صحيفة البيان – الإمارات العربية
العدد: 6111 تاريخ 3/1997 / 21 نشركذلك في : صحيفة تشرين –دمشق – سورية العدد: 6748 تاريخ 25/2/1997 |
أعلنت وكالة أنباء الصين الرسمية « شينخوا » في ١٩-٢-١٩٩٧ وفاة الزعيم الصيني دينج شياو بينج عن عمر يقارب ٩٣ عاماً ، غياب الزعيم الصيني الكبير يستدعي عدداً من التساؤلات لعل من أبرزها :
ما هي المحطات الأهم في حياته الطويلة و الغنية ؟
ما أثر غيابه على المعادلة الصينية الصعبة التي صاغها بينج و حافظ على توازنها القلق بنجاح حتى الآن و هي معادلة التوازن بين التعددية الاقتصادية و الأحادية السياسية ؟
ولد بينج عام ١٩٠٤ في قرية غوانفان التابعة لإقليم شيسوان ( جنوب غرب الصين ) و كانت أسرته من ملاكي الأرض الميسورين . في عام ١٩٢٠ سافر إلى باريس لاستكمال دراسته المهنية حيث اطلع على أفكار و ثقافة الغرب و يبدو أن بينج استهواه عمل المصانع أكثر من حياة المدارس فعمل خلال فترة وجوده في فرنسا ( ١٩٢٠-١٩٢٥ ) في أكثر من مصنع ( مصانع إنتاج السلاح مصنع لإنتاج المواد البلاستيكية مصانع رينو لإنتاج السيارات ) .
في عام ١٩٢٤ انتسب إلى الحزب الشيوعي الصيني و في باريس تعرف على تشو إن لاي ( أحد أبرز القادة السابقين للحزب الشيوعي الصيني و رئيس وزراء الصين منذ انتصار الثورة حتى وفاته أوائل عام ١٩٧٦ ) . في أوائل عام ١٩٢٦ أوفده الحزب إلى موسكو حيث التحق بدورة إعداد سياسي و عسكري لمدة ثمانية أشهر و بعد انتهاء الدورة بقي لفترة من الزمن في الاتحاد السوفييتي السابق حيث عمل كمترجم . في عام ١٩٢٧ عاد بينج إلى الصين و شارك في الثورة الصينية التي قادها ماوتسي تونج و شغل موقع المفوض السياسي للجيش الأحمر الثاني حيث شارك في عامي ( ١٩٣٤-١٩٣٥ ) في مسيرة الـ ١٠٠٠ ميل إلى جانب ماوتسي تونج في عام ١٩٤٥ انتخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب . منذ انتصار الثورة الصينية في عام ١٩٤٩ و حتى وفاة بينج في عام ١٩٩٧ يمكن تمييز عصرين في تاريخ الصين الحديث : عصر ماوتسي تونج و عصر دينج شياو بينج .
من أبرز سمات عصر ماوتسي تونج الانغلاق تجاه خصوم العقيدة في الخارج و التشدد معهم في الداخل . أما بالنسبة لرفاق الأمس فمنهم من استمر مع ماو حتى النهاية و منهم من اختلف معه أو اختلف معهم و كان من هؤلاء دينج شياو بينج . فبعد انتصار الثورة تقلد بينج موقع سكرتير الحزب في الإقليم الجنوبي الغربي للصين و في عام ١٩٥٢ تم تعيينه نائباً لرئيس الوزراء في حينه . نشو إن لاي و في عام ١٩٥٣ شغل منصب وزير المالية و في عام ١٩٥٤ انتقل للعمل في اللجنة المركزية للحزب . في الأحداث التي شهدتها الصين عام ١٩٥٦ و التي كان الطلاب الراغبين بالمزيد من الديموقراطية في طليعتها وقف بينج ( كان ترتيبه السادس في هرم القيادة الحزبية الصينية ) مع المتشددين ، أطلق يومها مقولة شهيرة لازمت على ما يبدو تفكيره دائماً و حكمت منطقه السياسي لاحقاً حيث قال : ” لقد ارتكب حزبنا في الماضي أخطاء كبيرة لكننا نحن و ليس غيرنا من ينبغي أن يقوم بتصحيحها ” . و قد تعامل مع أحداث ساحة تيان آن من ( ساحة السلام السماوي ) في عام ١٩٨٩ أي بعد نحو ثلاثة و ثلاثين عاماً بنفس المنطق . في عام ١٩٥٨ دعم بقوة محاولات ماو لتشكيل اللجان الشعبية أو اللجان الثورية بهدف المساعدة في تحقيق آمال ماو في أن تنجز الصين ما سمي