صحيفة البعث – دمشق – سورية
العدد :9464 – تاريخ: 28/6/1994 |
أما سبل تحقيق ذلك و طرقه فقد اختلفت وتعددت حسب المراحل و الظروف التاريخية المتعاقبة وفي هذا السياق تأتي التعددية الاقتصادية كطريق آخر أو سبيل قد يكون فيه بعض التجديد و يستهدف في النهاية تحقيق ما يمكن من وفرة الإنتاج و ما يمكن من عدالة التوزيع .
و بعيداً عن الجانب النظري من هذه المسألة نعود إلى ما بدأنا به للتوضيح بأن سورية كدولة نامية معنية بالبحث عن حلول لمشاكلها الاقتصادية و الاجتماعية . التعددية الاقتصادية كانت بالنسبة لنا في سورية خياراً مطروحاً. بأشكال و صيغ مختلفة ، منذ مايزيد على عشرين عاماً و في الفترة الأخيرة عملت الدولة بجهد لتوفير الشروط التي وجدتها ضرورية لنجاح ممارستها و لعل من أهم و آخر الإجراءات في هذا السياق هو إصدار قانون تشجيع الاستثمار رقم ١٠ تاريخ 4/5/1991 الذي يمكن اعتباره صياغة قانونية لنهج التعددية الاقتصادية .
قد كان لهذا القانون أهدافاً عديدة من أبرزها تعبئة القدرات الاقتصادية الوطنية المتاحة باتجاه التنمية في العقود الماضية ، منذ أوائل الستينات كانت موارد الدولة هي الممول الأساسي لخطط التنمية . فعلى سبيل المثال قدر إجمالي تكوين رأس المال الثابت خلال عقد الثمانينات ١٩٨٠- ١٩٨٩ في مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني في سورية بما مجموعه ٢٠١٣٧٠ مليون ليرة سورية ساهم فيها القطاع الخاص بنسبة ٣٩٪ فقط أما ٦١٪ الأخرى فقد تحملت أعباءها الدولة و القطاع العام .
إن مساهمة القطاع الخاص هذه لا تتناسب مع إمكانياته الكبيرة المقيم منها و المهاجر في هذا السياق تأتي الجهود التي تبذلها الدولة لتشجيع رأس المال الوطني و الأجنبي و تحفيزه للعمل في سورية ، و قد كان لتلك الجهود أثر واضح في ازدياد النشاط الصناعي للقطاع الخاص ( غير الحكومي ) في مختلف جوانب الدورة الاقتصادية لقطاع الصناعة التحويلية. فبين أواسط الثمانينات و أوائل التسعينات يمكننا قراءة مؤشرات التطور التالية المأخوذة من وثائق وزارة الصناعة للمشاريع المملوكة للقطاع الخاص و غير المشمولة بأحكام القانون ١٠ :
عدد المشتغلين | المجموعة التراكمي لرؤوس الأموال المستثمرة | الصادرات | الإنتاج | مساهمة القطاع الخاص
( صناعة تحويلية ) |
41 % | 9 % | 14 % | 1985 | |
52 % | 28 % | 68 % | 27 % | 1990 |
53 % | 29 % | 64 % | 40 % | 1991 |
على الرغم مما توحي به المؤشرات السابقة من نمو مضطرد لدور القطاع الخاص في مجال الصناعة التحويلية إلا أن القطاع العام لازال يتقدم على القطاع الخاص بحجم الإنتاج و قيمة الاستثمارات الموظفة. و في بعض نشاطات هذه الصناعة لازال القطاع العام الطرف الوحيد الذي يمارس النشاط الإنتاجي مثل صناعة تكرير النفط – الغزل – السكر – الخميرة – البيرة و المياه المعدنية . أما بالنسبة للمشاريع الصناعية المشمولة بأحكام القانون ١٠ فقد بلغ عددها منذ صدور القانون و حتى نهاية النصف الأول منذ عام ١٩٩١ ما مجموعه ٣٧١ مشروعاً ( كيميائية – غذائية – نسيجية ) يقدر أن توفر ٢٨١٤١ فرصة عمل أما حجم رأس المال المستثمر فيها فيقدر بحوالي ٦٢ مليار ليرة سورية .
كما أن الدولة قد خططت خلال الفترة القادمة لتطوير العديد من منشآت القطاع العام القائمة و إحداث منشآت صناعية جديدة لزيادة طاقته الإنتاجية بهدف تغطية حاجة السوق المحلية و تصدير الفوائض المتاحة من إنتاجه . و بشكل عام يمكننا أن نتوقع مستقبلاً نمواً هاماً للمشاريع المملوكة من قبل الدولة في الصناعة التحويلية خاصة صناعات الغزل و النسيج – الحديد و الصلب – الاسمنت و الصناعات الكيميائية و السكر .. حيث من المقدر أن يوظف ما قيمته ٥٣٣٨٩ مليون ليرة سورية لتطويرها خلال الأعوام ١٩٩١ – ١٩٩٥.
