صحيفة البعث – دمشق – سورية
العدد :10162 تاريخ 30/10/1996 |
المواقف التي عبر عنها و أكد عليها الرئيس الفرنسي جاك شيراك خلال زيارته الأخيرة لمنطقة الشرق الأوسط والمتعلقة بالسلام والعدل والشراكة في منطقة المتوسط تستحوذ الإعجاب والتقدير و هي تستحق إعجاباً أكثر وتقديراً أعمق حين تصدر عن رئيس الجمهورية الفرنسية الدولة الكبرى ذات الدور الحضاري التاريخي والثقل السياسي والاقتصادي العالمي الذي لا يقبل الإنكار. هذه المواقف تستدعي من العرب واجب توفير قوة الدفع اللازمة لها بهدف الحفاظ عليها وتطويرها إن أمكن ففي ذلك مصلحة للجميع ، العرب وفرنسا و العالم من حولهما و لا شك بأن لفرنسا وللرئيس شيراك أسبابهما لاختيار هذا النهج . ربما كان من بين الأسباب إحياء الرغبة الفرنسية التقليدية في التميز و تأكيد الحضور على الساحة العالمية وربما كان من بين الأسباب أهمية منطقة الشرق الأوسط من الناحية الجيوسياسية و من الناحية الاقتصادية . و ربما كانت رغبة فرنسا في ملء بعض الفراغ الذي تركه انهيار الاتحاد السوفيتي سبباً في ذلك وربما كان أيضاً التعاطف الوجداني مع قضية أخلاقية هي قضية السلام العادل سبباً آخر ربما كان ذلك و غيره لكن الواضح حتى الآن أن مواقف الرئيس الفرنسي بمقدار ما استدعت لدى العرب و مناصري العدل في العالم مشاعر الإعجاب والتقدير حرضت لدى البعض الآخر في المنطقة والعالم مشاعر من نوع آخر . فإسرائيل معادية لها وأمريكا غاضبة منها و لكل منهما أسبابه و هذا ما يجعل المهتم يبادر إلى الاقتراض بأن هنالك قوى لا يستهان بقدرتها سواء على الصعيد الداخلي الفرنسي أو على المستوى الأوروبي ستحاول التخفيف من أثر تلك المواقف أولاً ثم احتواءها إن أمكن لاحقاً و هنالك عوامل عديدة يمكن أن تشجع الراغبين في ذلك منها :
- داخل فرنسا قد لا تكون مجموعات الضغط المناصرة لإسرائيل بنفس القدرة على التأثير التي تمتلكها نظيراتها في الولايات المتحدة الأمريكية ، إلا أنها على درجة من القدرة على الإرباك لا يمكن تجاهلها . ما جرى مؤخراً مع المفكر الفرنسي روجيه غارودي عندما أصدر كتابه / الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية / دليل قريب على ذلك . في فرنسا أيضاً مشاكل اقتصادية و اجتماعية متعددة قابلة للتوظيف . هنالك البطالة التي زادت عن 12% /عام 1994/ وهنالك الانقسام السياسي والاجتماعي حول وجود الأجانب في البلاد خاصة من دول الجنوب و شروط الهجرة و القضايا المتفرعة عن ذلك . في أوروبا نجد دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية غير متفقة على أولويات حركة الاتحاد الخارجية . فبينما نجد فرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية المتوسطية تدفع الاتحاد للحركة جنوباً باتجاه المتوسط ، نجد دول أخرى رئيسية في أوروبا و العالم و هي ألمانيا تحاول إعطاء أولوية لعلاقات الاتحاد الأوروبي مع دول أوروبا الشرقية حتى و لو كان ذلك على حساب الشراكة المتوسطية التي يدفع باتجاهها الرئيس شيراك و فرنسا من ورائه . وقد نجد في بعض دول الاتحاد الأوروبي الأخرى الأصغر حجماً من يناصر ألمانيا في مسعاها علماً بأن حركة المانيا نحو الشرق الأوروبي اتجاه تقليدي في السياسة الألمانية منذ أيام الرايخ الثاني أي منذ أيام غليوم الأول وبسمارك .
- في أقصى الغرب الأوروبي أي في بريطانيا نجد أصواتاً لا يستهان بها تصر على أولوية العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية حتى لو كان ذلك على حساب العلاقة مع بقية أوروبا فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالشرق الأوسط ، و حجج هؤلاء في دعواهم عديدة منها الأهمية التي يولونها للعلاقة بين مركزي الحضارة الانكلوسكسونية على طرفي الأطلس / أي بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية / .
ذلك و غيره يمكن أن يكون حصان طروادة للراغبين في احتواء مواقف الرئيس شيراك و التخفيف من وتيرة تطورها ، و أغلب الظن أنهم سيحاولون . لذلك يستدعي الواجب منا كعرب أن نحاول بالاتجاه المعاكس صيانة تلك المواقف والسعي لتسريع وتيرة تطورها فكيف ؟ لابد من التذكير أولاً بما هو شائع و معروف في السياسة العالمية و القابل للتلخيص بمقولة رجل الدولة الانكليزي الشهير بنيامين دزرائيلي / رئيس وزراء بريطانيا خلال الفترة 1874-1880 / حيث قال : « في العلاقات بين الدول ليس هنالك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة و إنما هنالك مصالح دائمة » . بمعنى آخر فكلمات الشكر والتقدير على أهميتها من الناحية الإنسانية لا تكفي لتأسيس علاقة متينة و تطوير صلة حيوية بين الدول . لابد من أن يقترن ذلك بتبادل المصالح و تطويرها على قاعدة المنفعة المشتركة و لدى العرب الكثير مما يمكن أن يتبادلونه مع فرنسا أو غيرها من دول العالم الراغبة في الانضمام إلى مسيرة العدل والشراكة والسلام فالوطن العربي قوة تجارية هامة / يساهم بنحو 3,5% في التجارة العالمية استيراداً و تصديراً والمنطقة العربية خزان الطاقة الأهم في العالم نحو 60% من احتياطي النفط المؤكد في العالم حالياً في وقت يتوقع أن يستهلك احتياطي العديد من دول العالم خلال سنوات قليلة قادمة والوطن العربي قوة بشرية هامة / نحو 4,5% من سكان العالم / لديها قدرات علمية وفنية لا يستهان بها إذا أحسن توظيفها و بعد كل ذلك لدى العرب فوائض مالية كبيرة / نحو 700 بليون دولار أمريكي موظف خارج الوطن العربي …./ وغير ذلك الكثير أي لدينا نحن العرب ما نقدمه لأصدقائنا إذا ما رغبوا في ذلك وأظن أن فرنسا اليوم وبحق راغبة في شيء من ذلك . ففي ختام زيارة الرئيس شيراك لمصر ( محطته الأخيرة ) وقف في نهاية المؤتمر الصحفي الذي عقد في ختام الزيارة مخاطباً الصحفيين الفرنسيين المرافقين له قائلاً ما معناه : « إن الفائض في ميزان التبادل التجاري لفرنسا مع العالم الخارجي قد زاد كثيراً في هذه المرحلة عما كان عليه في المراحل السابقة – أي زاد منذ وصول الديغوليين مجدداً إلى رئاسة الجمهورية – موضحا بأن هذه الزيادة ستساعد فرنسا على خلق عشرات آلاف فرص العمل الجديدة للفرنسيين ، و أضاف بأن من أهم شركائنا التجاريين دول الاتحاد الأوروبي و دول الشرق الأوسط وكما ترون فإن سياستنا الخارجية كانت ذات جدوى ، وكانت مدافعاً مخلصاً عن مصالح فرنسا ».
كان هذا مضمون ما قاله الرئيس شيراك و هو أشبه ما يكون ببيان موجه إلى الأمة الفرنسية يستهدف طمأنة الفرنسيين لقدرة السياسة الخارجية الفرنسية على حماية مصالح فرنسا وهو في الوقت نفسه دعوة لأصدقاء فرنسا في المنطقة لمزيد من توثيق التعاون وتبادل المصالح وتعميم المنافع . فهل يستجيب العرب لهذه الدعوة ؟ وهنا لابد من التوضيح بأن الأطراف العربية الأقدر مادياً و اقتصادياً ربما كانت الأقدر على الاستجابة السريعة و الفعالة .
بهذه المناسبة قد يكون من المفيد الإعراب عن الأمل بألا يتكرر مع فرنسا ما جرى مع أصدقاء سابقين في عصر مضى . أصدقاء رغبوا في الصداقة و عملوا لها ، لكن بعض العرب لم يصنها بما يكفي و لم يحرص عليها كما ينبغي و ربما لم يدرك أهميته إلا بعد غياب أصحابها حين أطلقت أوائل التسعينيات بعض وسائل الإعلام في الغرب على العرب لقب / أيتام البريسترويكا / .
الدكتور محمد توفيق سماق