صحيفة البيان – الإمارات العربية
العدد : – تاريخ 11/10/1993 تعريف باتفاقية الجات مع اقتراب جولة مفاوضات الأوروغواي حول الاتفاقية من نهايتها |
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن الجات وكانت هذه الاتفاقية على جدول أعمال اجتماع قادة الدول الصناعية أوائل الشهر السابع – حيث أقروا استئناف جولة الأورغواي حول الجات في الخريف من هذا العام على أن يتم التوقيع بشكل نهائي على مسودة الاتفاقية في موعد أقصاه كانون أول من عام 1993، ونظرا لما نعتقده من أهمية كبيرة لهذه الاتفاقية على مستوى الاقتصاد العالمي واقتصاديات الدول النامية خاصة فإننا سنتناول بالبحث وبشكل مختصر – بعض الجوانب المتعلقة بنشأة هذه الاتفاقية والهدف منها: مضمونها – أجهزتها وآلية عملها – بالإضافة الى الاتجاهات العامة لمواقف الدول النامية منها . نشأة الاتفاقية والهدف الرئيسي منها :
من الناحية اللغوية فإن كلمة ” جات ” هي اختصار مكون من الأحرف الأولى لكلمات الجملة الانكليزية
General Agreement on Tariffs and Trade (GATT)
ومن الناحية القانونية فإن / جات / اتفاقية متعددة الأطراف يشترك فيها حتى الآن 192 دولة بالإضافة إلى 30 دولة منضمة إليها على أساس واقعي ” دول تطبق الجات على أراضيها إلا أنها لم توقع حتى الآن على الاتفاقية بشكل نهائي ” تساهم هذه الدول مجتمعة بأكثر من 90 % من إجمالي التجارة العالمية حاليا.
الهدف الأساسي للاتفاقية هو التحرير التدريجي للتجارة العالمية من كافة القيود الكابحة والحواجز المعيقة لحركتها تأسيساً على ذلك نستطيع النظر إلى الجات من الناحية العملية على أنها أكثر من اتفاقية فهي منتدى عالمي ووكالة دولية تسعى لتحقيق هدفها الأساسي في تحرير التجارة العالمية عن طريق التفاوض والحوار بين دول العالم .
أما نشأة هذه الاتفاقية فيعود في جذورها إلى الجهود الدولية التي بذلت بعيد الحرب العالمية الثانية لإنشاء منظمة دولية للتجارة كان مقدراً لها أن تكون إحدى وكالات الأمم المتحدة المتخصصة ، حيث عقد لهذا الغرض مؤتمر تحضيري في مدينة هافانا ” كوبا ” عام 1946 ناقش مشروع ميثاق هذه المنظمة ، ولأسباب عديدة لا مجال لعرضها الآن تم التخلي عن فكرة المنظمة واتجه عدد من الدول للبحث عن صيغة لتسهيل وتسيير حركة التبادل التجاري على المستوى العالمي حيث برزت فكرة اتفاقية الجات والتي تعتمد إلى حد كبير على مسودة ميثاق المنظمة آنفة الذكر وقد تم التوقيع رسمياً على هذه الاتفاقية من قبل 23 دولة بتاريخ 30/10/1947 على أن يكون مقرها الرئيسي مدينة جنيف في سويسرا.
مضمون الاتفاقية
الجات عبارة عن وثيقة طويلة ومعقدة مكونة من 38 مادة ترتكز على مجموعة من المبادئ ، نستعرض فيما يلي وبإيجاز بعضاً من أهمها:
- مبدأ الدولة الأكثر رعاية ” مادة 1 ” يلتزم الطرف المتعاقد بموجبها أي البلد العضو في الاتفاقية بمنح جميع أعضاء الاتفاقية المعاملة التفضيلية ذاتها التي يمنحها لأي طرف آخر ، وتجدر الإشارة هنا إلى وجود بعض الاستثناءات لهذا المبدأ يمكن أن تطبق في حالات خاصة وفي ظروف معينة ” مثلاً الترتيبات التجارية الإقليمية ” وفق أسس معينة وآلية خاصة حددتها الاتفاقية.