في سياق الحديث عن دور الدولة في الحياة الاقتصادية نرى من المهم الإشارة إلى دعوة التخصيصية التي شاعت في البلدان العربية منذ أواخر الثمانينات و حتى الآن . إن هذه الدعوة و الإلحاح في طرحها يرتبط على الأرجح بعدد من العوامل أهمها :
– الوضع الدولي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي و تخلي الصين الشعبية عن الاقتصاد الموجه لنتبنى ما تسميه اليوم اقتصاد السوق الاشتراكي .. ذلك و غيره يعتبر في أحد وجوهه بلا ريب انتصاراً لاقتصاد السوق و مقولاته .
– تفاقم مشكلة المديونية في الدول العربية مع انخفاض موارد الدول النفطية و ازدياد حاجاتها التمويلية نتيجة لهبوط أسعار النفط و نتائج حرب الخليج وانعكاسات ذلك على الدول العربية غير النفطية .
– ازدياد حدة التوترات المجتمعية في عدد من الدول العربية على خلفية اقتصادية في معظمها .
ذلك و غيره جعل الدول العربية تبحث عن مصادر لتمويل خططها التنموية ، و طبيعي في حال كهذه أن تفكر هذه الدول باستنفار قدراتها الذاتية و الفوائض المالية لدى القطاع الخاص في الدول العربية إحداها . سيما و إن معظم هذه الفوائض مستثمر خارج الدول العربية و الإحصاءات تشير إلى أنه مقابل كل دولار عربي مستثمر في المنطقة العربية يستثمر خارج الوطن العربي ٥٦ دولاراً من الفوائض المالية العربية ( حكومي + خاص ) . إلا أن المتبع لمسيرة التخصيصية التي انتهجتها و منذ سنوات العديد من الدول العربية تشير إلى أن الآفاق الواقعية لدعوى التخصيصية تكمن في التوجه نحو مشاريع الإنتاج السلعي و الخدمي التي تقوم على أساس العوائد المباشرة و بهدف تحقيق أعلى مستوى ممكن من الأرباح .
خلاصة القول أن لدعوة التخصيصية أو الخصخصة أو ماشابه ذلك من مصطلحات حدوداً موضوعية تفرضها معطيات الواقع العربي و ظروفه . للخاص حدود أغلب الظن أنه لن يستطيع تجاوزها و على العام واجب أغلب الظن أنه لن يستطيع التخلي عنه . فالتنمية بحاجة إلى تعاون القطاعين تعاوناً إرادياً مدروساً و متصلاً ، فلكل منهما دوره و قدرته و اهتماماته . إن تجاهل أحدهما لمصلحة الآخر يسبب الوهن و الانحراف قي مسيرة التنمية ، لذلك تبقى أطروحة التعددية الاقتصادية هي الأكثر استجابة لمعطيات الواقع و ظروفه فكما أن التنوع من سمات الحياة فإن تعدد آليات النمو من ضروراتها .
وعود على بدء ننتقل لنسأل إلى مدى استطاعت الصناعة السورية أن تلعب دورها و تقوم بوظائفها في التنمية على الصعيد الوطني ؟
تأسيساً على كل ما تقدم نستطيع أن نقرر و بموضوعية أن دور الصناعة السورية في الجهد التنموي للبلاد يتسم بالتطور المستمر منذ الاستقلال و حتى الآن تطوراً شمل مختلف جوانب الدورة الاقتصادية في هذا القطاع :
حجم الإنتاج و الناتج- نوعية المنتجات – عدد فرص العمل – حجم رأس المال المستثمر و كذلك علاقات الملكية .
إن هذا الإقرار لا يعني بطبيعة الحال خلو مسيرة التطور الصناعي في بلادنا من المشاكل المعيقة و الصعوبات المعرقلة لنموه و تطوره فهنالك الكثير مما يمكن أن يقال في هذا السياق منه :
تقلبات ظرفية في توجهات خطط التنمية – تغيرات سريعة في سياساتها تبعاً لتقلب التوجهات – قصور آلية العمل الإداري في الاقتصاد الوطني و عدم مرونتها – السياسات المالية المعرقلة و الكابحة أحياناً .
إن وجود هذه المشاكل و غيرها هو من طبيعة الحياة و طبائع الأشياء كما أن مواجهتها و إيجاد الحلول و المخارج لها من المهام الدائمة للجهات المسؤولة عن توجيه الاقتصاد الوطني و إدارته .
ونستطيع ان نذهب إلى أبعد من ذلك لنؤكد بأن وتيرة النمو الصناعي في المستقبل محكومة إلى حد بعيد بقدرتنا على التعامل مع تلك المشاكل و الصعوبات ، هذا ما سنعترض له في المحور الأخير من هذا البحث حيث سنتناول بعض التوجهات المقترحة التي نعتقد بصوابها و أهميتها لتطوير دور الصناعة السورية و تعزيز مساهمتها في الجهد التنموي على المستوى الوطني .
