| صحيفة الثورة – دمشق – سورية
العدد : 10010 تاريخ 5/1996/ 29 نشر كذلك في : صحيفة البيان ـــ الامارات العربية العدد :5875- تاريخ 19/7/1996 |
من المقولات الشائعة في الأدبيات السياسية والتنموية العربية المعاصرة ، هو أن الغرب مسؤول عن الأزمة العربية ، شواهد ذلك الفكر على مقولته تلك عديدة ومنها :
لقد عرف العرب الغرب فاتحاً أيام الاسكندر وروما من بعده وغازياً زمن الحروب الصليبية ومستعمراً منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى أوائل الستينات من هذا القرن ، وخصماً في عصر الحرب الباردة ، ومهيمناً منحازاً في عصر ما بعد الحرب الباردة.
لا شك بأن ما سبق من وقائع التاريخ وحقائق الحاضر ، لكن وعلى الرغم من ذلك فإن قراءة متأنية لمظاهر الأزمة تستدعي سؤالاً متمماً آخر ، هو هل يتحمل الغرب وحده المسؤولية عن أزمتنا المستمرة عبر قرون من الزمن والمرشحة للاستمرار – ربما – لأزمنة أخرى قادمة يصعب تقديرها أو التكهن بمداها؟ فمثلاً هل نستطيع اعتبار الغرب وحده مسؤولاً:
- عن أمية حوالي 42% من سكان الوطن العربي ممن هم في سن 15 سنة فما فوق ” عام 1990″ بعد نحو نصف قرن من إنجاز الاستقلال الوطني وما رافقه من خطط طموحة لنشر نور العلم والمعرفة ومحو ظلام الأمية والجهل في معظم الدول العربية ؟
وعن وجود 10 ملايين عاطل عن العمل عام ” 1991″ أي نحو 15% من إجمالي قوة العمل العربية وهي من أعلى النسب في العالم ، في الوقت الذي تقدر فيه فوائض الأموال العربية المستثمرة في دول خارج الوطن العربي بنحو 670 بليون دولار أمريكي عام 1993 توفر مئات آلاف فرص العمل في تلك الدول الأجنبية؟
وعن وجود ما يزيد على ربع سكان الوطن العربي ” 26,5%” في عام 1992 يعيشون في حالة فقر أو بؤس في الوقت الذي تشير فيه بعض التقديرات إلى أن نسبة 5% الأغنى من سكان معظم الدول العربية تحظى بنحو 40% من دخل هذه الدول؟
- وعن استيراد الوطن العربي بنحو 34بليون دولار أمريكي مواد غذائية عام 1994 أي بما يزيد على 142 دولاراً لكل مواطن سنوياً لسد حاجاته من الغذاء في حين تقارب مساحة دولة عربية واحدة غنية بالمياه ” نهر النيل ” كالسودان مثلاً إجمالي مساحة الدول الخمسة عشر أعضاء الاتحاد الأوروبي أحد موردي الغذاء الرئيسين للدول العربية؟
وإذا كان لا بد من تحميل الغرب جزءاً من المسؤولية ألا توحي تلك المؤشرات وغيرها بأن العجز والقصور الذاتي العربيين يتحملان الجزء الآخر الذي لا يستهان به من مسؤولية الأزمة العربية الراهنة؟
أغلب الظن أن تلك الوقائع وغيرها لابد أن تقودنا عاجلاً أم آجلاً لإعادة النظر في قضيتين على درجة عالية من الأهمية هما:
كيف لنا نحن العرب أن نعالج أسباب عجزنا ومكامن قصورنا الذاتي؟
ثم كيف لنا أن نعيد صياغة علاقاتنا مع الغرب وفق حقائق العصر دون أن نكون دائماً محكومين بإرث الماضي وتبعاته؟
دروس التاريخ وتجارب الحاضر تشجع إذا امتلكنا الإرادة على التقدم حثيثاً للتصدي لكلا القضيتين: فالولايات المتحدة الأمريكية نفسها كانت قبل حوالي قرن تصنف بين الدول النامية بمتوسط سنوي لدخل الفرد لا يتجاوز 210 دولارات ، والآن تنفرد على قمة العالم قوة عظمى وحيدة بدون منازع.
ألمانيا واليابان هزمتا في حرب كونية عاتية . ألمانيا قسمت على أثرها وتحولت إلى دولتين قريبتي الشبه بالمستعمرتين ، الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الغرب والاتحاد السوفييتي السابق وحلفائه في الشرق.
اليابان استسلمت بنتيجة الحرب دون قيد أو شرط إلا بقاء الإمبراطور رمزاً معنوياً لوحدة الدولة واستمرارها ومؤشراً على رغبة الأمة في متابعة دورها الحضاري.
كلتا الأمتين نجحتا في معركة مواجهتهما للذات بعد أن فشلتا في المواجهة مع الخصوم . فالأمة الألمانية اعتبرت أن هزيمة النازية لا يعني هزيمة الدور الحضاري لألمانيا بل على العكس من ذلك قد تكون مرارة الهزيمة من ناحية والعبر المستقاة منها من ناحية ثانية حافزاً للنهوض من جديد . لكن بالاتجاه الصحيح والنتائج نعرفها جميعاً ، فألمانيا اليوم ثالث اقتصاد في العالم وألمانيا اليوم قاطرة أوروبا كما يقولون وربما الأهم من هذا وذاك ألمانيا موحدة على الرغم من قلق جيرانها الأوروبيين وعدم سعادة الأمريكيين سادة الأمس المنتصرين.