- مبدأ المعاملة الوطنية مادة ” 2″ والتي تنص على منع الضرائب والتدابير الداخلية الأخرى التي قد تؤدي إلى التميز ضد المستوردات، أي عندما يتم استيراد منتج ما من قبل دولة ما وبعد دفع الرسوم الجمركية عليه يجب معاملة هذا المنتج ذات المعاملة التي يلقاها المنتج الوطني المماثل فلو تم علي سبيل المثال فرض رسم قيمة مضافة أو رسوم رفاه في بلد ما فينبغي تطبيق هذه الرسوم دون تمييز علي السلع المستوردة ومثيلاتها من السلع المنتجة محلياً.
- حظر الإجراءات التقييدية الكمية “مادة 11 ” ” والحالات الاستثنائية مادة ” 18- 12″ ينص هذا المبدأ على أن حماية الانتاج المحلي يجب أن يتم عبر التعرفة الجمركية فقط وليس عبر أية تدابير تجارية أخرى كالإجراءات التقييدية على الكميات المستوردة مادة ” 11″ هدف ذلك كما توضح الاتفاقية هو إظهار المستوى الفعلي للحماية المطبقة ، ومع ذلك فقد أشارت الاتفاقية في مادتها “12” الى إمكانية استثناء الدول التي تعاني من مشاكل في ميزان مدفوعاتها من هذا الحظر والسماح لها باللجوء إلى الاجراءات التقييدية الكمية لفترة محددة تنتهي بزوال أسبابها، وفي المادة “18” اعترفت الاتفاقية بحاجة البلدان النامية إلى تطبيق بعض القيود الكمية في حالات خاصة لوقف الزيف في احتياطاتها من القطع الأجنبي الذي يسببه تنامي الطلب على المستوردات أو لحماية صناعة وطنية ناشئة شريطة ألا يكون هناك معاملة تمييزية في تطبيق هذه الإجراءات.
- بنود تجارية أخرى : تتعلق بحرية الترانزيت” مادة 5 ” ، سياسة الإغراق” مادة 6 ” ، أسس التقييم الجمركي” مادة 7 ” دعم الصادرات ” مادة 16 ” وغير ذلك.
- بنود فنية : تتعلق بالانضمام الى الاتفاقية” مادة 26 ” الانسحاب من الاتفاقية ” مادة 27 ” ، تعديل الاتفاقية مادة 30 ” ” ، وغير ذلك.
أجهزة الجات الرئيسية وآلية عملها:
- السكرتارية العامة مقرها جنيف ويرأسها مدير عام حاليا سويسري الجنسية .
- الدورات السنوية ويشارك فيها جميع الأطراف المتعاقدة وتعتبر الجهاز الأعلى للجات يناقش فيها السياسات والتوجهات العامة للجات.
- مجلس الجات ويعتبر بمثابة محلس إدارة ويضم ممثلين عن الأطراف المتعاقدة بالبت في القضايا الطارئة التي تعترض عمل الجات في الفترة ما بين دورتين سنويتين ويجتمع المجلس عدة مرات في السنة.
- لجان متخصصة كلجنة التجارة والتنمية ” والتي تهتم بقضايا الدول النامية التجارية “: لجان دائمة لبحث قضايا محددة ” دعم الصادرات – الإغراق – التعرفة الجمركية….. ” ، لجان خاصة لبحث قضايا طارئة ” طلبات الانضمام إلى الجات ، تقصى مدى التزام الأطراف المتعاقدة بالاتفاقية” …
يتم اتخاذ قرارات الجات باتفاق الأطراف المتعاقدة عادة وفي الحالات الاستثنائية التي يتم فيها اللجوء إلى التصويت يتمتع كل طرف متعاقد بصوت واحد حيث تؤخذ القرارات بالأغلبية إلا في الحالات التي يطلب فيها أحد الأعضاء استثنائه من أحد بنود الاتفاقية ” في حالات خاصة ولأسباب محدد ” فيتطلب الأمر موافقة ثلثي أصوات المشتركين في الدورة والذي يجب أن يمثلوا 50 % على الأقل من الأطراف المتعاقدة.
