مجلة الاقتصاد والنقل – دمشق – سورية
العدد: 3 تاريخ 3/2005/ 1
|
مع إخفاق استراتيجيات التنمية في العديد من دول الجنوب ، الإخفاق الذي بدأت أعراضه تتأكد منذ ثمانينيات القرن الماضي بتدني معدلات النمو المحققة و ارتفاع مؤشرات البطالة وتراكم المديونية الخارجية و ارتفاع أعباء خدمتها حيث وصلت في المتوسط إلى نحو 25% من قيمة الصادرات ، انشغلت أدبيات التنمية على الصعيد العالمي بجدل حول العديد من المقولات القديمة الجديدة ، منها : الدور الاقتصادي للدولة – السوق – آليات السوق – اقتصاد السوق ….. وما شابه . ومع تفكك الاتحاد السوفيتي و انهيار منظومة الدول الاشتراكية السابقة التي ارتبطت به حُسم ذلك الجدل بالنسبة للكثيرين في العالم الذين اعتبروا تفكك الاتحاد وانهيار المنظومة شهادة تاريخ ترقى على الشك وتسمو عن الشبهات ، مفادها :
نجاح السوق واقتصاده مع فشل الدولة ودورها الاقتصادي . أما بالنسبة لنا في سورية فلا زال الجدل مستمراً حول تلك المقولات ، فما هو السوق و آلياته و اقتصاده ؟ وهل للدولة دور في ذلك كله ؟
وُجد السوق منذ أقدم العصور ، أي منذ أن وجد البائع و المشتري فهو المكان الذي يلتقي فيه الطرفان لإنجاز عملية التبادل بواسطة المقايضة أو عن طريق النقود . و السوق مصطلح حيادي لا ينحاز إلى أية أيدلوجيا فقد وُجد في عصر الإقطاع و الرأسمالية و لاحقاً الاشتراكية وسيظل طالما وُجد بائع و مشتري . تقسم الأسواق إما حسب تخصصها ( مثلاً أسواق العمل أو الأسواق المالية ) أو حسب حدودها الجيوسياسية ( السوق الوطنية و السوق العالمية ). أما مصطلح آليات السوق فقد شاع استخدامه حالياً للدلالة على قوى السوق من عرض و طلب ، إلا أن هذا الاستخدام الضيق فيه الكثير من التعسف . فلكل سوق آلياته ( أو أدواته ) التي تحددها طبيعة النظام الاقتصادي السائد فيه ، فمثلاً كان التوسع في ملكية الدولة عن طريق تأميم المصانع و إقامة مصانع جديدة مملوكة للدولة مع نزع ملكية الأراضي الزراعية في الريف و تحويلها إلى مزارع تعاونية أو مزارع دولة من أبرز آليات السوق الاشتراكية في العصر السوفيتي خاصة في مراحله الأولى.
بينما نجد اليوم الخصخصة ( بيع ملكية الدولة إلى القطاع الخاص ) و التنافس على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية وتشجيع رؤوس الأموال المحلية على النشاط الاقتصادي من أبرز آليات اقتصاد السوق ، الذي يمكن توصيفه وفق المقولات الاقتصادية الكلاسيكية و على هدي ما يجري في العالم اليوم بأنه :
الاقتصاد القائم على حرية الاستثمار ، وجاذبية الربح ، وسعر يحدده العرض و الطلب .
صورة الاقتصاد التي يرسمها التوصيف السابق صورة مجردة إلى أعلى درجات التجريد و لا تنطبق بشكل كامل على أي اقتصاد حقيقي ففي الماضي كما في الحاضر كان للدولة دور يختلف من عصر إلى عصر ومن دولة إلى أخرى .
