صحيفة البيان – الإمارات العربية” الملف السياسي “الحلقة (2)
العدد :131 – تاريخ: 19/11/1993 هذا المقال عبارة عن دراسة تتنأول عرض وتقديم لكتاب ريتشارد نيكسون ، الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين ، SEIZE THE MOMENT ترجم هذا الكتاب إلى اللغة لعربية بعنوان: ” أمريكا والفرصة التاريخية “نظراً لأهمية الكتاب والمؤلف قمنا بتقديم وعرض الأفكار والتوجهات الأساسية الواردة في الكتاب ، حيث نشرت على مدار أربع حلقات في صحيفة البيان الإماراتية . هدف الدراسة كان عرض الأفكار والتوجهات الأساسية الواردة في الكتاب وليس تحليلها أو نقدها ” اتفاقا أو اختلافا” ، فربما يتاح ذلك في فرصة أخرى مستقبلاً. |
استعرضنا في الحلقة السابقة بعض الأحداث التي أدت إلى ظهور الحرب الباردة بالإضافة إلى حالة الجمهوريات السوفييتية السابقة إثر انهيار الاتحاد وانتهاء الحرب وكذلك الدور المقترح للولايات المتحدة الأمريكية في هذه الجمهوريات وفي هذه الحلقة سنتنأول دور الولايات المتحدة في منطقتين هامتين من العالم أوروبا والمحيط الهادي.
البيت الأطلسي
يبتدئ الكاتب الفصل الثالث ” البيت الأطلسي المشترك ” بتوجيه نقد شديد إلى مقولة البيت الأوروبي المشترك التي أطلقها ميخائيل جورباتشوف واصفاً إياها بالبراعة الخطابية الفارغة لأن ما أهملته كان حسب رأي المؤلف أهم بكثير مما احتوت عليه ألا وهو الدور الهام للولايات المتحدة الأمريكية ، إن أوروبا وبتأثير العوامل الجيوسياسية ليست الامتداد الجغرافي بين موسكو ولندن بل هي أكثر من ذلك حسب تعريف نيكسون ، إنها الامتداد الجغرافي بين موسكو وواشنطن ” فالتقاليد الغربية والإيمان الثابت بالمبادئ الديمقراطية وكذلك الإيمان العميق بكرامة الفرد تخلق روابط فلسفية تربط الأطراف بقوة أكبر بكثير من الموقع الجغرافي للقارة الأوروبية .” إن مقولة البيت الأوروبي المشترك عند نيكسون ماهي أكثر من صيغة جديدة لسياسة موسكو التقليدية زمن الحرب الباردة الرامية إلى فصل الولايات المتحدة الأمريكية عن حلفائها الأوروبيين وما لم تستطع موسكو سابقاً أن تحققه زمن الاتحاد السوفييتي بواسطة دبلوماسية القوة يجب ألا تسمح الولايات المتحدة الآن بتحقيقه تحت أي عنوان ويرى بأن القضية الملحة حالياً لصانعي السياسة الأمريكية هي مراجعة وإعادة صياغة دور أمريكا في أوروبا لمواجهة مشاكلها الجديدة التي برزت إثر انتهاء الحرب الباردة .
وفي سياق المراجعة وإعادة الصياغة يستعرض نيكسون الوقائع الجيوسياسية الأساسية التي بنيت عليها السياسة الأمريكية في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية:
- الحضور العسكري السوفييتي في قلب أوروبا : بعد أن حيدت موسكو التفوق الأمريكي بتطويرها للقنبلة الذرية عام 1949 وبوجود حوالي 380 ألف جندي سوفييتي في ألمانيا الشرقية صار الهم الأساسي للسياسة الأمريكية في أوروبا على مدى خمسين سنة هو تحقيق ردع ضد عدوان أو تهديد سوفييتي محتمل .
