صحيفة تشرين– دمشق – سورية
العدد: 7051 – تاريخ 7/1998 /3 |
على الرغم من أهمية وشمولية ما قيل وكتب عن الأزمة الآسيوية سواء ما يخص الأسباب أو ما يتعلق بالنتائج يمكن للمتابع ان يستشعر الحاجة لمزيد من الدراسة والتحليل لبعض جوانب هذه الأزمة المعقدة بعواملها الداخلية والخارجية . يبرر تلك الحاجة أهمية وخصوصية التجربة الآسيوية وهنالك أسباب عديدة تدفعنا لوصف تلك التجربة بالمهمة والخاصة لعل من أبرزها:
- مثلث الدول الحديثة والكثيفة التصنيع في منطقة شرق وجنوب آسيا تعتبر نموذجاً وأملاً للكثير من دول الجنوب في امكانية قهر التخلف بفترات زمنية قصيرة وبوسائل متاحة للكثير منها . الأزمة بلا شك هزت مصداقية هذا النموذج وألقت بظلالها على أمل طالما دفع الكثيرين في جنوب الكرة الأرضية لمزيد من التفاؤل بالمستقبل القريب ولمزيد من الثقة بالذات والامكانيات .
- مع النجاحات التي حققتها تلك الدول بدأ الحديث عن امكانية صياغة تكتل اقتصادي آسيوي برعاية يابانية وشراكة صينية وعضوية ما كان يسمى بالنمور الآسيوية يقف إلى جانب القوتين الاقتصاديتين العملاقتين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي . مما يعني الارتقاء بالاقتصاد العالمي إلى مستويات أعلى من التعددية تساهم في التخفيف من نزعة الأحادية السياسية السائدة في النظام الولي الراهن – الذي تنفرد على قمته الولايات المتحدة الأمريكية –ولا شك بأن ذلك مصلحة الجنوب دولاً وشعوباً .
- إن سقوط النموذج الآسيوي لن يكون إلا لمصلحة الغرب المتقدم صناعياً ، وليس كما يظن البعض في دول الجنوب – بشيء من السذاجة – انتصاراً لأيديولوجيا التشدد والانغلاق على أيديولوجيا العولمة .
إن حالة كهذه ستعني بالضرورة مزيدا من التعزيز لسيادة الشمال ومزيدا من التهميش لدول الجنوب بحكم موازين القوة التي ستزداد خللا بين الطرفين . وبصرف النظر عن تلك الأسباب وغيرها مما يمكن ايراده للتدليل على أهمية النموذج الآسيوي وخصوصيته، نعود إلى البدء محاولين التركيز على بعض الجوانب التي قد تساعد على اكتمال وضوح لوحة الأزمة الآسيوية :
1- مصطلح الأزمة : من الناحية اللغوية تعني كلمة الأزمة اضطرابا فجائيا يطرأ على التوازن في نظام معين ( اقتصادي – اجتماعي – سياسي …) .وبهذا المعنى كانت وسائل الإعلام محقة في اطلاقها وصف الأزمة على أعراض الحالة الآسيوية الراهنة . أما من حيث الأسباب فهي ليست أزمة بل هي أقرب إلى التي تراكمت مع الزمن وساهم في تشكيلها عوامل داخلية وخارجية سنحاول استكشاف بعض منها فيما يأتي .
2- شمولية الأزمة : ظهرت أعراض الأزمة في دول آسيا الحديثة والكثيفة التصنيع بشكل متباين ، فبحسب شدة الأعراض وطبيعتها ومكان توضعها الراهن يمكن تقسيم تلك الدول إلى مجموعتين :
أ- الدول الآسيوية المأزومة وهي اندونيسيا – ماليزيا- كوريا الجنوبية – وتايلاند.
ب- الدول الآسيوية التي تواجه احتمال الأزمة وهي سنغافورة – تايوان – هونغ كونغ ( منطقة ذات وضع خاص في اطار جمهورية الصين الشعبية) .
إذا فالأزمة لم تكن حادة في جميع تلك الدول بل في بعض منها حتى الآن . بخلاف ما يوحي به مصطلح الأزمة الآسيوية الذي تستخدمه وسائل الإعلام .