5_ جولات المفاوضات التجارية متعددة الأطراف: شكل الهدف الأساسي للجات في التحرير التدريجي للتجارة العالمية عن طريق التفاوض والحوار ، محوراً لسبع جولات من المفاوضات المتعددة الأطراف في إطار عمل الجات ، عقدت هذه الجولات على التوالي في:
سويسرا ” جنيف ” 1947 ، فرنسا ” انيسي” 1949 ، بريطانيا ” توركما” 1951 ، سويسرا ” جنيف 1960 -1961 ” ،سويسرا ” جنيف 1964 -1967 ” ، اليابان” طوكيو 1973 -1979 ” وجولة الاوروغواي التي اعلن عن انطلاقتها في أيلول 1986 والتي من المقرر انتهاؤها ، كما أشرت سابقا حتى كانون أول 1993 .من المواضيع الهامة المدرجة على جدول أعمال الأوروغواي التالية:
- تحرير أشمل للرسوم الجمركية خاصة المرتفعة منها والتي تتصاعد حسب درجة تصنيع المواد المستوردة .
- خفضأو إلغاء الإجراءات غير التعريفية بما فيها التقييدات الكمية.
- تحرير تجارة المنسوجات والملابس.
- خفض الدعم على المنتجات الزراعية المصدرة.
- إنشاء آلية متعددة الأطراف لتجارة الخدمات مثل المصارف ، التأمين الخدمات الاستشارية مع النظر في تطبيق مبادى اتفاقية الجات عليها وخاصة مبدأ الدولة الأكثر رعاية.
مواقف الدول من الجات
مع نشوء الجات وفي زمن اشتداد الحرب الباردة اتسمت مواقف العديد من الدول النامية بالتحفظ تجاه هذه الاتفاقية حيث كان ينظر حينئذ إلى الجات من قبل هذه الدول على أنها إحدى أدوات الهيمنة في يد دول الغرب الصناعي للسيطرة على نظام التجارة العالمية وتوجيهه بما يخدم مصالحها على حساب مصالح الدول النامية. لقد خلقت هذه النظرة اتجاهاً رافضاً للاتفاقية لدى قسم هام من دول العالم النامي وشعوبه، شجع عليه موقف الاتحاد السوفيتي السابق السلبي من الاتفاقية والذي لم ينضم إليها إلا في شهوره الأخيرة ” أيار 1990 ” وكعضو مراقب فقط. ومع الانفراج الكبير في العلاقات الدولية ” أواسط الثمانينات ” بدأ الاتجاه الرافض الكبير في الدول النامية بالتحول نحو مواقف أكثر إيجابية ، إذ بادر العديد من هذه الدول ومنذ انطلاقة جولة الأوروغواي” 1986″ بالانضمام الى الاتفاقية والتي وصل عدد الدول الموقعة عليها حالياً إلى 112 دولة كأطراف كاملة العضوية تشكل الدول النامية منها ما يزيد على الثلثين. وكما كان للاتجاه السابق الرافض للاتفاقية أسبابه. فإن للاتجاه الحالي الايجابي من الاتفاقية أسبابه ايضا ، ومن أهم الاسباب التي دفعت الى هذا التحول في الدول النامية بالإضافة إلى التحولات العالمية الأخيرة وما رافقها من انتهاء للحرب الباردة هو نشوء التكتلات الاقتصادية الإقليمية الكبرى وازدياد نفوذها.