- السيطرة الإمبراطورية السوفييتية على أوروبا الشرقية : منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أضحت دول أوروبا الشرقية واقعة بالكامل تحت السيطرة السوفييتية المدعومة بقوات حلف وارسو الذي سمح بوجود 800 الف جندي سوفييتي في أراضي هذه الدول وعندما حاولت بعض هذه الدول كالمجر وتشيكوسلوفاكيا الخروج من مجال السيطرة السوفييتية ” 1956 – 1968″ جوبهت من قبل موسكو بقوات الجيش الأحمر معطية بذلك درساً لدول المنطقة الأخرى التي قد تفكر بالخروج عن نهج السيطرة السوفييتية؟
- تقسيم ألمانيا المفروض من قبل السوفييت : إن تقسيم ألمانيا غير الطبيعي كان يبرر تقسيم أوروبا غير الطبيعي ، ونتج عن ذلك حالة من التجاذب والتضاد في نفس الوقت فبينما كان اعتماد ألمانيا الغربية على الحلف الأطلسي من أجل حمايتها يجذبها نحو الغرب ، كانت موسكو من خلال سيطرتها على ألمانيا الشرقية تحاول جذب بون باتجاه الشرق.
- أوروبا الغربية مجزأة وهدفا سهلا: في أعقاب الحرب العالمية الثانية تراجعت الدول الأوروبية الكبرى إلى دول من الدرجة الثانية بسبب حجمها من جهة وعدم قدرتها على تنسيق استراتيجيتها الدفاعية والسياسية من جهة اخرى بالإضافة إلى اعتمادها على الحماية النووية الأمريكية ، الدولة الغربية الوحيدة التي تمتلك القدرة الاقتصادية والعسكرية اللازمة ، لتعزيز الأمن الغربي من خلال الحلف الأطلسي وبتشجيع أوروبا الغربية لاتخاذ الخطوات الأولى نحو الوحدة من خلال المجموعة الاقتصادية الأوروبية.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة يرى المؤلف أن هذه الحقائق لم تعد موجودة إذ أن حقائق جديدة قد برزت عوضاً عنها وهي:
فراغ أمني
الفراغ الأمني في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق : إن حل حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفييتي قد تركا نصف أوروبا بدون أي تنظيم أمني – وعلى الرغم من ” الإيجابية ” الكبيرة لهذه التغيرات إلا أن ذلك قد خلق تحد جدياً ينبغي مواجهته وهو الفراغ الأمني في أوروبا الشرقية والجمهوريات السوفييتية السابقة هذه الدول تواجه الآن فترة لم يسبق لها مثيل من عدم الاستقرار ونظراً للأهمية الاستراتيجية الكبرى لأوروبا الشرقية ، حيث كانت المحور الذي دارت حوله الصراعات السياسية في القارة الأوروبية على مدى مائتي عام ، فهي تشكل في رأي المؤلف ركناً اساسياً من أركان الاستقرار الجيوسياسي على مستوى العالم.
الديمقراطيات الهشة
الديمقراطيات الجديدة الهشة في أوروبا الشرقية ، منذ تحررها من السيطرة السوفييتية تعلمت شعوب أوروبا الشرقية درساً مفيداً ، هو أن إسقاط نظام قديم أسهل من بناء نظام جديد ، فالفرحة العارمة بتلك التحولات أخمدتها الحقائق القاسية لممارسة الحكم ” انكماش اقتصادي ، نزاعات عرقية ، ظروف حياتية صعبة ..” ذلك كله يخلق برأي المؤلف مناخاً ملائماً لظهور الديماجوجيين.
الدور الألماني
ألمانيا موحدة ولكنها غامضة الاتجاه : إن توحيد ألمانيا قد جعلها أكبر دولة أوروبية بعدد سكانها : 78 مليون نسمة ” ذلك مع ثقلها الاقتصادي الهام بالإضافة إلى قوات مسلحة يبلغ تعدادها ” 590 ألفاً أي ضعف ما لدى بريطانيا ” يعطي لألمانيا وزناً جيوسياسياً كبيراً يرشحها ليس فقط للسيطرة على المؤسسات الاقتصادية الأوروبية بل وأيضاً على مؤسساتها الأمنية والسياسية . السؤال المركزي الذي يطرح نفسه بإلحاح مع تنامي القوة الألمانية هو كيف ستستخدم ألمانيا هذه القوة؟
يقول نيكسون “بالنسبة للكثير من الأوروبيين فإن توحيد ألمانيا يعود بذاكرتهم إلى خمسين عاماً مضت عندما كان الألمان يطوفون شوارع العواصم الأوروبية ليس بسيارات المرسيدس الأنيقة بل بدباباتهم ناشرين نفوذهم ليس عبر التعاون الاقتصادي بل عبر السيطرة العسكرية والرعب . تأسيساً على ذلك يعتقد المؤلف بأن التحدي الأكبر الذي تواجهه أمريكا الآن بالنسبة لألمانيا هو كيف تستطيع أمريكا مساعدتها في تحديد الطرق البناءة لاستعمال قوتها الجديدة ؟
وفي هذا السياق يرى نيكسون بأن موضوعين أساسيين لهما الأولية:
- احتمال انبعاث التقليد الألماني الجيوسياسي والذي يقضي بأن تضع ألمانياً رجلاً في الغرب ورجلاً في الشرق ، فدور ألمانيا في تصنيع روسيا السوفييتية واقتسام أوروبا الشرقية بين هتلر وستالين شواهد تاريخية على هذا التقليد.