3-طبيعة الأزمة : على الرغم من الأعراض المالية للأزمة الآسيوية ( تدن حاد في قيمة النقد المحلي – تراكم المديونية الخارجية – تنامي خدمة المديونية – إفلاس بعض المؤسسات المالية ..وغيرها ) إلا أن الدراسة المتأنية والتمحيص الدقيق لطبيعة تلك الأزمة يوحيان بأن جوهرها يكمن في فائض الانتاج لدى بعض الدول الآسيوية عن حاجة السوق ( المحلية منها والخارجية ) أي أنها أزمة كساد في الأصل . البيانات الرقمية الآتية قد تساعد في دعم الاستنتاج السابق: خلال الفترة من عام 1990حتى عام 1995 ازداد إجمالي صادرات الدول الأربع المأزومة كما ازداد إجمالي ناتجها المحلي بمعدلات وسطية سنوية بلغت 14,8 % للصادرات و13,7% للناتج بينما بلغت المعدلات الوسطية لنمو الصادرات العالمية والدخل العالمي نحو 9,6% للصادرات ونحو 4,5% للدخل في الفترة نفسها. وإذا أخذنا بالاعتبار أن اقتصاديات الدول الآسيوية موجهة أساساً للتصدير يمكننا إدراك الأثر السلبي للنمو الانفجاري للنشاط الانتاجي والتصديري في تلك الدول مقارنة بالمعدلات العالمية . فالطلب العالمي على السلع الآسيوية محكوم بعوامل يصعب تجاوزها ، فهو محكوم بمستوى النشاط الاقتصادي للدول الأخرى ومحكوم بحدة المنافسة .. وبعوامل أخرى مشابهة . بالمحصلة استطاعت قوى السوق العالمية (من عرض وطلب ) أن تحيل النمو الانفجاري في الدول الآسيوية من نعمة كما كان مألوفاً إلى نقمة كما أضحى الآن معروفاً .
4- العامل الأمريكي : كان للازدهار الاقتصادي الذي عرفته الولايات المتحدة الأمريكية دور غير مباشر لكنه هام في انفجار الأزمة . فالعامل الأمريكي ظهر تأثيره باتجاهين :
- الاتجاه الأول يتعلق بالصادرات فقد ازداد نصيب الولايات المتحدة من سوق الصادرات العالمية من نحو ١٢٪ في عام ١٩٩٢ إلى نحو ١٦٪ في عام ١٩٩٥. وبما أن حصة الدول الصناعية الست الكبرى الأخرى في العالم لم تتغير كثيرا خلال نفس الفترة يمكننا الاستنتاج بأن الزيادة قد تحققت بشكل جزئي على حساب الدول الآسيوية موضوع الحديث ،مما فاقم من مشاكلها وراكم من فائض انتاجها .
- – الاتجاه الثاني : يتعلق بسعر صرف الدولار الأمريكي فقد ازداد سعر صرف الدولار من نحو ٨٠ ينا يابانيا عام ١٩٩٥ إلى نحو ١٢٥ ينا حاليا .كان يمكن لزيادة سعر صرف الدولار أن تلعب دورا سلبيا في قدرة الصادرات الأمريكية على منافسة مثيلاتها من الدول الآسيوية المأزومة ، بسبب ماينتج عادة عن ارتفاع سعر العملة الوطنيةمن ارتفاع اسعار صادرات الدولة المعنية لو أن الثقة بالنشاط الاقتصادي ككل في الدول الآسيوية لم تهتز بتأثر مشكلة الفائض أو الكساد كما أشرنا سابقا . لذلك أتت النتائج عكسية فعمد المستثمرين ( وخاصة الأجانب منهم ) لعرض كميات كبيرة من العملات المحلية للبيع بهدف تحقيق أرباح عن طريق المضاربة بالعملات و لتعويض بعض من خسائرهم الناتجة عن الكساد مما زاد في الطلب على العملات الصعبة و خاصة الدولار الأمريكي و أدى بالتداعي لانخفاض حاد في قيمة سعر تعادل العملات الآسيوية بالنسبة للدولار الأمريكي و غيره من العملات الصعبة .
5- العوامل الداخلية : ونعني منها ماتكرر ترداده في الفترة الأخيرة من عدم كفاءة الإدارة في تلك الدول وفسادها ….وماشابه . وعلى الرغم من أن دوائر القرار في الدول الآسيوية لم تقبل بتلك التهم إلا أن الواقع يوحي بشيء من هذا :
- محاكمة اثنين من رؤساء كوريا الجنوبية بتهم تتعلق بالفساد .
- تصفية ٥٦ مؤسسة مالية من أصل ٩١ في تايلاند تجمع الأموال لتوظيفها في الأسهم والسندات ( تمت التصفية في ٩ / ١٩٩٧/١٢). – إفلاس العديد من المؤسسات المالية الكبيرة في اندونيسيا… وغير ذلك .
