صحيفة الثورة – دمشق – سورية
العدد: 13584 تاريخ 4/2008/ 9
|
انتهت القمة وكان هنالك شبه إجماع للمراقبين والمهتمين على نجاحها بالرغم من المحاولات العديدة من قبل جهات دولية وإقليمية نافذة للتقليل من هذا النجاح أو تحويله الى فشل إن أمكن .
مع اختتام القمة وهدوء الخطاب الإعلامي الذي صاحب انعقادها أجد من الضروري التوقف عند بعض القضايا المتعلقة بها من خلال عرض جملة من الانطباعات التي تكونت لديّ كمشارك في وفد الجمهورية العربية السورية للاجتماعات التحضيرية للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لجامعة الدول العربية لإعداد الملف الاقتصادي والاجتماعي الذي عرض على قمة دمشق . يبرر تلك الضرورة سببين جوهريين أولهما التوثيق وثانيهما التوضيح ، فالأحداث الكبرى تحرض دائماً الباحثين للعودة إليها وتحليلها لاستخلاص العبر والنتائج منها . هذا ما قام به البعض من المهتمين في الأيام التي سبقت القمة عندما عرضوا في وسائل الإعلام تاريخ القمم العربية وبعضاً من وثائقها منذ قمة أنشاص التي عقدت في مصر عام 1946 الى قمة الرياض في السعودية عام 2007 . أما التوضيح فهو حق للمواطن العربي الذي تابع باهتمام مجريات القمة وما توصلت إليه دافعه لذلك الاطمئنان الى أن النتائج كانت متناسبة مع الآمال والتوقعات . عود على بدء أعرض جملة من الانطباعات ذات الصلة بقمة دمشق : من الناحية التنظيمية كانت القمة نموذجاً رائعاً لما يستطيع العاملون في مؤسساتنا الرسمية ( خاصة مراسم رئاسة الجمهورية وأجهزتها الأخرى) القيام به من حسن التنظيم لقاعات المؤتمر ولياقة التعامل مع المشاركين ضيوفاً وسوريين وقد كان لذلك أثراً طيباً في نفوس الجميع ، وهذا ما عبر لي عنه شخصياً العديد من رؤساء وأعضاء الوفود المشاركة . كما كان لإعلاميي سوريا حضورهم اللطيف والمميز في قاعات المؤتمر وكواليسه فمن صحفي حاملاً جهاز تسجيله الى صحفية تتنقل بميكروفون وبجانبها مصور الكاميرا لا يملون من الحركة من الصباح حتى المساء ، الجميع يتحرك بحيوية ونشاط وكأنه يريد أن يلتقي كل المشاركين ليس فقط مستوضحاً وسائلاً عما يجري في الجلسات المغلقة بل مسلماً على ضيوف سورية ومرحباً بهم في دمشق القلب النابض بالعروبة منذ القدم مع الأمل أن يظل كذلك الى الأبد .
أما بالنسبة لحوارات وفود الدول العربية في المؤتمر فقد كانت صريحة ورصينة . فعلى سبيل المثال استغرقت مناقشة موضوع إنشاء نظام أقمار اصطناعية عربي لمراقبة كوكب الأرض بيئياً ومناخياً _ وفق قرار قمة الجزائر _ نحو ساعتين حيث اختلفت في الموضوع وجهات النظر وتباينت الآراء ، لكن ذلك كله كان في مناخ من المودة والحرص وتم التعبير عنه بلغة حضارية وموضوعية بعيدة عن الحدة أو التعصب الأعمى لرأي أو موقف . فالجميع كان يبحث عن الأفضل وفي النهاية تم التوصل الى قرار متوازن رفع الى القمة لإقرار ما تراه مناسباً بشأنه ، ملخصه اعتماد الدراسة الأولية للمشروع بكلفة تقديرية تبلغ نحو 120 مليون دولار أمريكي على أن تقوم لاحقاً بعض الجهات الفنية المختصة بالتوسع في تلك الدراسة آخذة بالاعتبار الملاحظات التي تقدمت بها الدول العربية الأعضاء في الجامعة .