- سياسة التصدير غير المسؤولة للتكنولوجيا : فبسبب دورها السياسي المحدود زمن الحرب الباردة ألقت ألمانيا بثقلها في الساحة الاقتصادية وخاصة في مجال التجارة العالمية ، حيث أدى ذلك إلى بيع أي شيء لأي كان عندما يدفع المال بصرف النظر عن النتائج المحتملة لذلك سياسية كانت أم عسكرية ” مثلاً دور الشركات الألمانية في تسليح العراق ” ويخلص نيكسون إلى التأكيد على ألمانيا بأن تمارس قدراً أكبر من المسؤولية في مجال نقل التكنولوجيا .
أوروبا الموحدة
أوروبا الغربية تتوحد بالتدريج ولكنها تنتهج سياسة الحماية ، يرى المؤلف أن أوروبا الموحدة لها حسنات كما لها سيئات بالنسبة للولايات المتحدة ، فمن حسناتها تخفيض الدور العسكري الباهظ التكاليف ” 300 ألف جندي أمريكي و 180 مليار دولار سنوياً ” أما أوروبا الموحدة بناتج إجمالي يزيد على الناتج القومي الأمريكي مع سياسة حماية وإغراق ” 115 مليار دولار خلال الثمانينات مساعدة للشركات الأوروبية ” يحول أوروبا إلى قلعة ذلك دفع بعض المراقبين إلى التساؤل فيما إذا كان الاندماج الاقتصادي الأوروبي لا يتوافق مع المصالح الامريكية والرد في رأي نيكسون هو أنه لا تزال المنافع الاستراتيجية ترجح على التكاليف الاقتصادية لسياسة الحماية المتصاعدة ، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تستطيع الاستمرار في تأييد الوحدة الأوروبية بأي ثمن .
انهيار الشيوعية
انهيار الشيوعية السوفييتية : لقد أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى توجيه ضربة مميته إلى منطق الدور الأمريكي في أوروبا ، حيث يتوقع المؤلف أنه مع مرور الزمن ستجد في أمريكا وأوروبامن يطالبون بخروج أمريكا العاجل من أوروبا وهو يرى بان ذلك إذا ما تحقق سيكون خاطئاً للأسباب التالية:
- لقد أثبتت حربان عالميتان بأن ابتعاد أمريكا عن أوروبا تسبب بأخطار كبيرة ، فلولا العزلة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى ربما استطاعت أمريكا منع نشوب الحرب العالمية الثانية عن طريق الردع بدلاً من أن تضطر لخوضها كما حصل فعلاً.
- في الوقت الحاضر لا يوجد في أوروبا أمنية بديلاً للحلف الأطلسي وإلى أن يظهر بديل ذا مصداقية يرى نيكسون بأن أمريكا ترتكب خطأ فادحاً إذا انسحبت من الحلف أو سمحت بتفكيكه ، علماً بأن الترسانة النووية الموروثة عن الاتحاد السوفييتي السابق ونزعة الهيمنة الألمانية المحتملة لا تزالان تبرران وإلى حدٍ كبير المحافظة على الدور الأمريكي في أوروبا من خلال الحلف الأطلسي.
