| صحيفة الثورة ــ دمشق – سورية
العدد :9826 – تاريخ 11/10/1995
نشر كذلك في : صحيفة البيان ـــ الامارات العربية العدد : 5679 ـــ تاريخ 5/1/1996 |
مرة أخرى تتعرض الدولة القطرية للتحدي من قبل تكنولوجيا المعلومات ، فبعد تطوير الترانزيستور « أوائل الستينات » الذي مكن من إحداث نقلة هامة في إنتاج وتسويق عدد كبير من وسائل الاتصال الفردية التي كانت معروفة منذ زمن «راديو- تلفزيون – أجهزة تسجيل ». عن طريق تحسين أدائها وخفض كلف إنتاجها وتصغير حجمها مما جعل إنتاجها وتسويقها واستخدامها أكثر يسراً وسهولة انتقل العالم أواخر الستينات أي بعد نحو عقد من الزمن إلى عصر الشرائح إلا لكترونية أو ما يسمى أحياناً بالمعالج الصغرى ، إذ أن أول شريحة الكترونية انتجت من قبل شركة إنتل الأمريكية في عام 1969 بلغت سعتها التخزينية نحو 100معلومة فقط . أما الآن فتخطط شركة توشيبا اليابانية وبالتعاون مع شركة أي.بي.إم. الأمريكية لإنتاج شرائح باستطاعة تخزينية تبلغ 64 ميغابيت « أي 64 مليون معلومة للشريحة الواحدة » على أن يتم طرح الشريحة الجديدة نهاية عام 1997 للتداول في الأسواق ثم يتبع ذلك انتاج شرائح أخرى بطاقة 256 ميغابيت 256 مليون معلومة تطرح للتداول في العام 2000 ، علماً بأن المعلومات المختزنة على هذه الشرائح يتم استرجاعها بسرعة الضوء أي بسرعة تبلغ 300000 كم/ثانية . أحدث إنتاج المعالج الصفري قفزة جديدة هائلة في تكنولوجيا الاتصالات بين البشر عن طريق تحسين الأداء وخفض الكلف وتصغير الحجوم . فمثلاً كان حجم أول كومبيوتر صممه البريطانيون خلال الحرب العالمية الثانية 1941 بهدف فك رموز الشيفرة العسكرية الألمانية باستخدام تكنولوجيا الصمامات يعادل حجم بناء سكني كبير ، أما الآن فهنالك أنواع من أجهزة الكومبيوتر الشخصي توضع في حقيبة يد وأكثر فاعلية بما لا يقارن من كمبيوتر الأربعينيات ، ومن المحطات الهامة التي يمكن الإشارة إليها في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات انتاج الأسطوانات المكثفة التي تقرأ بأشعة الليزر ذات الاستطاعة التخزينية الهائلة على الرغم من صغر حجمها فمثلاً يمكن لأسطوانة ليزرية بقطر 12 سم أن تخزن ما يعادل مليون ونصف المليون صفحة كتاب من الحجم المتوسط تشير التقديرات إلى أنه في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها بلغ في عام 1993 حجم مبيعات الأسطوانات الليزرية 500 مليون أسطوانة مقابل 1,2 مليون أسطوانة مشمعة . إنجاز أخر ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق هو « شبكة الانترنيت » أي الشبكة الدولية الرابطة لأجهزة الكومبيوتر الشخصية والتي يبلغ حالياً عدد المشتركين فيها نحو 50 مليون مشترك سيزداد حسب التوقعات إلى نحو 300 مليون بحلول عام 2000 ، علماً بأن الاشتراك في هذه الشبكة لا يخضع حتى الآن لأية رقابة حكومية فعالة . بعد ذلك كله واستمراراً في نهج عولمة قطاع الاتصالات عن طريق تطوير التكنولوجية الخاصة به ، وبما يكفل انتقال أكبر كم ممكن من المعلومات بأفضل مستوى وبأسرع وقت خرجت الإدارة الأمريكية وعلى لسان نائب الرئيس الأمريكي ال غور بمصطلح «SUPERHIGWAYINFORMATION» أي أوتوسترادات المعلومات ويسميها البعض أوتوسترادات الإعلام أو أنابيب الإعلام وجميعها تسميات لغوية مختلفة لمضمون واحد شرحه نائب الرئيس الأمريكي في كانون أول عام 1993 على النحو التالي :
