صحيفة تشرين– دمشق – سورية
العدد :7451 تاريخ 7/1999/ 10 |
تنامت في الآونة الأخيرة ظاهرة تراجع مستوى الشعور بالمسؤولية ، وهذه الظاهرة شأنها شأن أي ظاهرة أخرى محكومة بأسبابها وهي عديدة ، لعل من أبرزها:
- الردع الانتقائي أو العشوائي الذي تمارسه أجهزة الرقابة والتفتيش بمختلف أسمائها ومسمياتها.
- المستوى المتدني للأجور والرواتب.
- الرقابة:
مع تقديرنا لأهمية الوظيفة الرقابية كوظيفة حيوية وهامة لمختلف الأجهزة والمؤسسات ، فالرقابة هي الوجه الآخر للصلاحية بواسطتها يمكن الوقوف على المشاكل والصعوبات كذلك الأخطاء والانحرافات ، لهذا كانت كفاءة الرقابة أداة هامة لتحقيق كفاءة الأداء . في الواقع الإداري الراهن لدينا تتعدد الجهات التي تقوم بشكل أو بآخر بممارسة العملية الرقابية ، منها ما هو مخول بموجب القانون ومنها ما هو مخول بحكم الواقع وهي جهات عديدة . وإذا كنا لا نجد ضيراً في أن تتضافر الجهود المخلصة للكشف عن الخطأ أو تذليل بعض الصعاب عن طريق ممارسة رقابة غير مباشرة وموضوعية ، إلا أن الخطورة تكمن في أن تمارس كل تلك الجهات العملية التفتيشية ، ويزداد الأمر خطورة عندما يتم ذلك بطريقة انتقائية أحياناً وعشوائية في أغلب الأحيان.
لقد أدى ذلك إلى خلل بين في المعادلة الضرورية لتطوير كفاءة الأداء الاقتصادي في البلاد ،ألا وهي معادلة التوازن بين الصلاحية والمسؤولية .
إن حالة خلل التوازن قد أفرزت العديد من النتائج أهمها:
- الهروب من تحمل المسؤولية ( بدافع من غريزة البقاء) بحيث أصبح تجيير المسؤولية هو القاعدة والتصدي لها هو الاستثناء.
- عجز الموقع الإداري عن اتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب ، بحيث تأتي القرارات إما متأخرة أو لا تأتي على الإطلاق.
- البحث عن الحماية في النصوص والتعليمات الإدارية من جهة ولدى الجهات المعنية بالمسائلة من جهة أخرى ، مما عقد الإجراءات الإدارية وأسهم بشكل كبير بانتشار وتعميم الروتين وتسليط الأسلوب البيروقراطي على العمل ودفع بالكثير من شاغلي المواقع الإدارية لممارسة الولاءات الشخصية ، وبطبيعة الحال كل ذلك على حساب العمل والإنتاج .
تلك النتائج كانت من أهم مدخلات آلة الكبح السائدة حالياً في الكثير من جوانب العملية الاقتصادية وغيرها في سورية . إن آلة الكبح هذه تنتج وتراكم الأزمات والمشاكل في اقتصادنا الوطني منذ زمن . أغلب الظن أن معالجة ظاهرة تراجع الشعور بالمسؤولية يقتضي ضرورة إجراء مراجعة سريعة وعميقة لنمط الرقابة السائد حالياً لدينا ، وفق عدد من الأسس منها :
- التحديد الدقيق والواضح للجهات المخولة قانوناً بممارسة العملية التفتيشية على أن يكون عددها قليلاً قدر الإمكان ، أما الجهات الأخرى فيمكنها أن تمارس الرقابة غير المباشرة دون أن يكون لها الحق بالقيام بأي نشاط تفتيشي.
- تعديل قانون محاكم الأمن الاقتصادي ، بحيث لا يحاكم المتهم موقوفاً انسجاماً مع المبدأ الذي أكد عليه دستور البلاد ” المتهم بريء حتى يدان “.
- تعديل قانون الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش بما يتيح في حال العقوبات الشديدة ( حجز أموال ، إحالة إلى القضاء ، أو كليهما ) للمحال إلى الهيئة حق الاعتراض أمام لجنة تتمثل فيها :
- الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش على ألا يكون المفتش الذي أجرى التحقيق عضواً فيها.
- ممثل عن الإدارة المعنية .
- ممثل عن الاتحاد العام لنقابات العمال أو عن المتهم نفسه ، ويترك الخيار في ذلك للشخص المحال .
- تؤخذ قرارات اللجنة بالأغلبية ، وتكون قطعية.
إن الأخذ بتلك الأسس سيوفر مستوىً مرضياً من الموضوعية لعملية الرقابة ويجنبها الاجتهادات الشخصية التي لا ترتبط بمعايير موضوعية ، مما سينعكس إيجابياً على إحساس العامل بالأمان لدى ممارسته لوظيفته وينمي شعوره بالمسؤولية وقدرته على تحملها.
- الأجور :
تشير البيانات الرسمية إلى أن ما يزيد عن 85% من العاملين في الدولة والقطاع العام يتقاضون أجراً شهرياً لا يتجاوز 5200 ل.س وإذا اعتبرنا أن وسطي الإعالة لدينا بحدود 5 أشخاص ، فهذا يعني أن حصة الفرد الواحد من أسرة المشتغل في الدولة والقطاع العام بحدود 1040 ل.س شهرياً ، أي بحدود 35 ل.س أو 70 سنتاً أمريكياً يومياً. علماً بأن خط الفقر المتعارف عليه دولياً 1 دولار أمريكي للشخص الواحد يومياً ، أي أن من يعيش بدولار واحد أو أقل يعتبر تحت خط الفقر . وهكذا نجد أن المنفعة التي يحصل عليها العامل لقاء عمله وتحمله للمسؤولية لا توازي الأخطار الناجمة عنها ، مما أضعف لديه الرغبة في تحمل المسؤولية وحد من قدرته على القيام بعمله بشكل جاد و مسؤول . تأسيساً على ما سبق يمكن الجزم بضرورة إعادة النظر في سياسة الأجور والرواتب القائمة لدينا على مبدأ توزيع كتلة نقدية محددة على أكبر عدد من العاملين وفق مبدأ يقوم على التحفيز ( حسب المؤهل العلمي ، الكفاءة ، نوع العمل ، …) بدلاً من التوزيع ، مع مراعاة أن يسير هذا التحفيز باتجاهين أفقي وعمودي.
في الختام لا بد من التوضيح بأن أسباباً أخرى عديدة ساهمت في تراجع مستوى الشعور بالمسؤولية. ربما كان هنالك فرصة قادمة للحديث عنها لكن فيما أرى يبقى نمط الرقابة المعتمد حالياً ومستوى الأجور السائد في مقدمة الأسباب.
فهل نعطي لمعالجة هذين السببين صفة الاستعجال ؟
هذا ما نأمله وهذا ما نرجوه قبل أن تتحول الهواجس إلى واقع ، هواجس الخوف من أن يتحول نمط الرقابة المعتمد ومستوى الأجور السائد ، من كابحين للمبادرة والإنتاجية إلى معطلين لهما ؟!
الدكتور محمد توفيق سماق