تأسيساً على ذلك يرى المؤلف بأن السؤال الملح بالنسبة لأمريكا وأوروبا ليس فيما إذا كان على أمريكا الخروج من أوروبا بل ما هي أفضل الصيغ للحفاظ على الدور الأمريكي في أوروبا ؟
أركان خمسة للبيت الأطلسي المشترك
وفي هذا الإطار يقترح نيكسون صيغة البيت الأطلسي المشترك الذي يقوم على ما يسميه الأركان الخمسة التالية:
- ضمانات أمنية يقدمها الحلف الأطلسي لبلدان أوروبا الشرقية ؟
- سياسة أمريكية نشطة في أوروبا الشرقية تشجعها على الاندماج في الغرب وتساعدها على التصدي لمشاكلها الاقتصادية كذلك الخروج من ظل السيطرة الاقتصادية لأوروبا الغربية .
- سياسة الباب المفتوح أمام الجمهوريات السوفييتية السابقة بهدف تشجيعها للاندماج في الغرب شريطة التزامها بما يسميه قيم السوق الحرة والقيم الديمقراطية ويرى المؤلف بأنه إذا ما نجح الإصلاحيون في خلق روسيا غير إمبريالية وغير شيوعية فعلى الغرب أن يرحب بها في البيت الأطلسي المشترك.
- مشاركة أمريكية – ألمانية وثيقة تقوم على الأسس التالية :
- يمكن للولايات المتحدة تقديم غطاء أساسي لاستراتيجية سياسية خارجية ألمانية أكثر نشاطاً.
- يمكن لأمريكا أن تتخلى عن القيادة لألمانيا في مسائل السياسات الضريبية والنقدية بين الدول الصناعية الكبرى .
- بما أن صادرات ألمانيا تبلغ 35 % من ناتجها المحلي ” وهو من أعلى الأرقام في أوروبا الغربية ” فإن لها مصلحة في بقاء الأسواق مفتوحة لذلك يمكن لأمريكا وألمانيا العمل سوياً كي لا تتحول أوروبا الموحدة إلى قلعة اقتصادية مغلقة.
- مراقبة نقل التكنولوجيا المتطورة إلى الدول النامية ، فما لم يضبط الغرب تصدير التكنولوجيا إلى دول غير مأمونة فإننا ” الغربيين ” سنجد أن بعض هذه الدول قد امتلكت حتى صواريخ عابرة للقارات ويرى الكاتب بأنه ليس من مصلحة ألمانيا أن توصم باللامبالاة الأخلاقية أو بعدم المسؤولية وهي تحاول الظهور من جديد على المسرح السياسي العالمي.
- إعادة بناء الحلف الأطلسي من أجل مهمات جديدة فبالإضافة إلى مسؤوليات الحلف التقليدية في أوروبا يرى نيكسون بأن على الحلف أن يطور استراتيجيته الأمنية بحيث يشمل مناطق خارج أوروبا ” أي في الدول النامية ” على أن يشمل هذا التطوير المجالات التالية:
- على الأعضاء الأوروبيين تشكيل قوة انتشار سريع مشتركة تتدخل حسب الظروف بصورة مستقلة أو تحت أمرة قيادة موحدة مع قوات الانتشار الأمريكية بما أن الأزمة القادمة سوف تقع على الأرجح في العالم النامي فعلى الولايات المتحدة فتح قواعدها خارج أوروبا أمام شركائها في الحلف الأطلسي.
- إيجاد آلية تكفل تحقيق تنسيق أكبر بين حلفاء الأطلسي لإدارة الأزمات ويختتم نيكسون هذا الفصل بالتأكيد مجدداً على ضرورة أن تعمل أمريكا وأوروبا سوياً لبناء البيت الأطلسي المشترك والممتد من موسكو إلى واشنطن.
مثلث المحيط الهادي
أما الفصل الرابع من الكتاب بعنوان : مثلث المحيط الهادي ” اليابان ، الصين ، روسيا ” فقد خصص للحديث عن التحديات الكبرى التي تواجه هذه المنطقة ودور الولايات المتحدة فيها . في البدء يتحدث الكاتب عن الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية لمنطقة المحيط الهادي التي تبلغ عدد دولها 23 دولة ومجموع سكانها ما يقارب المليارين بناتج إجمالي 4410 مليارات دولار أو حوالي 20% من الناتج العالمي وحجم تجارة مع الولايات المتحدة مقداره 300 مليار دولار أي أكبر من حجم تجارة أمريكا مع أوروبا الغربية 200 مليار دولار عام 1989 .