«إنني أريد أن أربط بأسرع ما يمكن بين البشر قاطبة عن طريق أوتوسترادات الغد الجديد ، أوتوسترادات المعلومات » . اذاً الغاية هي الربط بين البشر كأفراد بصرف النظر عن وقائع الجغرافيا المتمثلة بالحدود وحواجزها وبصرف النظر عن حقائق السياسة المتمثلة بالحكومات ورغباتها ! كيف سيتمكن نائب الرئيس الأمريكي ومناصرو ألية الربط المباشر بين البشر من تحقيق ذلك ؟ لاشك بأن كل ما استعرضناه من تطورات تكنولوجية في عالم الاتصالات و ما شابهها يساهم وسيساهم في ذلك الا أن الإنجاز الأهم حتى الآن في هذا المجال هو البدء بالتطبيق الفعلي لمقولة أوتوسترادات المعلومات وهذا ما تقوم به الآن مجموعة من رجال الأعمال الأمريكيين يتقدمهم رجل الأعمال الثري والشهير بيل غيتس فمن هو بيل غيتس وماذا يريد مع شركائه أن يفعل ؟
غيتس هو شاب أمريكي يبلغ من العمر حالياً 39 عاماً ويعتبر من أغنى أغنياء العالم إن لم يكن الأغنى بينهم وتقدر ثروته بنحو 13 بليون دولار. بدأ غيتس حياته العملية عام 1980 عندما وقع مع بعض زملائه الشباب اتفاقاً مع شركة «مايكروسوفت » شركة أمريكية عملاقة تعمل في مجال تطوير وإنتاج برامج الحواسب الالكترونية لتصميم وتوريد نظام تشغيل لحاسوب شخصي جديد من إنتاج شركة اي .بي .ام الأمريكية لاقى هذا النظام رواجاً كبيراً وساهم بشكل فعال في تطوير صناعة الحواسب الشخصية . تتالت بعد ذلك النجاحات العلمية والمهنية لبيل غيتس إلى أن وصل إلى القمة مهنياً يترأسه مجلس إدارة إمبراطورية مايكروسوفت ، والذي يعتبر حالياً أكبر المساهمين في رأس مالها . يقول غيتس المتزوج منذ فترة قريبة في تصريح لوكالة رويتر في أيلول الماضي بأنه يعتزم التبرع بنسبة 95% من ثروته الهائلة لجهات علمية وخيرية عندما يتقاعد وأن يترك قدراً متواضعاً لأي أطفال يرزق بهم ؟! بعد هذا العرض المختصر لشخصية غيتس ونجاحاته المهنية نعود إلى مشروعه ، يمكن تلخيص مشروع غيتس الذي يعتبر حتى الآن أول تطبيق عملي لأطروحة أوتوسترادات المعلومات على النحو التالي :
يعتمد المشروع على إطلا ق 840 قمراً صناعياً إلى الفضاء الخارجي يدور كل منها حول الأرض في 90 دقيقة على ارتفاع 700 كم ويغطي ما مجموعه 95 % من مساحة الكرة الأرضية ، تبلغ الكلفة التقديرية لهذا المشروع نحو 10 بيليون دولار ومن المتوقع أن يوضع قيد التشغيل الفعلي في العام 2001 . يقدر غيتس بأنه يستطيع من خلال مشروعه بعد إنجازه أن يربط بين جميع سكان الأرض بواسطة جهاز خاص يتم تصميمه حالياً لهذه الغاية يقوم بدور الهاتف والفاكس معاً دون المرور بمقاسم الدول والشركات الخاصة كما يمكن الاستفادة من خدمات هذا المشروع في مجالي البث التلفزيوني وربط أجهزة الكومبيوتر الشخصية فيما بينها عن طريق شبكة خاصة … وما شابه ذلك من خدمات الاتصال وتبادل المعلومات دون أن تتمكن الأجهزة الحكومية المحلية من ممارسة أية رقابة تذكر على أوتوستراد المعلومات هذا والمشتركين فيه . علماً بأن الاشتراك في أوتوستراد غيتس لن يكون حسب المعلومات المتوفرة مكلفاً على الإطلاق إذ من المقدر أن يكون بحدود قيمة الاشتراك الهاتفي في أية دولة أوروبية أو في الولايات المتحدة الأمريكية أما أجور الخدمات فستكون أيضاً في مستوى الأجور المتعارف عليها حالياً بالنسبة للخدمات المشابهة . بعد هذا العرض المختصر والمبسط لمفهوم أوتوسترادات المعلومات وتقنياتها يطرح نفسه سؤال هام ، هو :
ما أثر أوتوسترادات المعلومات على سيادة الدول ؟
