صحيفة الثورة – دمشق – سورية
العدد: 13108 تاريخ 9/2006/ 11
|
يبدو أن ساعة مواجهة الحقيقة فيما يتعلق بالقطاع العام قد آن أوانها . فبالرغم من كل ما قيل عن محاولات لإصلاح هذا القطاع على مدى ما يزيد عن عقد من الزمن علينا الإقرار بأننا لم نوفق إلى وقف تردي أدائه ، فالخسائر تتزايد والمخازين تتراكم وكفاءته الاقتصادية تتراجع .
الأسباب لذلك عديدة كتب عنها كثير وقيل فيها أكثر لذلك لن نستفيض في عرضها وتفصيلها ، لكن سنكتفي بالتذكير بعدد من أبرزها :
خلل التوازن في معادلة الصلاحية والمسؤولية الحاكمة لعمل القطاع العام – عدم كفاءة الإدارات حيناً وعدم نزاهتها في أغلب الأحيان- عدم مرونة الأنظمة والتشريعات – عدم استعداد الجهات المعنية بأوضاعه للتخلي عن وصايتها المرضية عليه ….وغير ذلك .
الأهم الآن هو لإقرار بأن لا مصلحة وطنية في استمرار هذا الوضع فما العمل ؟
وما هو القرار المطلوب ؟
بإيجاز ووضوح نجيب أن المطلوب هو الإقرار والإعلان عن استعدادنا للتخلي عن الخاسر من هذا القطاع مع محاولة الحفاظ على الرابح منه .سواءٌ أخذ هذا التخلي شكل البيع جزئياً أو كلياً أو تحويل شركاته إلى شركات مساهمة تطرح أسهمها للاكتتاب العام أو غير ذلك من صيغ التخلي المحصلة واحدة ، جزءٌ من هذا القطاع لن يكون عاماً بل سيتحول إلى ملكية خاصة .
في هذا السياق أجد من الضروري توضيح بعض القضايا ذات الصلة بهذا القطاع وأسلوب التعامل معه ، دفعاً لالتباس محتمل أو سوء فهم غير مقصود :
- عند الحديث عن القطاع العام أرى تقسيمه وفق دوره الاجتماعي ووظيفته الاقتصادية إلى قسمين : قطاع الخدمات العام وقطاع الأعمال العام .
- قطاع الخدمات العام هو القطاع الذي ينتج سلعاً أو خدمات غير قابلة للتجزئة أي ذات نفع عام ويمكن أن يشمل مؤسسات التعليم والصحة …وما شابه . هذا القسم لم يوجد بهدف الربح إنما لتقديم خدمات نوعية للمجتمع ( تعليمية – صحية …) وبالتالي لا يمكن تقييمه وفق مؤشرات الربح والخسارة إنما وفق نجاح مؤسساته بتقديم الخدمات للمواطنين بأفضل مستوى ممكن .
- قطاع الأعمال العام والبعض يسميه القطاع الاقتصادي ، علماً أن الاقتصاد يضم السلع والخدمات ، لكن بصرف النظر عن دقة التسمية فالمقصود المنشآت التي تنتج بهدف الربح ( شركات صناعية –شركات الإنشاءات العامة ….).هنا ينبغي التقييم وفق مؤشرات الأداء الاقتصادي المعهودة : أرباح – عائد استثمار-خسائر ….
الحديث في هذا المقال يدور حول قطاع الأعمال العام ، أما قطاع الخدمات العام فربما كان موضوعاً لحديث آخر .
بالنسبة لقطاع الأعمال العام أرى التعاطي معه وفق الآتي :
أولاً- المنشآت الخاسرة :
1 – طرحها للاستثمار أمام رأس المال الخاص المحلي و الأجنبي و فق الأسس التالية :
أ – السماح بتغيير النشاط من قبل المستثمر .
ب- إعادة تقييم الأصول الثابتة للمنشأة المعنية ( أراضي – مباني – أثاث – آلات و تجهيزات …) .
جـ – عدم التصرف بالملكية .
د – المحافظة على حقوق العاملين .
هـ – تحقيق أعلى عائد اقتصادي ممكن
و – تحويل العوائد الناجمة عن الاستثمار إلى صندوق خاص لتطوير الشركات الرابحة و إعادة تأهيلها و المساهمة في توفير التمويل اللازم للمحافظة على حقوق العاملين ويسمى صندوق إعادة هيكلة ( أو إصلاح ) القطاع العام .
2 – في حال عدم توفر مستثمر :
إيقاف المنشأة عن العمل و عرضها على جهات عامة أخرى مع عمالها للاستفادة منها في مجال نشاط تلك الجهات .
3 – في حال عدم توفر الجهة العامة الراغبة يتم إعداد دراسة جدوى اقتصادية لتغيير نشاطها مع المحافظة على حقوق العاملين .
4 – في حال عدم توفر الإمكانية للأخذ بأي من الخيارات الثلاثة السابقة يتم بيع المنشأة كعقارات و أراضي و آلات و تجهيزات و فق الأسس التالية :
أ – تسبق عملية العرض للبيع إعادة تقييم الأصول الثابتة للمنشأة المعنية .
ب – المحافظة على حقوق العاملين .
جـ – تحويل العوائد الناجمة عن البيع إلى صندوق إعادة الهيكلة .
ثانياً – المنشآت الـرابحة
- المحافظة على ملكية الدولة
- معالجة المشاكل التي تعاني منها (إدارية – قانونية – فنية ….)
- توفير الموارد الحكومية اللازمة لتطويرها أو إعادة تأهيلها .