كما يشير المؤلف في هذا السياق إلى بعض التنبؤات التي تتوقع أن تحتل هذه المنطقة موقعاً مركزياً على المسرح العالمي في القرن الواحد والعشرين ، إلا أن نيكسون يرى بأن عدم الاستقرار الأمني يهدد مصداقية تلك التنبؤات فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن تفجر في هذه المنطقة اثنتا عشر حرباً كبيرة ونزاعاً مسلحاً ” حرب كوريا ، فيتنام ،حروب العصابات في تايلاند ، الفلبين … “. يضاف إلى ذلك المنافسات والشكوك العميقة والاتهامات المتبادلة بين دول المحيط الأساسية ذلك كله يخلق في هذه المنطقة حالة من عدم الاستقرار يمكن إن لم يتم احتواؤها أن تؤثر على دورها الجيوسياسي في العالم وتهدد ازدهارها الاقتصادي بالتراجع والإنكماش ، ثم ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى إجراء دراسة معمقة لأوضاع كل من دول ما سماه مثلث المحيط الهادي مع بعض الاقتراحات التي يراها مناسبة للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه كل منها:
1 – اليابان
ويرى فيها نيكسون دولة من العيار الثقيل اقتصادياً والعيار الخفيف سياسياً وعسكرياً تتعثر في سعي زعمائها لإيجاد دورٍ لها في الساحة العالمية يتناسب مع إمكانياتها الضخمة ؟ فمن الناحية الاقتصادية زاد حجم ناتجها المحلي من 5% من الناتج المحلي الأمريكي عام 1950 إلى أكثر من نصفه عام 1991 متقدمة بذلك على الدول الصناعية الكبرى الأخرى وتمتلك المصارف الكبرى العشر في العالم . ذلك وغيره يؤكد أهميتها الاقتصادية الكبرى على المستوى العالمي ، ثم ينتقل الكاتب لإجراء بعض المقارنات وإعطاء بعض التفسيرات لعوامل القوة و الضعف في الاقتصادين الأمريكي والياباني ليستنتج في النهاية بأنه على الرغم من التعاون الذي استمر خمسة وأربعين عاماً بين أمريكا واليابان كحلفاء فإن العوائق الثقافية والخصومات الاقتصادية التي تصل أحياناً إلى حد التناقض قد غزت الخلافات بين البلدين إلا أن السبب الرئيسي لهذه الخلافات يكمن في تغيير طبيعة القوى المحركة لعلاقاتهما فاليابان لم تعد تتقبل الوصاية الأمريكية وأمريكا لم تعد تقبل خدمة المصالح اليابانية بالمجان ومع ذلك يرى المؤلف بأن التفاهم الأمريكي الياباني لا زال ممكناً ولا زال ضرورياً لكلا الطرفين فهو ممكن لأن البلدين يشتركان بقيم ومصالح تشد كل منهما إلى الآخر فنحن كلينا يؤمن بالحكم الديمقراطي واقتصاد السوق وكلانا له مصلحة كبيرة في بقاء وانتشار التجارة الحرة العالمية تأسيساً على ذلك يقترح نيكسون على الولايات المتحدة تشجيع اليابان لتنمية دورها الجيوسياسي عالمياً وفق التوجهات التالية:
- تعزيز التعاون بين أمريكا واليابان في مجال تطوير التكنولوجيا الدفاعية خاصة ما يتعلق بدمج البحوث اليابانية فير مجالات الليزر والكومبيوتر وأجهزة الاستشعار مع بحوث التسليح الأمريكية..
- تشجيع اليابان على توجيه ميزانيتها للمساعدة الاقتصادية الخارجية والبالغة 15 مليار دولار وباتجاه البلدان النامية التي يجد الغرب أن له فيها مصالح استراتيجية عوضاً عما هو قائم حالياً من ربط تقديم المساعدات بشراء بضائع يابانية .
– تقديم الأموال لتسهيل حل النزاعات الإقليمية..
– تقديم العون الاقتصادي إلى الجمهوريات الديمقراطية في الاتحاد السوفييتي السابق.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فعليها أن تؤكد على تحالفها مع اليابان باعتباره عامل أمن واستقرار لليابان وفي المنطقة ككل ، فانسحاب أمريكا من قواعدها المتقدمة على شواطئ الهادي يعني أن اليابان عليها أن تواجه قوتين نوويتين “موسكو وبكين ” وهذا يتركها أمام أحد خيارين :الأول تطوير قدراتها النووية الذاتية والثاني عقد صفقة على أساس مبادرة العون الاقتصادي الياباني بالحماية العسكرية من قبل أحد رأسي المثلث الهادي الصين أو روسيا وكلا الخيارين يعتبرهما المؤلف مر بالنسبة لليابان.
