صحيفة الثورة – دمشق – سورية
العدد: 12522 تاريخ 9/2004/ 30
|
دون مقدمات نقول أن الاقتصاد السوري لا يزال مع السنوات الأولى للقرن الحالي يعيش مناخ أزمة عامة تدل عليها مؤشرات عديدة ، منها :
النمو الاقتصادي : سجل النمو الاقتصادي في سورية معدلات منخفضة في السنوات السابقة ، حيث كان بالأسعار الثابتة لعام 2000 على النحو الآتي : 6ر0% عام 2000، 4ر3 % عام 2001 ،2ر3 % عام 2002 ، أما في عام 2003 فالتقديرات تشير إلى احتمال تحقيق معدل نمو بحدود 2ر3 % . معدلات النمو تلك تزيد قليلاً عن معدل النمو السكاني البالغ حالياً نحو 4ر2 % سنوياً لذلك نجد أن نصيب الفرد من الناتج لم يطرأ عليه تغييراً يذكر في السنوات الأخيرة حيث بقي متدنياً بالمقياسين العربي والعالمي . فقد تراوح نصيب الفرد في سورية من الناتج بين 55389ل.س (حوالي 1076 دولار أمريكي ) في عام 2000و56309 ل.س ( حوالي 1093 دولار أمريكي) عام 2002 على أساس سعر تعادل يساوي 5ر51 ل.س لكل دولار، بينما بلغ نصيب الفرد من الناتج عام 2001 في : لبنان 4217 دولار أمريكي – مصر 1418 دولار أمريكي – تونس 2126 دولار أمريكي . بشكل عام لنا أن نسجل أن دخل الفرد السوري ( يعادل تقريباً نصيبه من الناتج ) يشكل نحو 45% من وسطي دخل الفرد في الدول العربية ، وهو أدنى من دخل الفرد في العديد من الدول العربية ذات الظروف التنموية المشابهة . بالمقياس العالمي نجد أن دخل الفرد في سورية هو أقرب لمثيله في الدول الأقل نمواً في العالم (997 دولار أمريكي في عام 2000) ، ويشكل 21 % من وسطي دخل الفرد العالمي ( 5170 دولار أمريكي في العام نفسه ) و55 % من وسطي دخل الفرد في الدول المتوسطة النمو ( 1976 دولار أمريكي في ذلك العام) علماً أن سورية كانت تصنف في السابق من الدول المتوسطة النمو على الصعيد العالمي .
الموارد : وهنا نلاحظ أزمة مركبة تتعلق بحجم الموارد من ناحية وبنيتها الهيكلية من ناحية أخرى . فالبقيم المطلقة نجد أن حجم الناتج في سورية لا يزيد – حالياً- إلا بنسبة 20% عن مثيله في لبنان ، ويقل بنسبة 7% عنه في تونس بالرغم من أن عدد سكان سورية يبلغ نحو 4ر4 ضعف عدد سكان لبنان و73ر1 ضعف عدد سكان تونس.
ومن حيث البنية الهيكلية نجد أن النفط يساهم بنحو ( 51-53%) في موارد الخزينة العامة للدولة ، وتشكل نحو( 65-70% ) من مواردها من القطع الأجنبي. ومما يزيد الأمر تعقيداً أن النفط يرتبط بعوامل يصعب السيطرة عليها أو التحكم بها ، فهو ثروة قابلة للنضوب كما أن أسعاره ترتبط بقوى العرض والطلب في السوق العالمية . بصرف النظر عن الجدل الذي يدور بين فترة وأخرى في البلاد حول حجم الاحتياطي من النفط الخام أو إمكانية العثور على مكامن نفطية جديدة فإن عدداً من التقديرات المحلية والدولية التي يمكن الوثوق بها تشير إلى أن سورية ستتحول مع عام 2012 ( أي بعد نحو 8سنوات فقط ) من مصدر إلى مستورد للنفط ومشتقاته ، ربما فسر ذلك تراجع الإنتاج من 600000 برميل يومياً في عام 1998 إلى 475000 برميل يومياً هذا العام في محاولة لزيادة عمر الاحتياطي النفطي المؤكد لدينا حالياً .