فالدولة في أوروبا هي التي وحدت السوق القومية وهي التي وفرت لرأس المال أسباب التراكم عن طريق التوسع الاستعماري في الماضي . وتلعب الدولة في الغرب حالياً دوراً محورياً في مجالات عديدة , أهمها :
- رعاية صيغة من التعاقد المرن بين المترفين و المحرومين في المجتمع : في صيغة التعاقد تلك نجد الكثير من الملامح التي نادى بها الفكر الاشتراكي في مجال تقاسم الثروة وتقاسم السلطة . فتوزيع العبء و المنفعة يتم وفق أسس و ضوابط تضعها و تكفل تنفيذها سلطات الدولة الثلاث ( التشريعية و التنفيذية و القضائية ) كل بحسب اختصاصه ، وهذه بدورها تستمد شرعيتها من المجتمع وخياراته عن طريق صناديق الاقتراع مما يعتبر في بعض جوانبه تطبيقاً عملياً لما نادى به الفكر الاشتراكي من تحرير الإنسان من الاستغلال المادي و القهر المعنوي . حققت هذه الصيغة حداً مقبولاً من التوازن و الاستقرار أدخلت تلك الدولة مرحلة متقدمة من الغنى و الوفرة ، بحيث أصبحت الآن نموذجاً ملهماً ( بالرغم من نواقصه ) للكثير من مجتمعات العالم الأخرى ودوله ، و أصبح البعض يصفون دولة الغرب تلك بدولة الرعاية الاجتماعية و يطلقون على اقتصادها وصف اقتصاد السوق الاجتماعي مما يوحي بأن المجتمع أضحى غاية الدولة و اقتصادها ؟ .
- التدخل في تخصيص الموارد المتاحة : من المعروف أن متوسط عائد الاستثمار يتفاوت من قطاع اقتصادي إلى قطاع آخر , فمتوسط العائد في قطاع الزراعة أقل ( حتى في البلدان المتقدمة ) منه في قطاعي الصناعة و الخدمات . و بمنطق تعظيم الربح كان من الطبيعي أن يهجر رأس مال الزراعة إلى القطاعات الأكثر ربحاً مما سيؤدي إلى اختلالات اجتماعية و اقتصادية عديدة ( هجرة قوة العمل إلى المراكز الصناعية – تراجع إنتاج و إنتاجية قطاع الزراعة …… وغيرها ) . وتجنباً لذلك تقوم الولايات المتحدة الأمريكية و دول الاتحاد الأوروبي بتقديم دعم ٍ مالي للمزارعين بمبالغ كبيرة من موارد الدولة ( حوالي نصف موازنة المفوضية الأوروبية تخصص لدعم قطاع الزراعة في دول الاتحاد ) . وفي الولايات المتحدة الأمريكية استخدم الكونغرس الأمريكي بمجلسيه سلطته في إقرار نفقات الحكومة الفيدرالية لتشجيع توطين صناعات محددة في ولايات معينة . فحتى أوائل القرن الحالي تركز في الساحل الشمالي الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية معظم الصناعات الكبيرة , خاصة التقليدية كالفحم و الكهرباء و الحديد …. وغيرها . أما اليوم فنجد الشمال الغربي يصبح مقراً لصناعة الطيران ( ولاية أوريغون )، وأريزونا في الجنوب الغربي أصبحت بقرار من الحكومة الفيدرالية مقراً لصناعة الفضاء … و الأمثلة الأخرى عديدة على ذلك .
جملة القول أن اقتصاد السوق يحد من تدخل الدولة لكنه لا يلغيه ، و صحيح انه في الجوهر يهدف إلى تشجيع المبادرة الفردية لكنه يحتاج لسلطة المجتمع ممثلة بالدولة لتنظيم مبادرات الأفراد و توجيهها . الأمر الجوهري في ذلك هو طبيعة العقد القائم بين الفرد و الدولة و المجتمع .
اقتصاد السوق يقتضي عقداً اجتماعياً قائماً على التراضي و ليس على الإكراه….. فالتراضي وحده يكفل الحرية في الاستثمار و يضمن الحق في الربح و يحرر قوة العرض و الطلب …… وهذا هو اقتصاد السوق .