أهم هذه التكتلات هي
– المجموعة الأوروبية :والتي تعتبر أكبر التكتلات الإقليمية تطوراً حيث نجحت في تحرير شامل لتجارتها ، في حين لم تستطع التجمعات الأخرى من تحقيق نجاح مماثل حتى الآن ، حيث أدى ذلك إلى زيادة كبيرة في تجارتها البينية إذ بلغ نصيب صادراتها البينية حوالي 60 % من إجمالي صادراتها ” أوائل التسعينات ” وتعتبر السوق الأوروبية الموحدة أكبر مستورد في العالم ، ففي عام 1992 بلغت قيمة مستورداتها من خارج دول السوق 635 مليار دولار ، وبذلك تكون حصتها من المواردات العالمية حوالي 22% .
– منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية: شهد عام 1992 قيام منظمة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية ” نافتا” والتي ضمت” الولايات المتحدة وكندا والمكسيك “ويتوقع لهذه الدول أن تعمل قريبا على إزالة جميع الحواجز التجارية فيما بينها مما سيؤدى الى زيادة كبيرة في تجارتها البينية مستقبلاً.
– اليابان والصين : صحيح أن كلا من اليابان والصين لم تنشئ رسمياً حتى الآن تكتلات إقليمية مع دول أخرى في منطقة المحيط الهادئ إلا أن لليابان علاقات واسعة ومتشعبة مع العديد من دول جنوب وشرق اسيا ، كما ان للصين علاقات اقتصادية واسعة مع العديد من هذه الدول خاصة تلك التي يوجد فيها أغلبية سكانية من أصل صيني ” تايوان – ماكاو- هونج كونج – سنفافورة ” والتي يسميها البعض ” المنطقة التجارية للصين الكبرى ” ولليابان والصين ودول المنطقة الأخرى مصالح اقتصادية كبيرة مشتركة ذلك سيشجع هذه الدول على تنمية علاقاتها التجارية الإقليمية وزيادة مستوى التنسيق فيما بينها لاكتساب ثقل تجاري ومالي أمام التجمعات الإقليمية الأخرى مما سينعكس نمواً مضطرداً لتجارتها البينية مستقبلاً. من أبرز النتائج المحتملة لهذه التكتلات على نظام التجارة العالمية هو تقوية الاتجاه نحو الإقليمية لذلك ازدادت المخاوف من تحويل هذه التكتلات إلى قلاع حصينة للحماية التجارية تغلق أبوابها أمام واردات الدول غير الأعضاء فيها مما يهدد فرص النمو والازدهار الاقتصادي خاصة في العالم النامي و في مواجهة هذا الاحتمال يدعو العديد من دوائر القرار الاقتصادي و المهتمين في العالم النامي إلى العمل على صعيدين :
– الأول زيادة التنسيق بين الدولة النامية لحماية مصالحها الحيوية والحفاظ على مكتسباته.
– الثاني دعم وتشجيع الجهود الرامية إلى تطوير نظام تجارة عالمي متعددة الأطراف يمكن اللجوء إليه لحماية الدول الصغيرة من ممارسات الدول الصناعية الكبرى عن طريق إلزامها ” الدول الصناعية ” بقواعد للتعامل والسلوك تزيد من انضباطها في علاقاتها التجارية الدولية وتخفض من النزعة الحمائية التي تمارسها تجاه تجارة الدول النامية . إن مناصري هذا الرأي يرون في الجات الإطار المناسب لخلق هذا النظام التجاري الدولي الجديد المتعدد الأطراف والقائم على العالمية وانفتاحها بدلاً من الاقليمية وقيودها مما سينعكس بشكل إيجابي على جهودهم في تنمية اقتصادية العالم النامي وازدهاره.
في الختام لا بد من التأكيد بأن غلبة أي من الاتجاهين العالمية بانفتاحها أو الإقليمية بقيودها يرتب على الدول العربية واجب زيادة مستوى التعاون والتنسيق فيما بينهما للتخفيف من الآثار السلبية المحتملة على اقتصادياتها والتي قد تظهر أثناء عملية التكيف مع أي نظام جديد للتجارة العالمية.
الدكتور محمد توفيق سماق