النفقات : خلال السنوات العشرة الماضية (1994-2004 ) زاد حجم الموازنة في سورية من 162ر144 مليار ل.س إلى 5ر449 مليار ل.س ، أي بمعدل 12% سنوياً . بمقارنة هذا المعدل مع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي التي تم تحقيقها خلال الأعوام الماضية وتحدثنا عنها سابقاً يمكننا إدراك الفجوة بين القدرة الحالية المحدودة للاقتصاد الوطني على توفير الموارد والزيادة الكبيرة في النفقات المطلوبة لتغطية حاجات التنمية في البلاد .
البطالة : تشير البيانات الرسمية إلى أن عدد العاطلين عن العمل قدر بـ637805 شخص عام 2002 ( شكلوا نحو 12% من قوة العمل في العام نفسه ) وأن هذا العدد قد ازداد بمعدل وسطي بلغ 50000 شخص سنوياً خلال الفترة ( 1999-2003)،كما أن وسطي عدد القادمين الجدد إلى سوق العمل قد بلغ 185000 شخص سنوياً خلال الفترة ( 1997-2002) . من تلك البيانات – وبصرف النظر عن دقتها – يمكن الاستنتاج بأنه مع مطلع عام 2004 كان هنالك في سورية ما يزيد على 700000 شخص يبحث عن عمل ، وبافتراض أن كلفة فرصة العمل نحو 5ر1 مليون ليرة سورية يعني ذلك أن البلاد كانت بحاجة إلى 1050 مليار ليرة سورية لتشغيل جميع العاطلين عن العمل في هذا العام كما أنها بحاجة إلى استثمارات إضافية تبلغ نحو 278 مليار سنوياً لتوفير فرص عمل للقادمين الجدد إلى سوق العمل . الموارد المتاحة لا تسمح بذلك فتشغيل جميع المتعطلين عن العمل يحتاج إلى استثمارات تبلغ 09ر1 ضعف الناتج المحلي في سورية عام 2002 ، كما أن تشغيل جميع القادمين الجدد إلى سوق العمل يحتاج إلى استثمارات إضافية تبلغ نحو 29% من الناتج المحلي الإجمالي في العام نفسه، وكلا المطلبين يتجاوز طاقة الاقتصاد السوري الحالية كما سيتضح من البيانات المتعلقة بالاستثمار .
الاستثمار : من الأمور الأخرى التي تسترعي الاهتمام ونحن نتحدث عن مناخ الأزمة الاقتصادية في سورية تلك المتعلقة بالاستثمار . فقد تراجعت نسبة الاستثمار الوطني إلى الناتج المحلي الإجمالي من 33% عام 1985 إلى أقل من 20% عام 1990 لتراوح بحدود 18% حالياً . كما أن الوضع بالنسبة للاستثمار الأجنبي ليس أفضل حالاً ، فقد بلغ إجمالي التدفقات الاستثمارية المباشرة من دول الاتحاد الأوروبي إلى دول منطقة المتوسط نحو 24 مليار دولار أمريكي خلال الفترة (1990-1998) كانت حصة سورية منها 5ر1% ، بينما بلغت حصة مصر 5ر8% ، وتونس 6ر11% ، وتركيا 28%.
توزيع الدخل الوطني : يشير توزيع الدخل الوطني في الفترات السابقة إلى ازدياد حصة أصحاب الملكية وانخفاض حصة قوة العمل من الناتج المحلي الإجمالي ، وقد ترافق هذا باتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع . ليس هنالك بيانات تفصيلية رسمية متاحة حول هذا الموضوع ، إلا أن تراجع نسبة الرواتب والأجور – للعاملين في الدولة والقطاع العام -إلى الناتج المحلي الإجمالي من نحو 30% أوائل السبعينيات إلى نحو 12% حالياً يعتبر أحد المؤشرات الهامة لتراجع وتدني عدالة توزيع الدخل في البلاد ، مما يعتبر أحد المصادر الأساسية لتهديد توازن المجتمع واستقراره .