آنئذ « بالقفزة الكبرى إلى الأمام » و في عام ١٩٦٣ كان بينج على رأس الوفد الذي زار موسكو و الذي دشن القطيعة بين بكين و موسكو لسنوات عديدة لاحقة حيث اتهم بينج القادة السوفييت بأنهم لا يريدون صيناً قوية فهم لا يرغبون في امتلاك الصين أسلحة نووية و يومها قال عنه ماوتسي تونج مداعباً « يعتقد نفسه نابوليون » . مع بداية الثورة الثقافية التي أطلقها ماوتسي تونج ( ١٩٦٦ – ١٩٦٩ ) و قادها بشكل عملي وزير الدفاع الصيني الأسبق المارشال لين بياو اعتقل بينج من قبل رجال لين بياو كما قتل ابنه بوفانك بعد سقوطه من نافذة مسكن العائلة في أحد الطوابق العليا عند محاولته الهرب . بعد اعتقال بينج أعفى من جميع مناصبه في الحزب و الدولة ( منها عضو مكتب سياسي – نائب رئيس وزراء – نائب رئيس مجلس الدفاع الوطني .. ) و على غرار التقليد الذي ساد في الصين فترة الثورة الثقافية بالنسبة لمن اتهموا بأنهم لم يكونوا أوفياء لتعاليم الزعيم ماو و أنهم تحولوا – أو كادوا – في سلوكهم من النمط الثوري إلى النمط البورجوازي الصغير تقدم بينج بنقد ذاتي اعترف فيه بالتهمة الموجهة إليه قائلاً : « لقد حولتني أخطائي إلى بورجوازي صغير .. » وبعد ذلك أرسل بينج للعمل كصانع أقفال في أحد معامل المقاطعات . بعد فشل الثورة الثقافية و انتحار لين بياو ( إثر اتهامه بالقيام بمحاولة انقلابية فاشلة ) استدعي بينج في عام ١٩٧٣ إلى بكين و أعيد تعيينه عضواً في المكتب السياسي و نائباً لرئيس الوزراء تشو إن لاي . بعد وفاة تشو إن لاي ( أوائل عام ١٩٧٦ ) و في الفترة الأخيرة من حياة ماو اشتد الصراع على السلطة في قمة هرم القيادة الصينية و كان بينج مجدداً من ضحايا هذا الصراع حيث انتقل إلى إقليم كانتون و من هناك و بعد وفاة ماوتسي تونج ( سبتمبر ١٩٧٦ ) بدأ العمل ضد ما سمي بمجموعة الأربعة أو عصابة الأربعة بزعامة أرملة ماوتسي تونج . بعد الإطاحة بأرملة ماو و رفاقها تم استدعاء بينج مرة أخرى إلى العاصمة في يوليو من عام ١٩٧٧ و أعيدت إليه جميع مناصبه السابقة في الحزب و الدولة ، بعد إزاحة هواكو فينج ( أمين عام الحزب خلال الفترة ١٩٧٧ – ١٩٨١ ) تولى بينج زعامة الحزب عام ١٩٨١ و في المؤتمر الثاني عشر للحزب عام ١٩٨٢ عين رئيساً للجنة الاستشارية ( لجنة تضم بعض قدماء القياديين في الحزب ) ثم رئيساً « للجنة العسكرية » و هي من أهم المواقع في القيادة الصينية حيث يتيح هذا الموقع لشاغله الإشراف على القوات المسلحة و بقي في هذا الموقع حتى ( ٣-٤-١٩٩٠ ) عندما حل مكانه الأمين العام الحالي جيان زيمين بسبب كبر سنه و مرضه و كان آخر ظهور علني لبينج في فبراير ١٩٩٤ بمناسبة رأس السنة القمرية . بوفاة ماوتسي تونج انتهى عصر الثورة في الصين و بتولي دينج شياو بينج القيادة بدأ عصر الدولة و ما بين العصرين لا يعدو أن يكون مرحلة انتقالية ( ١٩٧٦ – ١٩٨١ ) على الرغم من التحولات الاجتماعية الهائلة التي أحدثها عصر الثورة في بنية المجتمع الصيني و الآثار السياسية العالمية الهامة إلا أن الفارق كان كبيراً بين النتائج المحققة في نهاية هذا العصر و الآمال التي كانت متوقعة في بدايته . فالاقتصاد الصيني أضحى نهاية عصر ماو ماكينة هائلة الحجم بطيئة الحركة محدودة الكفاءة ، فمتوسط دخل الفرد في الصين كان في عام ١٩٨١ في حدود ٢٦٦ دولاراً أمريكياً بينما بلغ في اليابان ٨٩٩٣ دولاراً و في الولايات المتحدة الأمريكية ١١٢٧٨ دولاراً في العام نفسه . و على الصعيد السياسي كان لعصر الثورة في الصين تكاليف لا يستهان بها من الضحايا و التضحيات و كان ممن ساهموا في صناعة هذا العصر و عانوا من تضحياته دينج شياو بينج الذي فقد ابنه و كاد أن يتحول نفسه إلى ضحية . أدرك بينج في وقت مبكر ضرورة العمل و بالسرعة الممكنة لمعالجة مشاكل الماضي و مداواة جراحه فكان يردد مباشرة بعد وفاة ماو « إن لم نفعل الآن شيئاً فإننا سنفقد غداً كل شيء » . مع وصوله إلى موقع القيادة قاد عملية إصلاح كبرى في حياة الصين من أبرز أسسها :
- الانفتاح على العالم الخارجي و كان من نتائج هذا الانفتاح تخفيف حدة التوتر في العلاقات الصينية مع بعض الخصوم التقليديين في الخارج و تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد و يقدر حجمها حالياً بما يزيد على ١٠٠ بليون دولار أمريكي ( نحو ٣٠ بليوناً من الولايات المتحدة الأمريكية و الباقي من دول و مناطق أخرى عديدة كاليابان – هونج كونج – الاتحاد الأوروبي .. ) .
- التشجيع على المبادرة الفردية و الاعتراف بأهمية دور القطاع الخاص في الحياة الاقتصادية للبلاد . فمع مطلع الثمانينيات تحول نحو ٧٥٠ مليون فلاح صيني من عمال زراعيين غير مالكين إلى مستأجرين للأرض التي يعملون فيها بعقود طويلة المدى تصل إلى عشرين عاماً بالإضافة إلى السماح للقطاع الخاص العمل في قطاعات الصناعة و الخدمات مما أدى إلى نمو مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي للصين بمعدلات مرتفعة .
- تحرير ملكية الدولة من الكوابح البيروقراطية و القيود الإدارية و تطبيق مبادىء الإدارة الاقتصادية أي الإدارة بالأهداف .
- مع التحولات الكبرى التي شهدها العالم أواخر الثمانينيات و غلبة مقولات اقتصاد السوق كان لدى بينج ما يكفي من المرونة العملية و الجرأة الأدبية للاعتراف الضمني بهزيمة نمط الاقتصاد المخطط مركزياً و الإعلان عن تبني ما سمي في الصين « اقتصاد السوق الاشتراكي » انسجاماً مع المقولة الشهيرة لبينج « ليس مهماً أن تكون القطة بيضاء أو رمادية المهم أنها تستطيع اصطياد الفئران » و بعبارة أخرى المهم هو نمو الصين و تطور مستوى حياة المواطن الصيني أما كيف فذلك غير مهم .
ربما كانت مقولة اقتصاد السوق الاشتراكي من أبرز المقولات التي أفصحت عن جوهر التطورات التي شهدتها البلاد في الثمانينيات و المتمثل في تحول الصين من عصر الثورة و رسالتها العالمية إلى عصر الدولة و اهتماماتها الوطنية المتعلقة بالأمة الصينية . و قد استطاعت الصين بالفعل إحراز نجاحات هامة على طريق التطور و الازدهار فقد سجل الدخل القومي نمواً مضطرداً بلغ 9.6٪ سنوياً خلال الفترة ( ١٩٨٠ – ١٩٩٣ ) كما سجل في عام ١٩٩٤ نمواً بلغ 11.4 ٪ بينما لم يتجاوز هذا المعدل ٤ ٪ في اليابان و 2.7 ٪ في الولايات المتحدة الأمريكية خلال نفس الفترة . كذلك ازدادت صادرات الصين من نحو ٢٢ بليون دولار أمريكي في عام ١٩٨٢ ( المرتبة الخامسة عشر في العالم ) إلى نحو ١٢١ بليون دولار في عام 1994 ( المرتبة الحادية عشرة في العالم ) ، و على الرغم من تلك النجاحات و غيرها قد يكون من المفيد في هذا السياق التذكير بأمرين :
- رافق هذه النجاحات ظواهر سلبية عديدة مثل ارتفاع معدلات الجريمة و تعاظم مشاكل المخدرات و الفساد …. و ما شابهها .
