صحيفة الثورة – دمشق – سورية
العدد: 14098 تاريخ 12/2009/ 21 |
بعد مرور أكثر من عام على الأزمة المالية التي اندلعت في أمريكا وعبرت بسرعة البرق إلى العالم يشغل الكثير من المهتمين و المحللين سؤالين , هما :
ماهو حاضر أمريكا اليوم ؟ وما هي تداعيات هذه الأزمة على أمريكا المستقبل ؟
المعلومات و البيانات تشير إلى أن الاقتصاد الأمريكي يعيش اليوم فترة من النقاهة يحاول فيها استعادة بعضاً من عافيته .
فبعد أن سجل الاقتصاد الأمريكي في الربع الأول من هذا العام معدل نمو سلبي بلغ 6,4 % مقارنة بالربع الأول من عام 2008 عاد ليسجل في الربع الثالث معدل نمو بلغ 2,8 % مقارنة بالربع نفسه من العام الماضي . دفع هذا التطور وزير الخزانة الأمريكي تيموثي غايتنر للقول ” هذا النمو أفضل و أقوى مما توقعناه , ومما توقعه أحد على الإطلاق ” .
بالإضافة إلى ذلك لازال الاقتصاد الأمريكي بناتج محلي إجمالي يبلغ 14,3 تريليون دولار الأكبر بين اقتصاديات دول العالم ويشكل ناتجه وفق بيانات صندوق النقد الدولي 23% من الناتج العالمي .
بالمقابل لازالت الولايات المتحدة تواجه أزمات اقتصادية خطيرة , أبرزها :
البطـالـة : وصلت نسبة البطالة في شهر تشرين الثاني ( نوفمبر ) من عام 2009 إلى حوالي 10% من قوة العمل , علماً بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تعتبر تقليدياً من الدول الأقل بطالة بين الدول المتقدمة صناعياً حيث تراوحت نسبة البطالة بين ( 4و 5 % ) في سنوات ما قبل الأزمة . ليس هذا وحسب بل إن التوزيع الهيكلي للبطالة يشير إلى ماهو أسوأ , فنسبة البطالة بين الأمريكيين من أصل أفريقي تصل إلى 15,6% وبين المراهقين تبلغ نحو 25% .
عجـز المـوازنـة : بلغت موازنة الولايات المتحدة 3,1 تريليون دولار في عام 2009 ( 20% منها للنفقات العسكرية ) كما بلغ عجزها 1,1 تريليون دولار ( 35% ) وهذه النسبة كبيرة حتى بمقاييس دول الجنوب .
الـدين العـام : أعلن بن برنانكي رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي(البنك المركزي) أن الدين العام في الولايات المتحدة الأمريكية بلغ 11,3 تريليون دولار منتصف عام 2009 , تشكل 79% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2008 بينما بلغت هذه النسبة 62 % في الأرجنتين و 47 % في تركيا و 43 % في البرازيل و تلك الدول هي من أكثر دول الجنوب مديونية .
الفقـــر : تشير العديد من المصادر الدولية إلى أن نسبة الفقراء في الولايات المتحدة تبلغ نحو 12,5 % من عدد السكان وهي في مستوى نسب الفقر المعهودة في أغلب دول الجنوب متوسطة الدخل , حيث تتراوح هذه النسبة بين 10 و 20 % في دول مثل الأردن , سورية , مصر و المغرب و تنخفض إلى حوالي 10% في تونس , الجزائر و لبنان .
خطورة تلك المؤشرات لاتكمن فقط بأثرها المادي على حياة المواطن الأمريكي على أهميته بل يتخطاها إلى ما هو أهم إلى تداعياتها الثقافية و الاجتماعية و السياسية على أمريكا و الأمريكيين .
مواطن الدولة الأعظم في العالم وهو يحاول الخروج من أزماته بدأ يتساءل هل سيتحول الحلم الأمريكي بالرفاه , الحلم الذي بنى أمريكا و أسس لتقدمها و تطورها إلى كابوس ؟
هل سيظل نمط الحياة الأمريكي ملهما للبشرية جمعاء كما هو الحال حتى الآن و كما أراده مؤسسوا أمريكا الأوائل واشنطن الجنرال و جيفرسون المثقف و لنكولن الثائر ؟
هل تسير الإمبراطورية الأمريكية بخطى بطيئة لكنها ثابتة إلى موعد مع عصر الأفول شأنها شأن إمبراطورية فارس و روما أو الإمبراطورية السوفييتية ؟
هل سيسقط النظام العالمي الأحادي القطب الذي تنفرد على القمة فيه الولايات المتحدة الأمريكية ليحل محله نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب أحدها الولايات المتحدة ؟
هل سيودي العجز بأوباما أو خليفته من بعده إلى دفن النظام العالمي الحالي الذي أسسه بوش الأب بسقوط الاتحاد السوفييتي وحفر قبره بوش الابن بغبائه وحماقته ؟
تلك وما شابهها أسئلة مشروعة تشغل الكثيرين في أمريكا وخارجها مواطنين ونخب . فمجلة نيوزويك الأمريكية بنسختها العربية الصادرة في الأسبوع الثالث من هذا الشهر حذرت مما أسمته التبعات الثقافية و السياسية للازمة المالية الحالية على المجتمع الأمريكي ” حيث تدعو إلى اليقظة و الحذر , فالدراسات تظهر أن البطالة المرتفعة كارثية على المشاركة المدنية . فالناس المكتئبون المسرحون من أعمالهم يبدؤون بالانسحاب من كنائسهم و مدارسهم بل ومن المشاركة في الانتخابات , وهو تأثير معدي ” .
كذلك نبه الأستاذ في جامعة هارفارد روبرت بوتنام من ” الانكفاء المجتمعي في أمريكا ….. فقدانك لوظيفتك بشكل دائم يجعلك أقل ارتباطاً بمجتمعك ” .
جملة القول إن أمريكا تعيش حاضراً مأزوماً ومستقبلاً غامضاً , ذلك قد يدعو لفرح البعض لكن قد يثير التأمل و التفكير لدى البعض الأخر .
ربما كان مايثير فرح الفرحين جبروت السياسة الأمريكية وعدوانيتها خاصة أيام بوش الابن في غزوه لأفغانستان و العراق و مارافقهما من صلف و بطش وسقوط أخلاقي لازالت رموزه ماثلة حية من أبو غريب في العراق إلى غوانتانامو في كوبا .
لكن مايدعو للتأمل و التفكير لدى الآخرين جملة من حقائق الواقع , فالولايات المتحدة الأمريكية ليس لها بديل حتى الآن فهي المنتج الأهم في العالم للتطور العلمي و التقدم التكنولوجي إذا أنها تنفق مايزيد على المليار دولار يومياً على البحث العلمي وهي القوة الاقتصادية الأكبر في العالم و هي الخزان البشري الأغنى بالنخب الماهرة و العقول المبدعة ……….
لاشك إذاً بأن من مصلحة البشرية أن تصبح السياسة الأمريكية أقل عدوانية أو أقل قدرة على العدوان لكن هل من مصلحة البشرية أن تغدو أمريكا أقل قدرة على البقاء ؟ سؤال برسم الزمن فلنراقب مستجداته ولننتظر متغيراته .
الدكتور محمد توفيق سماق