أما مواضيع الملف الاقتصادي والاجتماعي الأخرى الذي رفع الى القمة فقد كانت عديدة وغنية وتعود بفائدة كبيرة على المواطن العربي بعد الانتهاء من تطبيقها ، ويمكن تقسيمها الى قسمين :
أ _ متابعة تنفيذ قرارات القمم السابقة
ب_ بعض القضايا والمواضيع الجديدة
ففي مجال متابعة التنفيذ توقف المجلس عند عدد من القضايا منها :
_ العوائق التي لا زالت تعرقل التطبيق الكامل لاتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى: كبعض القيود غير الجمركية على حركة انسياب السلع بين الدول العربية الأعضاء في المنطقة _ بعض الرسوم ذات الأثر المماثل للرسوم الجمركية _ قواعد المنشأ التفصيلية للسلع العربية .
_ الإسراع في تحرير تجارة الخدمات حيث جرى في العاصمة اللبنانية بيروت عدد من الاجتماعات العربية لهذه الغاية هذا الأمر حيوي لتنشيط التبادل التجاري بين الدول العربية ، إذ أن منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى تشمل حتى الآن التجارة بالسلع فقط مما يستدعي توسيعها لتشمل التجارة بالخدمات أيضاً أسوة بمنظمة التجارة العالمية ذلك سينعكس بلا شك على تخفيض كلف الخدمات وينشط عدد من القطاعات الاقتصادية في الدول العربية كالسياحة والنقل والمصارف …وغيرها . مما سيكون له أثر إيجابي على المواطنين العرب والاقتصاديات العربية عامة ، ويزيد من فرص التواصل بين العرب ويطور شبكة المصالح القائمة فيما بينهم ويعزز من موقعهم التفاوضي مع العالم الخارجي.
_ المباشرة في اتخاذ الخطوات العملية لإقامة اتحاد جمركي بين الدول العربية ، تمهيداً لإقامة السوق العربية المشتركة حتى عام 2020 حسب التقديرات الحالية .
وبالنسبة للمواضيع الجديدة التي تضمنها الملف فقد كانت عديدة وهامة ، منها : استراتيجية تطوير السياحة العربية _ الاستراتيجية العربية لتكنولوجيا الاتصالات وبناء مجتمع المعلومات _ خطة لتطوير التعليم والبحث العلمي في الوطن العربي …..
بقي انطباع أخير يتعلق بالمشاركة وهذا ما ركزت عليه وسائل الإعلام في الأيام القليلة التي سبقت القمة ، حتى أن بعضاً منها تناوله بطريقة أوحت وكأن القمة هي فقط عدد الدول المشاركة ومستوى تمثيلها . هذه الطريقة في المقاربة الإعلامية _سواء أكانت بقصد أو بغير قصد _ فيها اعتداء على أهمية القمة . فقمة دمشق كما هو واضح من العرض السابق بتحضيراتها ومناخها وموضوعاتها هي أكثر أهمية من أن تختزل الى أعداد الدول وأعداد قادتها الذين شاركوا أو تغيبوا ؟ هذا ما أوضحته الى الإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية( BBC )في حوار طويل استمر نحو ساعة خلال الاجتماعات التحضيرية للقمة شارك فيه عدد من الضيوف ( عرباً وأجانب ) ومن بينهم مندوب لوزارة الخارجية الأمريكية .
لكن وبمنطق الـ (BBC )نقول أن جميع الدول العربية باستثناء واحدة قد شاركت في القمة ، وإن عدد القادة الذين تواجدوا (11) هو ضمن الوسطي المعتاد في القمم العربية ، حيث شارك في قمة الرياض (14) وقمة الجزائر (9) وقمة تونس أقل من ذلك . هذا من حيث العدد لكن الأهم من العدد أن نتذكر أنه بغياب بعض قادة الدول غاب عن المؤتمر الحضور الأمريكي الذي مثله هؤلاء القادة تقليدياً .
ذلك يقودنا للاستنتاج بأن قمة دمشق كانت قمة عربية بالاسم والفعل وربما كانت القمة الأولى التي غابت عنها الرعاية الأمريكية . هذا ما أجده في ظروف العمل العربي المشترك نجاحاً بحد ذاته وقد يكون النجاح الأهم لقمة دمشق .هل يتحول نجاح قمة دمشق هذا الى تقليد في القمم العربية القادمة ؟
ربما ……..نقول ربما تيمناً بالقول المأثور ” تفاءلوا بالخير تجدوه ” ؟
الدكتور محمد توفيق سماق