اليابان كذلك أضحت أحد أهم أركان مثلث القوة والغنى في العالم فقد ازداد حجم ناتجها المحلي الإجمالي من نسبة 5% من الاقتصاد الأمريكي في عام 1950 إلى نحو 59% في عام 1991 واليابان حالياً تعتبر ثاني أكبر اقتصاد في العالم وثاني أكبر مصدر للسلع المصنعة كما أن الرساميل اليابانية قد مولت في عام 1991 نحو ثلث العجز في الموازنة الاتحادية الأمريكية، باختصار تعتبر اليابان اليوم المنافس الاقتصادي الأهم للولايات المتحدة الأمريكية زعيمة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.
وبعيداً عن دول الشمال الصناعي المتقدم نستعرض نموذجاً آخر من دول الجنوب. فالعديد من دول جنوب شرق آسيا كانت لعقود خلت مستعمرة من قبل أوروبا أو اليابان كما كانت بعد الاستقلال دولاً نامية بكل المقاييس منهكة بعجزها الداخلي وحروبها الإقليمية لكن بالإرادة والعمل استطاعت أن تحقق ما اصطلح على تسميته في الأدبيات الاقتصادية بالمعجزة الآسيوية وفق نموذج تنموي يستحق الدراسة كما يستحق التقدير .
فكوريا الجنوبية ” 99000كم2 و43 مليون نسمة ” لم يكن يتجاوز الدخل السنوي للفرد فيها 50 دولاراً أمريكياً في عام 1953 وقد وصل إلى ما يزيد على 6300 دولار في عام 1991 كما أن اقتصادها قد حقق بالأرقام المطلقة قفزة هائلة في العقود الأخيرة حيث وصل حجم ناتجها المحلي الإجمالي في عام 1992 إلى نحو 295 بليون دولار أمريكي كما بلغ حجم صادراتها نحو 77 بليون دولار في نفس العام.
والصين الوطنية ” تايوان 37000كم2 و 21 مليون نسمة ” لم يكن يتجاوز الدخل السنوي للفرد فيها مع نهاية الحرب الصينية عام 1949 أيضاً 50 دولاراً أمريكياً ووصل إلى ما يزيد على 8000 دولار في عام 1991 كما أن اقتصادها قد حقق بالأرقام المطلقة قفزة هائلة في العقود الأخيرة حيث وصل ناتجها المحلي الإجمالي في عام 1992 إلى نحو 186 بليون دولاراً أمريكياً كما بلغ حجم صادراتها نحو 81 بليون دولار في العام نفسه.
وبذلك نجد أن الناتج المحلي الإجمالي لكلتا الدولتين عام 1992 التي تقل مساحتهما الإجمالية عن مساحة دولة عربية واحدة كتونس ويبلغ عدد سكانها نحو عدد سكان مصر قد زاد عن الناتج المحلي الإجمالي لمجموع الدول العربية ” 420 بليون دولار أمريكي في عام 1991 ” بنحو 61 بليون دولار كما أن حجم صادراتهما في عام 1992 يزيد عن مجموع الصادرات العربية السلعية بما في ذلك النفط 119 بليون دولار في عام 1991 بنحو 39 بليون دولار أمريكي.
وعود على بدء يمكن القول بأن التصدي لكلتا القضيتين مواجهة العجز الذاتي العربي وإعادة صياغة العلاقة مع الغرب قد يكون صعباً إلا أنه ليس بالمستحيل ، شرط توفر الإرادة واختيار النهج المناسب . مواجهة العجز والتصدي لمكامن القصور الذاتي ، يقتضي ضرورة أن يتم على قاعدة من الثقة بأنفسنا وبدورنا بعيداً عن الإحساس المبالغ فيه بالذات من ناحية وبعيداً عن الإحساس المدمر بالهزيمة من ناحية أخرى ، فالخشية أن تتم المواجهة مع الذات وإحساس البعض منا بالهزيمة أكبر من الهزيمة نفسها.
كما أن إعادة صياغة العلاقة مع الغرب تقتضي ولو جزئياً التخفيف من قيود الماضي وتبعاته ولعل في أولويات ذلك التحرر من المبالغة بالخوف على بكارتنا الحضارية – تحت عنوان الخصوصية – فالمبالغة في الإلحاح على البكارة قد يؤدي إلى العقم ، وهذا ما لا نريده بالتأكيد.
كما أن إعادة الصياغة ربما تقتضي الإدراك والإقرار بأن مستوى التكافؤ أو العدالة في التعامل بين الغرب الغني والقوي وبين الجنوب الفقير والضعيف يتناسب إلى حد كبير مع موازين القوى السائدة بين الطرفين ، فبمقدار ما يستطيع العرب تعديل موازين القوى لصالحهم بمقدار ما يستطيعون تحقيق مستوى أعلى من التكافؤ والعدل في علاقاتهم بالغرب ، فالرهان في ذلك يكمن في قوة العرب وليس في أخلاقية الغرب.
فالقوة أساس العدل كما عبر عن ذلك الشيخ محمد عبده قبل حوالي قرن من الزمن عندما قال في تعريف العدالة ” العدالة هي تعادل القوى ” .
الدكتور محمد توفيق سماق