مؤشر التنمية البشرية : هو من المؤشرات التي أدخلت حديثاً من قبل البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ، بهدف القياس الكمي لمستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي في بلد ما ، وهذا المؤشر هو تركيبة مؤلفة من ثلاثة مكونات أساسية ، هي : طول العمر ، والمستوى التعليمي ، والمستوى المعيشي . في عام 1994 احتلت سورية المرتبة (78) بين دول العالم وفق هذا المؤشر وقد تراجع تصنيفها إلى المرتبة (106) في عام 2002
بعد كل ما سبق نستعين بلينين لنستحضر سؤاله التاريخي الشهير : ما العمــل ؟
في الإجابة نقول أنه بالرغم من كل المحاولات – المشكورة – التي تقوم بها دوائر القرار الاقتصادي في مجال الإصلاح ، إلا أن هذه المحاولات لازالت بطيئة أكثر من المرغوب ومترددة أكثر من المطلوب ؟ لذلك يبقى العمل ( والحل ) في حسم خياراتنا وتأكيد عزمنا على السير في طريق الإصلاح دون إبطاء وفق عدد من التوجهات ، منها :
- مراجعة دور الدولة لتطويره من الوصاية إلى الرعاية : فوفق منطق العصر لم يعد مقبولاً أن تكون الدولة وصية على خيارات المجتمع وقواه الفاعلة مما يستدعي توسيع دائرة المشاركة ، ووفق حقائق الواقع لم تعد الدولة قادرة منفردة على ممارسة دور الأب الذي يدفع الأجر ويخلق فرصة العمل ويوفر السلع والخدمات بأسعار غير اقتصادية يغطي الخسائر الناجمة عنها من موارده أو مدخراته لأن الموارد لم تعد كافية والمدخرات قابلة للنضوب . لذلك لابد من أن يأخذ الدور الاجتماعي للدولة شكل الرعاية بدلاً من الوصاية ، بحيث تقوم الدولة برعاية حالة من التعايش بين مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية قائمة على صيغة من التعاقد المرن بين المترفين والمحرومين . فتوزيع العبء والمنفعة يتم وفق أسس وضوابط تضعها وتكفل تنفيذها سلطات الدولة الثلاث ( التشريعية – والتنفيذية – والقضائية ) كل بحسب اختصاصه وتمول بشكل أساسي عن طريق موارد الخزينة العامة من الضرائب والرسوم ، مما يمّكن على سبيل المثال من – تقليص الدعم التمويني المقدر حالياً بحوالي100 مليار ليرة سورية سنوياً الذي يستفيد منه الجميع أغنياء وفقراء لتوسيع الخدمات المجانية في الصحة والتعليم التي يستفيد منها في الغالب الطبقات والشرائح الأضعف في المجتمع. – إحداث صندوق للبطالة يمول من القطاعين العام والخاص بدلاً من إقامة مشاريع خاسرة لخلق فرص عمل ، إذ أن مثل هذه المشاريع لا تحل مشكلة البطالة بل تنقلها من الشارع إلى المعمل وبتكاليف عالية تدفعها الدولة نيابة عن المجتمع . – تقديم دعم بأسعار الفائدة للإقراض الموجه للمشاريع الجديدة القادرة على خلق فرص عمل بأعداد كبيرة ، على أن يتم تمويل هذا الدعم من خلال تقليص الدعم التمويني أو الوفر الناجم عن معالجة أوضاع بعض منشآت القطاع العام الخاسرة أو فرض رسم على القطاعين العام والخاص … أو ما شابه .
- تحسين الأداء الاقتصادي للقطاع الخاص وتطوير دوره الاجتماعي : القطاع الخاص يعاني من تدني الأداء الاقتصادي ومحدودية دوره الاجتماعي . فوفق البيانات الرسمية سجلت إنتاجية رأس المال الخاص تراجعاً شبه مستمر منذ عام 1990 وحتى عام 2002 ، كما أن مساهمته في إجمالي موارد الخزينة العامة من الضرائب تبلغ نحو 14% بالرغم من أنه يساهم بنحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي 0المدخل لتحسين الأداء الاقتصادي لهذا القطاع هو إدراكه بأن منطق العصر لم يعد يسمح بتوفير مستويات الحماية السابقة ( أو السائدة حالياً) ، مما يقتضي إعادة تأهيله ليصبح أكثر قدرة على المنافسة في سوق مفتوحة فتحرير التجارة سيستمر وبالتالي سيتنامى مستوى المنافسة طرداً مع ذلك .للدولة في عملية إعادة التأهيل نصيب عليها أن تتحمله ، لكن بالمقابل على القطاع الخاص دور في توفير الموارد الكافية للخزينة العامة للدولة عليه القبول به وتحمل أعبائه ،فلم يعد مقبولاً أن تبقى مساهمة القطاع الخاص في سورية بالمستويات المتدنية المشار إليها سابقاً . يجب اتخاذ الإجراءات الكفيلة بزيادة تلك المساهمة ، علماً بأن العبء الضريبي في سورية البالغ حالياً نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي هو من المستويات المتدنية بالمقياس العالمي حيث تصل هذه النسبة في بعض دول الشمال الصناعي إلى ما يزيد على 40% أحياناً.