2– الصين
ويرى الكاتب في بروزها كقوة عالمية أمر محتوم بما لها من ثقل بشري ” 101 مليار ” وقدرة نووية كبيرة ونمواً مضطرداً لاقتصادها ثم ينتقل بعد ذلك لشرح أسباب الانفتاح على الصين الذي دعا اليه ومارسه اثناء فترة رئاسته للولايات المتحدة حيث يقول في هذا السياق بالإضافة إلى الرغبة للتعاون مع الصين لوضع حدٍ للحرب الفيتنامية وخلق قوة معادلة للاتحاد السوفييتي السابق فإن الأهم كان عدم إمكانية ترك الصين إلى الأبد خارج الأسرة الدولية ” تغذي نزواتها وتنمي كراهيتها وتهدد جيرانها”. ينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن الإصلاح الاقتصادي الجاري الآن في الصين وأثره على ما يسميه ” تحرك الديمقراطية في الصين ” ، فمع أن الزعيم الصيني دنغ سياوبنغ قد شجع الإصلاح الاقتصادي ومنع التغيير السياسي إلا أن الانفتاح الاقتصادي الذي مارسته الصين من خلال سياسة الإصلاح وثورة الاتصالات وتزايد المبادلات على الصعيد الدولي بين الأفكار والأفراد قد أدى إلى فك سيطرة الأيدولوجية الشيوعية عن المجتمع الصيني حيث ساهم ذلك بشكل فعال في تفجير المواجهة بين الأفكار الجديدة والنظام القديم في ساحة تيان ان من ” يونيو 1989 ” وعلى مما يسميه الكاتب ” بالتصرفات الوحشية للنظام التي تستحق الإدانة العالمية ، إلا أن المؤلف يعتقد بأن للصين موقعاً خاصاً في السياسة الخارجية الأمريكية بفضل عدد من الحقائق التي لا بد من أخذها بالاعتبار عند وضع التوجيهات الأساسية للسياسة الأمريكية تجاه هذا البلد. فالصين واحدة من المراكز الخمسة للقوة الجيوسياسية الكبرى في العالم ، فهي قوة نووية ولها دور بارز في بعض النزاعات الإقليمية ” كمبوديا ، الشرق الأوسط … ” كما أنه يوجد بينها وبين أمريكا شبكة واسعة من المصالح ” الاستخباراتية ، التجارية ، الثقافية … ” بالإضافة إلى دورها المؤثر على مصالح هونج كونج وتايوان ثم أنها عضو دائم في مجلس الأمن يتمتع بحق النقض . لذلك كله يوصي نيكسون بعدم الاستجابة لبعض النداءات في أمريكا والعالم الغربي الداعية إلى عزل الصين عقاباً لنظامها على قمعها للحركة الديمقراطية فيها ” أحداث 1989 ” لأن ذلك سيشكل مأساة تاريخية لا يمكن تحديد أبعادها وعوضاً عن ذلك يلح المؤلف على صانعي السياسة الخارجية الأمريكية بالحفاظ على العلاقة مع الصين وتوجيهها بهدف التأثير على التطور العام في هذا البلد نحو ما يسميه التقدم السياسي الاقتصادي ، وحتى تستطيع السياسة الأمريكية تحقيق ذلك عليها أن تكون فعالة في المجالات التالية:
أ- توسيع نطاق التعاون الاقتصادي بين البلدين : وفي هذا المجال يؤكد المؤلف على ضرورة المحافظة على الامتياز الذي تتمتع به الصين في علاقاتها التجارية مع أمريكا كواحدة من الدول الأكثر رعاية لأن إلغاء هذا الامتياز يعني أن الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة ستخضع لرسوم جمركية عالية وهذا يعني تقليصاً للعلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين.
