسميه الدولة الوصية . فللدولة – وفق العقد الاجتماعي السائد – حق الوصاية على خيارات المجتمع وبالمقابل هي المسؤولة عن دفع الأجر وتوفير فرص العمل وتقديم السلع والخدمات بأسعار غير اقتصادية أحياناً تغطي الخسائر الناجمة عنها من مواردها أو مدخراتها و السؤال هنا : هل لا زالت الدولة الوصية مطلوبة ؟ وهل لا زالت ممكنة ؟ أم أننا انسجاماً مع معطيات الواقع وتكيفاً مع متغيرات العصر وحقائقه بصدد تطوير العقد الاجتماعي السائد من الوصاية إلى الرعاية ؟ مما يقتضي تحول الدولة لدينا من وصي على خيارات المجتمع إلى راعٍ لها وبالتالي للدولة الحق في أن تخفف من مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية . فتوفير فرص العمل وتأمين السلع والخدمات بأسعار اقتصادية –مع بعض الاستثناءات – تصبح مسؤولية المجتمع بقطاعيه العام والخاص . وفي الوقت نفسه تقوم الدولة برعاية عقد اجتماعي جديد ملزم للجميع مالكي وسائل إنتاج ومالكي قوة العمل يضمن توفير حدٍ مرضٍ من الأمان والرعاية الاجتماعية للطبقات والشرائح الأضعف في المجتمع على أن يمول ذلك من عوائد الثروة الاجتماعية بما فيها عوائد الملكية الخاصة حيث يتم هذا بشكل أساسي عن طريق موارد الخزينة العامة من الضرائب والرسوم .
- ما هو الموقف من اقتصاد السوق : تعددت وتباينت –لدرجة التناقض أحياناً – التصريحات الرسمية في الفترة الأخيرة حول مقولة اقتصاد السوق . ففي حين يرى البعض أن الخيار قد حسم للانتقال إلى اقتصاد السوق ، يرى البعض الآخر الأخذ بآليات السوق وهنالك من لا زال يتحدث عن الخيار الاشتراكي .
والسؤال هنا : ماذا نريد فعلاً ؟
نسأل لأنه حسب المعطيات المتوفرة ليس هنالك – حتى الآن – وثيقة رسمية واحدة معتمدة تتحدث عن حسم الخيار للانتقال إلى اقتصاد السوق .
- ما هو الموقف من القطاع العام : منذ سنوات والجدل لا زال محتدماً حول قضية القطاع العام . فالبعض يجده خاسراً لا نفع فيه وآخرون يعتبرونه مخسراً يمكن أن يتحول إلى رابح بالإصلاح ، وبالتالي فهم يلحون على إصلاحه لأنه – وفق رؤياهم – لا خلاص للوطن والمواطن إلا على خشبته . في ظني أن الحقيقة تكمن بين المقولتين خاسر ومخسر ، وللتوضيح نورد بعض المؤشرات الرقمية :
بلغت خسائر إحدى المؤسسات الاقتصادية 44 مليار ليرة سورية خلال الفترة (1994-2003) ، القسم الأعظم من هذه الخسائر كان بسبب التسعير الإداري للمواد والسلع التي تتعامل بها تلك المؤسسة . بدليل أنه عندما سمح لها بالتعامل بأسعار السوق انتقلت إلى مرحلة الربح ، هنا يمكن أن نطلق تعبير مخسرة على المؤسسة . وبالمقابل نجد ثلاث منشآت اقتصادية أنشأت في فترة التسعينيات بأحدث مستوى تكنولوجي وبعمال من المفترض أن يكونوا مؤهلين وإدارات جديدة (أي منشآت حديثة بالكامل ) بلغت تكاليف إنشائها نحو (17مليار ل.س) فماذا كانت النتيجة ؟ بلغ مجموع خسائرها ما يزيد على 3 مليار ل.س خلال الفترة (1994 _2003 )وتقدر قيمة مخازينها حالياً بنحو 9ر1 مليار ل.س هذه المنشآت هي منشآت خاسرة بكل المقاييس.
نموذجاً آخر حيث نجد مؤسسة قطاع عام أيضاً ( وهي من المؤسسات العريقة في سورية ) تتعامل مع شرائح واسعة من المزارعين خاصة في الساحل السوري ومحافظة درعا مما يرتب عليها أعباء إضافية وتعمل بنفس الظروف ( أنظمة وتشريعات – أجهزة رقابية …) التي تعمل بها المنشآت الخاسرة المشار إليها سابقاً ، وبالرغم من هذا تقوم بتجديد أوتطوير سلعها التقليدية التي تطرحها في الأسواق بشكل شبه دائم ولم تعرف الخسارة على مدى أكثر من عشر سنوات . حيث بلغت أرباحها بعد دفع الضريبة إلى وزارة المالية 6ر1مليار ل.س في عام 2..3 وتحقق حالياً وسطي عائد استثمار بحدود 48% . هنا نسأل لماذا تستطيع مؤسسة القطاع العام هذه توليد تلك الأرباح ؟ ولا تستطيع المنشآت الثلاث المشار إليها سابقاً أن تنتج إلا الخسائر ؟ مع أن المنشآت الخاسرة هي الأحدث والأكثر تطوراً من الناحية التكنولوجية .الأهم من كل ذلك أن نعود لنسأل أي قطاع عام نريد ؟ هل نريد القطاع العام الرابح ؟ أم الخاسر أو المخسر ؟ أم مزيج من تلك الأصناف مجتمعة ؟
- الموقف من الاندماج في الاقتصاد العالمي : منذ أكثر من عقد من الزمن والمهتمين بالشأن الاقتصادي يتساءلون هل حسمنا خياراتنا فعلاً باتجاه الاندماج في الاقتصاد العالمي ؟ أم أنه أمر بين أمرين : بعض من التردد وشيء من الانتقائية ممزوجان بقليل من الإقدام ؟ البعض يقول إن الخيار قد حسم باتجاه الاندماج .إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم نعمد إلى البدء بتأهيل اقتصادنا كي يكون طرفاً في عملية الاندماج وليس ضحية لها ؟
نختم بالقول أنه على الرغم من كثرة التصريحات وتباينها أحياناً ليس هنالك وثيقة رسمية واحدة حتى الآن تتضمن الإجابة على تلك التساؤلات على أهميتها . وللدقة نوضح بأن الوثيقة شبه الرسمية التي تتضمن إجابات واضحة ومحددة على الأسئلة السابقة هي برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي سلم إلى رئاسة الوزراء في 27/5/2003 بعد أن قام بإعداده فريق من الخبراء الوطنيين . صحيح أن هذا البرنامج لم يرفض إلا أنه لم يعتمد حتى الآن ؟!
تحديد توجهات الإصلاح لها الأولوية في أية عملية إصلاح ، لذلك نؤكد على أن الأولوية الآن لتحديد ما نريد ؟ وأن نعلن عما نريد ومن ثم نعمل على توفير التعاطف العام مع ما نريد لتأمين قوة الدفع الضرورية لتحقيقه .
كان ذلك ملحاً منذ زمن وأضحى أكثر إلحاحاً مع الزمن ، فبخلاف ذلك :
ربما ترفع سفينة الإصلاح شراعها …وربما تبحر …لكن دون بوصلة التوجهات … قد تضل الطريق إلى ما تريد … وقد تصل ونصل معها إلى ما لا نريد ؟!
الدكتور محمد توفيق سماق