- تحسين الأداء الاقتصادي للقطاع العام : مما يستدعي تمييز نوعين :
- منشآت ذات وظيفة استراتيجية : قد تختلف الآراء بشأن التصنيف،لكن بشكل عام أجد أن المشافي والجامعات والمطارات والمرافئ والسدود … وما شابه قابلة لأن تدرج تحت العنوان السابق .المطلوب هنا الحفاظ على هذه المنشآت وتطوير أدائها الاقتصادي قدر الإمكان ، وقد قيل وكتب الكثير حول كيفية تطوير هذا الأداء وتحسينه .
- منشآت ذات وظيفية اقتصادية : أي تخضع لمقاييس الربح والخسارة ، مثل منشآت الإنتاج السلعي أو الخدمي ( شركات صناعية أو إنشائية ، فنادق … الخ ) . وهنا أرى تقسيم تلك المنشآت إلى صنفين خاسر ورابح ، الرابح منها يمكن الحفاظ عليه وتطويره بإضافة استثمارات جديدة أما الخاسر فلا بد من اتخاذ مواقف جريئة وواضحة بشأنه ، مثل : تغيير النشاط – التوقف عن العمل – طرحها للاستثمار الخاص وفي ذلك كله لابد من التأكيد على حقوق العاملين وعدم اللجوء إلى تسريح أي منهم ، فعمال اليوم وأسرهم ليسوا مسؤولين عن أخطاء السياسات التنموية وخطايا ممارساتها . هنالك بعض الأصوات التي قد تعارض توجهاً كهذا تحت عناوين مختلفة ، فالتحولات الكبرى دائماً هي موضوعاً لحوار تيارات المذاهب والمصالح كما أن مقاومة التغيير جزء من الطبيعة البشرية . لذلك نقول أن معارضة كتلك أمر طبيعي ، لكن ماهو غير طبيعي أن يتردد القرار أمام مقاومة التغيير عندئذٍ ستكون الكلف عالية والأخطار كبيرة .
- البحث عن بدائل للنفط : لم يعد النفط – كما أشرنا – مصدراً للثروة يمكن الرهان عليه لفترة طويلة ، لذلك أجد بحكم الضرورة البحث جدياً عن بدائل . قد تختلف الآراء بشأن تلك البدائل ( زراعة – سياحة – صناعة – غاز طبيعي …) ، لكن ما يجب أن تتفق الآراء حوله هو إعطاء أولوية مطلقة لهذا الموضوع فتلك مسؤولية الجميع : دوائر قرار ، باحثين ، وفنيين .
- مواجهة الفساد : بألم نقول أن الفساد تحول من ظاهرة فردية إلى نمط سلوكي ، وتجارب السنوات الماضية تؤكد على أن الرهان على النزعات الأخلاقية للأفراد ، كما أن الرهان على الإجراءات القانونية والإدارية – بالرغم من كثرتها – لم تلغ الفساد أو تردع الفاسدين . هذا لايعني التخلي عن تلك الخيارات لكن يعني أن علينا تدعيمها بخيارات إضافية كتوسيع دائرة المشاركة وتعزيز دور السلطة الموازية ( مجلس شعب – وسائل إعلام – منظمات غير حكومية …) ، لأن التجارب توضح بأن خيار احتكار القرار من الخيارات المساعدة على تشجيع الفساد وتحصين الفاسدين .
جملة القول أن الحل يكمن في التغيير فلنكن ممن يملكون الجرأة على القيام به مع الاعتراف بحق البعض في مقاومته … هذا البعض موجود في كل عصر لأنه بقايا عصر انتهى …لكن بالعزم وبالزمن تتحول مقاومة التغيير إلى صيحة بلا صدى وقصيدة بلا جمهور … فتجارب الحياة تعلم أن من لايملك القدرة على التطور لايملك القدرة على الحياة .
الدكتور محمد توفيق سماق