ثالثاً – المنشآت الحدية
وهي المنشآت الرابحة أحياناً و الخاسرة أحياناً أخرى ، أي أن عائد نشاطها الاقتصادي يدور حول نقطة التعادل . هنا يتم دراسة وضع كل منشأة على حدة من حيث إمكانية تحويلها إلى منشأة رابحة عندئذ تعامل كبقية المنشآت الرابحة ، وبخلاف ذلك تعامل المنشأة كمنشأة خاسرة وفق ما تم إيضاحه سابقاً .
إذا اعتمد النهج السابق هنالك جملة من السياسات والإجراءات الضرورية لوضعه موضع التطبيق ، أبرزها :
– إصدار تشريع يسمح بالتصرف بالأصول الثابتة للقطاع العام بيعاً أواستثماراً ، فحتى الآن لايوجد – وفق ما أعلم – أي نص تشريعي يسمح بالتصرف بملكية الأصول الثابتة للقطاع العام . هذا ما أجده منسجماً مع منطق الأشياء ، فعندما نشأ القطاع العام في سورية ومن ثم تم توسيعه لم يكن هنالك أغلب الظن من يفكر بالتخلي عن ملكيته جزئياً أو كلياً . تأسيساً على ما سبق أجد أن ما يدور أحياناً من أحاديث عن القيام بذلك عن طريق إجراءات حكومية يفتقر للسند القانوني . فلسفة القطاع العام تقوم بالأصل على اعتبار المجتمع هو المالك والدولة مؤتمنة على هذه الملكية وهي مخولة بالإشراف والإدارة فقط ، انسجاماً مع القاعدة القانونية القائلة بأن من لا يملك لايحق له أن يتصرف . النص التشريعي كما هو معروف تعبير عن إرادة المجتمع وفي حالتنا هذه تعبير عن إرادة المالك ، وهو الوحيد الذي يحق له التصرف في ملكيته .
– إحداث صندوق لإعادة هيكلة (أو إصلاح ) القطاع العام يمول من عوائد استثمار أو بيع الأصول الثابتة للمنشآت الخاسرة في هذا القطاع ، وبشكل جزئي من الخزينة العامة للدولة إذا اقتضت الضرورة .
– إصدار تشريع ينظم عمل مؤسسات و شركات القطاع العام بديلاً لقانون المؤسسات والشركات والمنشآت العامة رقم/2/ لعام 2005 و فق الأسس و المبادئ التي تضمنها قرار القيادة القطرية رقم 82 لعام 2000وهي :
مبدأ الإدارة الاقتصادية– مبدأ فصل الملكية عن الإدارة– مبدأ الاستقلال المالي و الإداري للشركات و المؤسسات – إخضاع القطاع العام لأحكام قانون التجارة من حيث تحديد سياسات التسعير و الاستخدام و الأجور – الأخذ بآليات السوق فيما يتعلق بالمنافسة و الربح و الجودة و السعر – الاستعانة بشركات إدارة داخلية و خارجية– تحديد العلاقة مع وزارة المالية من خلال دفع الضريبة و حصة الدولة من الأرباح .
– تعديل القانون الأساسي للعاملين في الدولة رقم 50 لعام 2004 بما يتيح نقل العامل بين الجهات التابعة للدولة ضمن المحافظة الواحدة ، فالضرورة قد تقتضي نقل بعض العمال من جهة إلى أخرى ضمن الجهات التابعة للدولة وحتى لا يكون هنالك تعسفاً في التعامل مع هذه الضرورة أو تحميل العامل وأسرته أعباءً كبيرة لا يطيقونها نتيجة تلك التحولات أرى أن يحصر استخدام هذا الحق ضمن المحافظة الواحدة .
– اعتماد جملة من الحوافز المادية لتشجيع عمال القطاع العام على التقاعد المبكر يمول من صندوق إعادة الهيكلة ، تخفيفاً من فائض العمالة في القطاع العام من ناحية مع مساعدة العمال الذين يغادرون هذا القطاع على خلق فرصة عمل مناسبة لإمكانياتهم ومؤهلاتهم من ناحية أخرى .
– تشكيل مجلس أعلى لإعادة هيكلة القطاع العام برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية والوزراء المعنيون ورئيس الاتحاد العام لنقابات العمال ورئيس الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش ورئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية .مهمة المجلس الإشراف على عملية إعادة الهيكلة (أو الإصلاح ) وتوجيهها بما يساعد على إنجازها بأنسب صيغة وأسرع زمن وأقل الكلف والتكاليف .
أختم بالقول إن القرار المطلوب هو قرار صعب بلا جدل – على الأقل – للبعض منا وأنا واحد منهم .
صعب لأن فيه اعتراف تاريخي بقصورنا عن النجاح وفيه أيضاً مغامرة (أو مقامرة ) بالعودة إلى تجربة قديمة جديدة نراهن فيها على القطاع الخاص لتحمل أعباء التنمية وهي تجربة محفوفة بالخطر والمخاطر بحكم خبرة الماضي .
وللإنصاف أضيف نحن جميعاً شركاء في وزر ما وصل إليه القطاع العام …نحن المتحدثون ليل نهار عن الحرص على هذا القطاع …نحن الذين أعلنا أنفسنا حراساً على ملكية المجتمع فحولنا هذه الملكية بأخطائنا وخطايانا إلى عبء….أخطاء وخطايا صادرت حق المجتمع في الانتفاع من عوائد ملكيته وأممت ثروة الوطن لإثراء البعض من المواطنين .
الدكتور محمد توفيق سماق