صحيفة البيان – الإمارات العربية
العدد :4924 – تاريخ: 11/12/1993 نشر كذلك في : صحيفة البعث – دمشق – سورية العدد :9359 – تاريخ: 10/2/1994 هذا المقال بمناسبة تصاعد الحديث عن نزعة الحماية ( من الناحية الاقتصادية) لدى دول المجموعة الأوروبية ، خاصة بعد تحول المجموعة الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي اعتباراً من 1/11/1993 . |
للوطن العربي وأوروبا علاقات قديمة ومتشعبة بتأثير عدد من العوامل التاريخية والجغرافية ، وقد شهد\ت هذه العلاقات مراحل متباينة من المد والانحسار وأحياناً تعارضاً في الإرادات لدرجة الصدام والتناحر .
مع ذلك ظلت الاستمرارية كما ظل التطور من السمات المميزة لها . وبطبيعة الحال فإن علاقات من هذا النوع تتأثر بالتحولات الهامة التي تحدث لدى أي من الطرفين ، وفي هذه الدراسة سنتناول بإيجاز أثر الاتحاد الأوروبي على العلاقات الاقتصادية بين المنطقة العربية وأوروبا في مجالات ثلاث هي: التجارة – حركة رؤوس الأموال والعمالة العربية المهاجرة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي وذلك من زاويتي الوضع الراهن واحتمالات المستقبل :
- الوضع الراهن : تعتبر دول الاتحاد الأوروبي الشريك الأهم للدول العربية في مجال التجارة الخارجية . ففي عام 1990 بلغ إجمالي صادرات الدول العربية إلى دول الاتحاد 42599,6 مليون دولار امريكي أو ما يعادل 30,6 % من حجم الصادرات العربية إلى مجموع دول العالم كما بلغ حجم الواردات العربية من دول الاتحاد في نفس العام ما مجموعه ــ ,47282 مليون دولار أمريكي أو ما يعادل 43,5% من حجم الواردات العربية من مجموع دول العالم. وبالنسبة للتركيب السلعي للصادرات العربية إلى العالم الخارجي يأتي طبعا في المقدمة النفط الذي يشكل حوالي 77% من الصادرات ثم المواد الغذائية والمشروبات وبعض المواد الكيميائية. أما بالنسبة للواردات العربية فإن القسم الأكبر منها يتكون من الالآت والمعدات المصنعة وتشكل حوالي 58% تليها المواد الغذائية والمشروبات وتساهم بما يزيد على 15% من إجمالي الواردات ( جميع المؤشرات السابقة خاصة بعام 1990 ومأخوذة من بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد 1991 ، ص 295 – 296 ). البيانات السابقة تشير إلى درجة كبيرة من الاعتماد العربي على دول الاتحاد الأوروبي في تأمين مستلزمات المنطقة العربية من المنتجات التكنولوجية وكذلك السلع والمواد الغذائية.
أما على صعيد حركة رؤوس الأموال والاستثمارات المتقابلة ، فعلى الرغم من عدم توفر بيانات دقيقة عن حجم الاستثمارات الأوروبية في المنطقة العربية إلا أن التقديرات تشير إلى أنها متواضعة ومحدودة قياساً باستثمارات دول الاتحاد خارج القارة الأوروبية . وعلى الرغم من عدم وجود بيانات دقيقة أيضاً عن حجم الاستثمارات العربية في دول الاتحاد إلا أننا نستطيع تأكيد أهميتها وضخامتها من خلال التقديرات المتعلقة بحجم الفوائض المالية العربية الموظفة في الخارج ولا شك بأن لأوروبا نصيبا كبيرا منها . ففي التقرير الختامي للمؤتمر الخامس لرجال الأعمال والمستثمرين العرب ( دمشق 17 – 20 / 5 / 1993 ) وردت الفقرة التالية في سياق الحديث عن الاستثمار في البلاد العربية : ” ومن خلال استعراض تجارب ومناخ الاستثمار في الدول العربية تبين للمؤتمر أن عدد المشروعات العربية المشتركة بلغ ( 4185) مشروعاً