- ما زال أمام الصين طريق طويل لتقطعه كي تصل إلى مستوى الدول الصناعية الكبرى في العالم .
فنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي كان بحدود ٥٠٠ دولار أمريكي في عام ١٩٩٣ بينما وصل في اليابان إلى نحو ٣١٥٠٠ دولار في العام نفسه كما أن صادرات هونج كونج ( 1084كم2 ونحو 5.9 مليون نسمة مستعمرة بريطانية ستعود للصين في تموز عام 1997 ) زادت في عام 1994 بنحو 38 بليون دولار أمريكي عن صادرات الصين في العام نفسه ( ١٥٩ بليون دولار لهونج كونج مقابل ١٢١ للصين ) .و بعيداً عن النجاحات السابقة و غيرها مما يمكن إيراده فإن أهم نتائج سياسة دينج الاقتصادية و أبعدها تأثيراً على مستقبل الصين هي نشوء قوى اقتصادية جديدة في البلاد بعض منها على علاقات وثيقة مع مراكز القرار في الغرب . حيث يرى العديد من المهتمين بالشأن الصيني بأنه ليس مستبعداّ أن تطالب هذه القوى الاقتصادية الجديدة مستقبلاً بالتعبير عن نفسها سياسياً بصيغ مختلفة عما هو سائد حالياً في الصين من تفرد الحزب الشيوعي في موقع القيادة السياسية . قد تقدم القوى الجديدة على ذلك مدفوعة بالثقة المتنامية بالنفس و مدفوعة برغبة دوائر القرار في الغرب للتأثير في تطور الصين و توجيهه . هذان العاملان قد يقودان القوى الجديدة للمطالبة بدور في الحياة السياسية يتناسب و دورها في الحياة الاقتصادية للبلاد ، أي أن تعديل حقائق القوة الاقتصادية السائدة بين الطبقات الجديدة و القديمة قد يقود للمطالبة بتعديل مواز لحقائق القوة السياسية السائدة بين الطرفين . و قد ظهرت مقدمات ذلك في أحداث ١٩٨٩ و يومها اتخذ بينج نفس الموقف الذي طالب به و أكد عليه عام ١٩٥٦ أيام أحداث الطلبة في بكين ، أي الاعتراف بوجود الأخطاء و بنفس الوقت الإصرار على أن الحزب الشيوعي الصيني وحده و ليس غيره من سيقوم بتصحيحها . استطاعت القيادة الصينية بالفعل أن تحسم الأمر و تؤكد سيطرتها و تتابع مسيرتها و وصلت حالياً إلى وضع شبهه رئيس تحرير مجلة « الصين المتطورة » الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية على النحو الآتي : « الصين أشبه بسيارة يقودها رجل تضغط رجله على الوقود لإدارة محرك السيارة – أي الاقتصاد – و تضغط رجله الأخرى على الفرامل لإيقاف العجلات – أي الوضع السياسي » . الآن و بعد غياب بينج هل يستطيع خليفته أو خلفاؤه الاستمرار في إدارة المحرك و إيقاف السيارة عن طريق الفرامل ؟ البعض يرى أنها معادلة صعبة و هذا البعض يعتقد أن الصين تحث الخطى سريعاً للوصول إلى مفترق طرق فإما مستوى من التعددية السياسية مواز لمستوى التعددية الاقتصادية السائد أو إصرار على الأحادية السياسية مع التضحية بنهج الإصلاح الاقتصادي و نتائجه من نمو و تعدد و ما شابه ، و هما خياران قد يكون أحلاهما مر . على أية حال يبدو أن التوازن القلق للمعادلة الصينية الصعبة ( تعددية اقتصادية و أحادية سياسية ) قد منح الاستقرار … لكن يبقى السؤال كيف؟ و لمصلحة من ؟ هذا ما يتوقع أن يجيب عنه المستقبل و ربما القريب منه .
الدكتور محمد توفيق سماق