3- اتجاهات المستقبل
أ – حسم الجدل البيزنطي الذي يدور من فترة لأخرى بين المهتمين بقضايا التنمية حول ترتيب الأولويات بين قطاعي الزراعة و الصناعة أيهما الأهم إننا نرى بأن كلاً من القطاعين عام وخاص هام للآخر فالعلاقة بينهما جدلية بمعنى أن كلاً منهما يؤثر و يتأثر بالنتائج التي يحققها القطاع الآخر سلبية كانت أم إيجابية .
ب – الإقرار ، و عن قناعة ، بأهمية الحضور الفاعل للقطاعين العام و الخاص في الحياة الاقتصادية على أساس تعاوني أو حتى تنافسي عندما تقتضي الضرورة ذلك ، فكلاهما له دور و عليه واجب في التنمية وفق إمكانياته المتاحة و بما ينسجم مع طبيعته و اهتماماته .
إن هذا الإقرار يتطلب بالتداعي ضرورة القيام بمراجعة موسعة لآلية العمل الإداري في الاقتصاد الوطني بما يمكن من إعادة صياغة بعض جوانبها فيما يتعلق بالعمل الاقتصادي لكلا القطاعين الخاص و العام ؟
فبالنسبة للخاص نرى أهمية العمل للتخفيف من أثر بعض العوائق التي لا تزال قائمة أمام نشاطه من أساليب بيروقراطية و إجراءات مالية و مصرفية .. و غيرها .
أما بالنسبة للقطاع العام فإن هنالك العديد من القضايا الملحة التي نعتقد بضرورة مواجهتها بأسرع ما تسمح به معطيات الواقع و ظروفه و هي عديدة إلا أن أبرزها اثنتين :
– إعادة صياغة القواعد الحاكمة للإدارة في هذا القطاع بما يؤدي إلى التخلي التدريجي عن مبدأ وصاية المالك على الإدارة المعتمد حالياً و يؤدي إلى الأخذ بالمبدأ القائل بالفصل بين المالك و الإدارة .
– تطوير أساليب التخطيط المألوفة سابقاً لدينا بحيث نصل إلى تحقيق صلة وثيقة بين الخطة و السوق .
– العمل الدؤوب و المستمر على تطوير المستوى العلمي و التكنولوجي لقطاع الصناعة مستفيدين في ذلك من دروس الماضي و تجاربه . و نشدد في هذا السياق على إزالة ما شاع من خلط و تشابك بين مفهومين جرت العادة على مطابقتهما و هما التكنولوجيا و المنتجات التكنولوجية.
فالتكنولوجيا هي المعارف العلمية و المهارات المهنية و هي غير قابلة للاستيراد إلا بحدود ضيقة و بشروط صعبة أحياناً . أما ما جرى في الماضي لدينا و لدى غالبية الدول النامية من استيراد كثيف للتجهيزات و الآلات فهو في جوهره ليس أكثر من استيراد لمنتجات تكنولوجية و ليس استيراداً للتكنولوجيا . إن الوضوح في هذه القضية قد أصبح ضرورياً و هو في نفس الوقت يرتب علينا في الصناعة و على الجامعات و مؤسسات البحث العلمي الأخرى مزيداً من العمل و مزيداً من التعاون لتطوير المستوى العلمي و تحسين المهارات المهنية للكوادر الوطنية مما سينعكس إيجاباً على مجمل عملية التنمية في بلادنا .
– إجراء مراجعة واسعة و عميقة لسياسة دعم المنتج و المستهلك في الأسعار مما يؤدي إلى تحديد جهة واحدة صندوق مثلاً يتولى الإشراف على عملية الدعم يمول من واردات الخزينة العامة للدولة و يتولى تغطية الخسائر الناتجة عن سياسة الدعم أي الخسائر الناشئة عن الفرق بين السعر الذي تحدده الدولة و السعر الذي يحدده السوق .
– تشجيع القطاعات الصناعية الوطنية عام ، خاص ، مشترك لتوسيع نشاطاتها في مجال الصناعات التي تتوافر مستلزمات إنتاجها الأساسية محلياً بهدف توسيع قاعدة استخدام الموارد الطبيعية المتاحة و إنتاج سلع ذات قيمة مضافة مرتفعة مثلاً صناعات الغزل و النسيج – الصناعات الغذائية .. التأكيد على أهمية المواصفة للسلع المصنعة و اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالوصول إلى إنتاج سلعي مطابق للمواصفات القياسية المعتمدة ، مما سيحسن من القدرة التنافسية للسلع الوطنية في السوق الداخلية منها و الخارجية .
الدكتور محمد توفيق سماق