حتى نهاية 1992 ، وبلغت جملة رؤوس أموالها الإسمية نحو 26 مليار دولار المدفوع منها نحو 22 مليون دولار من بينها مساهمات عربية وافدة بلغت 11,9 مليار دولار يقابل هذا رؤوس أموال عربية موظفة خارج الوطن العربية تقدر بنحو 670 مليار دولار ، أي أن كل دولاراً عربياً وظف في الوطن العربي يقابل نحو 56 دولار عربي وظف في الخارج رغم العديد من المخاطر التي تتعرض لها تلك الأموال في الخارج . أي أن القسم الأعظم من الفوائض المالية العربية مستثمر في الخارج وبأشكال متنوعة في مجالات مختلفة كالسندات ، الأسهم ، العقارات وصناديق الإقراض للدول النامية .. وغير ذلك .أما فيما يتعلق بموضوع العمالة ، إن العمالة الأوروبية في الوطن العربي محدودة ومقتصرة على الخبراء والفنيين في بعض المشاريع التي تنفذ بالتعاون مع الدول الأوروبية . وبالنسبة للعمالة العربية المهاجرة في أوروبا فتشير بعض التقديرات إلى أن حجمها بلغ أوائل التسعينات 3 ملايين عامل عربي ( أي نحو 4,5 % من إجمالي قوة العمل العربية ) في بلدان المجموعة الأوروبية . ومع تباطؤ النمو الاقتصادي في أوروبا وارتفاع معدلات البطالة ونمو التيارات العنصرية المعادية للأجانب تعرضت العمالة العربية في أوروبا لأشكال مختلفة من المضايقات وصلت إلى درجة الاعتداء المباشر أحياناً. بالإضافة إلى ذلك فإن معظم دول أوروبا الغربية ( مثل ألمانيا – فرنسا .. ) قامت في العامين الآخرين بتعديل قوانين الهجرة إليها على أساس فرض المزيد من القيود ووضع شروط صعبة ومعقدة للحد من عدد المهاجرين إليها خاصة مهاجري الدول النامية الذين تسميهم بعض وسائل الإعلام الغربية بعاصفة الفقراء القادمة من الجنوب .
- احتمالات المستقبل : على صعيد التجارة : هناك احتمالان إما أن تزداد أوروبا انغلاقا وتتحول إلى قلعة حصينة للحماية الجمركية والضريبية وغيرها ، أو أن تأخذ اتجاها اكثر انفتاحا بتأثير الضغط العالمي خاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعو إلى حرية التجارة . لاشك بأن النتيجة التي ستصل إليها مباحاث الغات في إطار جولة الأوروغواي ستلعب دورا حاسما في غلبة أي من الاتجاهين الحمائية بانغلاقها أو العالمية بانفتاحها.
إذا ما قدرت الغلبة لتيار الحمائية فإن أوروبا ستزيد من الحواجز وخاصة الجمركية أمام انتقال السلع من خارج دول الاتحاد إلى أسواقه . وبالنسبة للعرب يمكننا توقع أن تمارس دول فائض الإنتاج الزراعي في الاتحاد الأوروبي وخاصة إسبانيا ، البرتغال ، اليونان ضغوطاً لرفع التعرفات الجمركية على الواردات الزراعية والاستثمار في سياسة دعم المنتجات الزراعية التي تمارسها دول الاتحاد ( حيث قدر حجم هذا الدعم بحوالي 320 مليار دولار عام 1991 ). وفي هذه الحال لابد من أن تتأثر صادرات الدول العربية الزراعية ( وهي تشكل القسم الأهم من الصادرات إذا استثنينا النفط كما أشرنا سابقاً ) حيث يمكننا توقع انخفاض في حجم هذه الصادرات إلى دول الاتحاد الأوروبي . إما اذا قدر لمفاوضات الغات النجاح فإن ذلك يمكن اعتباره مؤشراً ايجابياً على احتمال خلق نظام تجارة دولية جديد أقل قيوداً واكثر انفتاحاً وفي وضع كهذا لن تستطيع أوروبا ممارسة سياسة الحماية بلا حدود إذ أن مستوى الحماية الذي يمكن أن تنتهجه سيكون مضبوطاً مقيداً باتفاقيات دولية متعددة الأطراف ليس من السهل تجاهلها أو خرقها . إن احتمالاً كهذا سيخفف من