من معاني مصطلح السيادة إخضاع الأرض والموارد لإشراف وتوجيه الأجهزة الحكومية المختصة في كل دولة . ومن الغايات الأساسية لأوتوسترادات المعلومات هو كما أشرنا إيجاد الألية المناسبة لربط البشر مباشرة مع بعضهم دون أن تخضع هذه الألية لرقابة الدول القطرية وتوجيهها أي أن هنالك تناقضاً في الغايات بين مقولتي السيادة وأوتوسترادات المعلومات . ربما يتبادر إلى الذهن في هذا السياق بأن التجربة الطويلة تدل على أن تطوير تكنولوجيا معينة يترافق على الأغلب مع تطوير التكنولوجيا المضادة أي أن التطور العلمي سينتج لنا قريباً تقنية الأوتسترادات وتقنية رقابتها . قد يكون ذلك صحيحاً إلا أنه وبالتجربة أيضاً نستطيع القول بأن تكنولوجيا الرقابة تلك في حال توفرها ستكون كلفها متناسبة إن لم تكن أكبر من كلف تكنولوجيا أوتوسترادات المعلومات وهي كما يتضح من الكلف التقديرية لمشروع غيتس /10 بليون دولار / باهظة لدرجة حتى وإن توفرت ستكون دولاً غنية قليلة في العالم قادرة على اقتنائها واستخدامها مما يضعف ويحد من سرعة انتشارها وخاصة في دول الجنوب الفقيرة . لذلك نستطيع القول من الآن بأن انتشار أوتوتسترادات المعلومات والتوسع في خدماتها سيحد إلى درجة كبيرة من قدرة الدول المحلية على التحكم في مورد هام من مواردها الا وهو المعلومات والتي حرصت الدول خاصة في الجنوب على إخضاعها بدرجة كبيرة لسيطرة الحكومات وتوجيهها . كما أن من آثار التقنية الجديدة انحسار دور الثقافات المحلية في تكوين الوعي العام في الدول القطرية وفي تشكيل نمط حياة سكانها فالغلبة في ذلك سيكون للأكثر قدرة على الوصول إلى بيوت الناس وعقولهم بأيسر السبل وأسرعها وهم بلا شك المسيطرون على التكنولوجيا الجديدة والقادرون على توظيفها واستخدامها بكفاءة أي النخب ( ثقافية ،علمية ، سياسية ،اقتصادية)المسيطرة في مجتمعات الشمال الغني والمتقدم.
تأسيساً على ما سبق يمكن القول بأن العالم عامة والجنوب على وجه الخصوص يقترب مجدداً من الوقوف على مفترق الطرق التقليدية الذي يصنعه كل تحول عالمي بارز أو تطور تكنولوجي هام ونقصد بمفترق الطرق هذا هو الخيار بين المواجهة والتكيف ؟ لكلا الخيارين ثمن يتوجب دفعه ولكل منهما كلفة ينبغي تحملها ، أصحاب خيار المواجهة سيرفعون شعاراتهم التقليدية المعروفة والمتمثلة بضرورة :
- صيانة الثقافة الوطنية من طغيان ثقافة الغرب .
- حماية منظومة القيم المجتمعية السائدة من عدوى التفكك والانحلال بتأثير زيادة درجة الاحتكاك مع نمط الحياة السائد في مجتمعات الغرب .
- الحفاظ على التميز وطنياً وسياسياً في عالم لا نملك فيه أسباب التنافس .
وبصرف النظر عن الجاذبية النظرية لهذه المقولات وما شابهها مما هو شائع كلما طرح السؤال الصعب التكيف أم المواجهة فإن خيار المواجهة يستدعي وبإلحاح سؤال متمم آخرهو :
هل يملك الجنوب فعلاً أسباب المواجهة ووسائلها أم أن موازين القوى السائدة في عالم اليوم تنبئ بنتائج هذه المواجهة قبل أن تبدأ ؟
أما التكيف فأغلب الظن بأن شرطه الأول والضروري هو المصالحة مع الشمال القوي والغني وكذلك الظالم كما يعتبره – وربما يحق – الكثيرون في الجنوب . مع التوضيح بأن القبول بمنطق المصالحة يقتضي ضرورة القبول بمنطق الحل الوسط الذي تصنعه موازين القوى السائدة بين الطرفين فإذا لم يستطيع الجنوب أن يحقق بتكيفه ما يريد فليقبل بما هو ممكن على أمل ووعد بتغيير موازين القوى كلما كان ذلك ممكناً وكلما كان ذلك متاحاً ….. فهل يملك الجنوب الإرادة لذلك ؟ وهل يستطيع ؟
الدكتور محمد توفيق سماق