- ربما كانت وسائل الإعلام قد عمدت إلى تضخيم أثر تلك العوامل ومع ذلك قد يكون من الإنصاف الإقرار بأن طبيعة البنى السياسية القائمة في تلك الدول والمتمثلة في انغلاق النخب الحاكمة وغياب المشاركة والاستئثار بالقرار الاقتصادي لعقود – وفي بعض منها لقرون – من الزمن من العوامل المؤهلة لظهور تلك العوامل وتطورها:
- ففي اندونيسيا ينفرد الرئيس سوهارتو على قمة السلطة منذ عام ١٩٦٨ .
- وفي ماليزيا يوجد نظام ملكي برلماني ، إلا أن الملية غير وراثية حيث تجري تسمية الملك بالانتخابات الملك بالانتخابات لمدة ٥ سنوات من قبل السلاطين التسعة القائمين على رأس السلطنات الموجودة في البلاد . ونظام الانتخاب هذا وكذلك دستور البلاد يجعل من الملك حكما أكثر منه حاكما حيث تتركز السلطة نتيجة لذلك في أيدي رئيس الحكومة ، ورئيس حكومة ماليزيا الحالي الدكتور مهاتير محمد ( طبيب) صاحب دور بارز في السلطة السياسية للبلاد منذ مايزيد على ربع قرن ١٩٧٢ نائب في البرلمان -١٩٧٤ وزير تربية -١٩٧٦ وزير تربية ونائب رئيس وزراء ١٩٧٨ وزيى صناعة وتجارة – منذ عام ١٩٨١ وحتى الآن رئيسا للوزراء .
- وفي تايلاند ذات النظام الملكي البرلماني تمكن في عام ١٧٨٢ أحد الجنرالات اسمه الأصلي شاكري من الاستيلاء على السلطة وأعلن الملكية في البلاد ثم لقب نفسه ( راما الأول ) ولا تزال سلالته حاكمة (في تايلاند) حتى الآن .
- وكوريا الجنوبية لم تعرف الديمقراطية إلا منذ أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات.
6- وضع الدول التي تواجه احتمال الأزمة: أبرز هذه الدول حاليا ( تايوان – هونغ كونغ – سنغافورة ). لاقتصادياتها سمات تطور مشابهة للدول الأربع المأزومة الأخرى لكن بدرجات أقل ( معدلات نمو أدنى قليلا للناتج والصادرات ) وكأنها مع دول آسيوية أخرى قد استشعرت مبكرا خطورة المعدلات الانفجارية للنمو فعمد بعضها (كالصين الشعبية ) لعملية كبح إرادية لنمو اقتصادياتها مما ساعدها على تجنب حدة الأزمة حتى الآن ،مع التوضيح بأن ذلك لايعني استبعاد احتمالاتها .
تأسيسا على ماسبق يمكن القول بأن حدة الأزمة الآسيوية جزئية وليست شاملة حتى الآن وعلى الرغم من أعراضها المالية فهي أزمة فائض انتاج( أو كساد) في الجوهر ساعد على انفجارها عوامل داخلية وخارجية متداخلة ومعقدة . مع الإقرار بصعوبة التنبؤ بالزمن الذي قد تحتاجه الدول الآسيوية للخروج من أزمتها ، إلا أن الموضوعية تقتضي التنويه إلى أن هذه الدول تملك الموارد البشرية والمادية للخروج منها فمواردها العلمية والتكنولوجية كبيرة بحكم ماراكمته منها عبر العقود الثلاثة الأخيرة ،كما أن حضورها في الأسواق العالمية أكيد يمكن لأزمتها الحالية أن تقلصه لكن يصعب أن تلغيه . فما أشبه اليوم بالأمس ،أي ماأشبه أزمة أواخر التسعينيات الآسيوية بأزمة أوائل الثلاثينيات التي اجتاحت مراكز الرأسمالية العالمية الكبرى من برلين إلى نيويورك . مع هذا استطاعت تلك المراكز تجاوز أزمتها والنهوض من كبوتها حيث تمكنت اقتصادياتها من تغذية وتمويل حرباً عالمية كبرى في أقل من عقد من الزمن، فكما أن أزمة الثلاثينيات هزت الرأسمالية ولم تسقطها فأغلب الظن أن أزمة التسعينيات ستهز النموذج الآسيوي دون أن تسقطه . نقول ذلك بالظن لأن الوحيد القادر على الفصل فيه باليقين هو المستقبل ، فلنتابع ولننتظر ماسيأتي به القادم من السنوات ؟
الدكتور محمد توفيق سماق