ب- التأكيد على طابع الشراكة المتساوي للعلاقات في المجالات الأخرى بين البلدين : حيث ينبه المؤلف إلى أن سقوط الأنظمة الشيوعية في العالم وخاصة انهيار الاتحاد السوفييتي ربما يشجع المتشددين في الصين إلى تصعيد القمع في الداخل مع الانكفاء والعزلة في الخارج مما قد ينمي من جديد لدى هذه الدولة الكبرى نزعة التهديد والعدوان ويلخص موقفه في هذا المجال بقوله “إن حكومتينا تستطيعان أن تكونا شريكتين ولكنهما لا تستطيعان أن تكونا صديقتين وفي حين أننا لا نستطيع أن نكون أصدقاء فإننا لا نستطيع أن نكون أعداء أيضاً “.
ج- تشجيع التغيير السلمي في الصين : وهنا يسهب المؤلف في توضيح الوسائل التي تمكن أمريكا من ذلك ، حيث يوصي باعتماد عدد من السبل منها:
– استئناف الحوار على مستوى عال مع الصين مع التأكيد على أن الرسميين الأمريكيين الذين يتحدثون مع الصينيين يجب أن يتطرقوا دائما إلى حقوق الإنسان والإصلاحات السياسية بلهجة شديدة.
– تنمية برامج التبادل الثقافي والتربوي مع الصين .
– فتح محطتي إذاعة دوليتين جديدتين ” راديو الصين الحرة وراديو التيبت ” من أجل تزويد شعوب الصين والتيبت بالمعلومات والتعليقات الحرة .
ومع ذلك ينبه نيكسون إلى أنه لا يجوز الحكم على الصين بمقاييس الديمقراطية الأمريكية فهو إذ يؤكد ثقته بأن الصين ستقدم على الإصلاح إلا أنه يرى ” بأن التغيير يجب أن يأتي من الصينيين أنفسهم ، بطريقتهم الخاصة وبحسب تقاليدهم وبالوتيرة التي تناسبهم”.
3 – روسيا
ينتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن الرأس الآخر في مثلث الهادي جمهورية روسيا الاتحادية واصفاً الكرملين بأنه قوة توسعية في المنطقة منذ أمد طويل . لقد كان العلم الروسي يخفق فوق مستوطنات في ألاسكا عام 1784م وفي كاليفورنيا عام 1811م وكقوة أوروآسيوية كان يتعامل مع أوروبا على أنها جبهته الأهم ولكنه كان يعتبر أيضاً آسيا جبهة حيوية . ثم يضيف المؤلف، وحتى بعد قيام حكومة غير شيوعية في موسكو فإن إمكانيات تحسن سريع في علاقاتها مع الأطراف الأخرى في المثلث الهادي تبقى محدودة ويستعين نيكسون بالتاريخ لتبرير وجهة نظره تلك ، فمنذ ثلاثة قرون وسعت روسيا سيطرتها الإقليمية في منطقة الهادي مما جعلها تصطدم بالقوتين الرئيسيتين في تلك المنطقة “الصين واليابان ” . فموسكو شاركت أوروبا في توزيع مناطق النفوذ في الصين ودخلت مع اليابان في منافسة شديدة أوصلتها إلى حرب عام 1904 سويت بواسطة الولايات المتحدة زمن رئاسة تيودور روزفلت وبعد الحرب العالمية الثانية لم توقع معاهدة سلام مع اليابان حيث بقيت قضية جزر الكوريل عالقة حتى الآن ، ذلك وغيره جعل العلاقات بين موسكو وكل من طوكيو وبكين مشوبة بعدم الثقة والحذر من بروز النفوذ الإمبريالي الكامن في القومية الروسية مجدداً حتى بعد سقوط الشيوعية فكون الحكام في موسكو قد أصبحوا غير شيوعيين لا يعني أنهم لم يعودوا من الروس.
في نهاية هذا الفصل يصل نيكسون إلى الاستنتاج بأن الدور الأمريكي في منطقة الهادي لا غنى عنه وأن وجودها العسكري في تلك المنطقة عامل توازن واستقرار ، فالنزاعات بين دول مثلث الهادي لم تبدأ مع الحرب الباردة ولن تنتهي بانتهائها وبغياب الولايات المتحدة فإن التنافس بين اليابان والصين وروسيا قد يكون بلا حدود وبدون ضابط حيث يسعى كل طرف لاحتلال المركز الأول في المنطقة ، لذلك فإن دور أمريكا كعامل توازن إقليمي ووسيط نزيه وضامن للأمن في منطقة الهادي سيزداد أهمية.
الدكتور محمد توفيق سماق