صحيفة الثورة – دمشق – سورية
العدد: 13746 تاريخ 10/2008/ 27
|
في سياق الحديث عن نتائج الأزمة المالية و منعكساتها على الولايات المتحدة الأمريكية ذهب البعض من المحللين والدارسين الى الاستنتاج بأن من نتائج الأزمة المالية دخول الولايات المتحدة كدولة في طور التفكك ويسوقون لدعم استنتاجهم هذا عدداً من المبررات ، منها :
- الحجم الكبير للدين العام في أمريكا الذي وصل حسب بعض التقديرات إلى نحو 11 تريليون دولار أمريكي (11000 مليار دولار ) يشكل نحو 79% من الناتج المحلي الأمريكي في عام 2007 ، وتعتبر هذه النسبة مرتفعة جداً حتى بمقاييس دول الجنوب المدينة حيث بلغت 62% في الأرجنتين و 47% في تركيا و43% في البرازيل . تلك البيانات تدل على الوضع المتردّي للاقتصاد الأمريكي وهذا ما وصل إليه حال الاقتصاد في الاتحاد السوفييتي السابق في فترة الثمانينات من القرن الماضي أي قبيل الانهيار .
- الأزمة المالية الحالية التي ستزيد من سوء الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية ويدفع الى بروز التناقضات العرقية وربما المذهبية في المجتمع الأمريكي ، سيما وأنه خليط من المستوطنين الأوائل ذوات الأعراق الأوروبية في معظمهم ثم أجيال لاحقة من المهاجرين ذوي أصول عرقية متعددة ومتنوعة أنتجتها كل أمم العالم تقريباً .
- الفشل العسكري في العراق وأفغانستان الذي قد يتحول الى هزيمة تسقط الهيبة العسكرية الأمريكية وتغيّر موازين القوى في العالم وتحرض على المراجعة وتدفع الى بروز تناقضات الداخل ، وهذا ما حصل للاتحاد السوفيتي بعد هزيمته في أفغانستان . بالإضافة الى ما سبق يورد أصحاب مقولة تفكك الإمبراطورية شواهد أخرى تهدد السلم الأهلي في الداخل الأمريكي ( حدة الفرز الطبقي _ تدني مستوى التأمين الصحي _ ازدياد معدلات البطالة بتأثير الأزمة المالية … وغير ذلك ). لكن وبصرف النظر عن عدد الشواهد وصلاحيتها أرى أن مقولة تفكك الإمبراطورية الأمريكية الآن هي مقولة غير صحيحة تعكس رغبة أصحابها ولا تعكس حقائق الواقع . صحيح أن الدين الحكومي الأمريكي كبير حجماً ونسبةً ، ذلك سيؤثر سلباً على الدور العالمي للولايات المتحدة الأمريكية لكن يصعب اعتباره سبباً مقنعاً لانفجار التناقضات الداخلية وتفكك الدولة . فلا زال الاقتصاد الأمريكي بالرغم من كل مشاكله يشكل نحو 25% من الاقتصاد العالمي ويمتلك أكبر قدرة علمية وأرقى مستوى تكنولوجي في العالم مما يجعله قادراً على الإنتاج وإعادة الإنتاج وتوليد القيمة المضافة بمعدلات عالية ووتائر متسارعة ، ويكفي أن نتذكر الماضي القريب في فترة الرئيس كلينتون حيث انتقلت أمريكا من العجز الى الفائض . كما أن دولاً أخرى عديدة أصغر حجماً من أمريكا وأقل تطوراً استطاعت التعامل مع ديونها الداخلية ومديونيتها الخارجية وحافظت في الوقت نفسه على توازن مجتمعاتها وتماسك مؤسساتها ، كما أن الولايات المتحدة نفسها قد مرت بأزمة مشابهة عام 1929 وبعد ذلك بنحو عقد دخلت الحرب العالمية الثانية حيث أعلنت الحرب على اليابان و ألمانيا وكانت من المنتصرين .
أما الهزيمة العسكرية المتوقعة في العراق وأفغانستان فحتى لو هزمت أمريكا فعلاً فالأرجح أن ذلك لن يقود الى اهتزاز توازن المجتمع واستقراره من الداخل بحيث يؤدي الى تفكك الدولة . فأمريكا هزمت في فيتنام أوائل سبعينات القرن الماضي وما حصل بعد ذلك هو أنها انكفأت عسكرياً فلم تدخل في مواجهة عسكرية خارجية كبيرة حتى حرب الخليج عام 1991 ، إلا أن الدولة لم تنهار وأمريكا لم تتفكك .
أغلب الظن أن الأزمة المالية الحالية ستنعكس سلباً على الدور العالمي للإمبراطورية في مجالات عديدة اقتصادية ، عسكرية وحتى أيديولوجية :
_ اقتصادياً بسبب ما هو متوقع من دخول الاقتصاد الأمريكي في مرحلة من الركود تؤثر
على حيويته وأدائه .
_ وعسكرياً لتراجع قدرة الخزينة الأمريكية على تمويل الحروب والمغامرات العسكرية
الخارجية .
_ كذلك أيديولوجياً لاهتزاز الثقة بالنمط الاقتصادي الأمريكي ، نمط اقتصاد السوق الحر
واستقالة الدولة من دورها الاقتصادي .ففي الأزمة الحالية اضطرت مؤسسات الدولة
الأمريكية الى التدخل فلعبت خزينتها ومصرفها المركزي ( أو ما يسمى الاحتياطي
الفيدرالي ) دور المنقذ والإطفائي لما سببه الزلزال المالي من خراب وانهيارات ،وهي التي
صمّت الآذان بضجيج مطالبتها لدول العالم ( خاصة دول الجنوب )
للانسحاب من الحياة الاقتصادية وترك المجتمع لما سمي باليد الخفية التي تكفل توازنه
واستقراره . أعتقد أن أيديولوجيا كهذه يصعب بعد هذا كله تسويقها حتى لدى زبائن
الولايات المتحدة وأدواتها في دول الجنوب .
إذا أضفنا لكل ما سبق السقوط الأخلاقي للسياسة الأمريكية والذي شكل سجن غوانتامو وسجن أبو غريب بعضاً من علاماته البارزة لنا أن نتوقع تراجع الدور العالمي للولايات المتحدة الأمريكية دون أن يقود ذلك البعض الى الإفراط في التفاؤل فيراهنوا على تفكك الدولة وسقوط الإمبراطورية .
الدكتور محمد توفيق سماق