الآثار السلبية للسوق الأوروبية الواحدة على الصادرات العربية وخاصة الراعية إلى دول الاتحاد الأوروبي. عندئذ سيربط تطور حجم هذه الصادرات إلى حد كبير بالقدرة التنافسية للسلع والمنتجات الزراعية العربية في السوق العالمية . بالنسبة لحركة رؤوس الأموال والاستثمارات : من المتوقع أن تتجه حركتها من دول الاتحاد الأكثر ثراء إلى الدول الأقل ثراء . وضمن معطيات الوضع الراهن في الأسواق المالية الأوروبية فإن اتساع سوق الاستثمار وتلاشي الحواجز قد يخلق فرصاً استثمارية جديدة لرؤوس الأموال العربية الموظفة في دول الاتحاد مما يشكل حافزاً إضافياً لرؤوس الأموال العربية للانتقال إلى السوق المالية الجديدة . مع ذلك فإن المخاطر الاقتصادية والسياسية ( احتمالات التجميد ، تقلب أسعار الصرف ، حدة المنافسة .. ) بالنسبة للاستثمارات العربية في سوق كهذه تبقى قائمة . إن تلك المخاطر واتساع نطاقها وخاصة في السنوات الأخيرة قد تدفع بأصحاب الفوائض المالية العربية للتفكير بشكل جدي في جدوى الاستثمار خارج المنطقة العربية وربما يشجعهم ذلك على زيادة استثماراتهم في الدول العربية خاصة إذا تم توفير المناخ الاستثماري الآمن والملائم في هذه الدول.
وفيما يخص العمالة العربية المهاجرة وخاصة من دول المغرب العربي باعتبارها تشكل القسم الأكبر منها ، فإن حرية انتقال اليد العاملة بين دول الاتحاد ستؤدي إلى تراجع في حاجة هذه الدول إلى العمالة المهاجرة من الخارج بالإضافة إلى ذلك فأن حالة الانكماش الاقتصادي مع التوترات والصراعات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها أوروبا الشرقية كلها عوامل تؤدي لزيادة أفواج المهاجرين من أوروبا الشرقية باتجاه الغرب الأوروبي وهذه بدورها تعتبر مصدراً هاماً لتوفير يد عاملة رخيصة وماهرة نسبياً لسوق العمل في الاتحاد الأوروبي إن وجد طلب على العمالة الأجنبية لديها. كما أن عامل التقارب الثقافي ولحد ما الحضاري بين الشرق والغرب الأوروبي يشكل حافزاً إضافياً لاستخدام قوى عاملة من دول أوروبا الشرقية بدلاً من قوى العمل العربية المهاجرة أو حتى الاتجاه نحو الاستغناء عن بعضها كلما كان ذلك ممكناً. إن احتمالات كهذه تبنى على أساس استمرار الصيغة الراهنة بسمتها القطرية ( أي كل دولة على حده ) للتعامل العربي مع أوروبا الغربية . ولا شك بأن زيادة مستوى التنسيق بين الدول العربية والسير بخطوات أسرع من السابق على طريق التقارب والتكامل ، ولو جزئي ، سيحسن وإلى حد كبير من الموقع التفاوضي للدول العربية في تعاملها مع الاتحاد الأوروبي كما أن ذلك في حال تحقيقه سيمكن العرب من الحوار مع غرب أوروبا بثقة أكبر في النفس وبلغة جديدة ومقنعة ، أي بلغة المصالح التي تنطلق من التعامل على أساس المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة لكلا الطرفين . فبعض ما نملكه ( العرب ) لا غنى لأوروبا عنه وكثيراً مما لدى أوروبا يمكننا أن نجده خارج أوروبا ( الولايات المتحدة الأمريكية ، اليابان ، الصين ..). وعلى الرغم من أن الحديث عن هذا الموضوع قد أصبح نوعا من التكرار لكثرة ما قيل فيه إلا أن ذلك لا يغير من حقائق التاريخ والجغرافيا في منطقتنا وهذه بدورها تؤكد على أن التعاون العربي الواسع والفعال لا زال ممكناً ولا زال ضرورياً ولنا في أوروبا التي نحن بصدد الحديث عنها خير مثال على ذلك.
الدكتور محمد توفيق سماق