صحيفة تشرين – دمشق – سورية
العدد : 7367 تاريخ 3/1999/ 25 |
يلحظ المتتبع لسيل الكتابات والتحليلات ذات الصلة بالمؤسستين الماليتين الدوليتين الأشهر : صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أن القسم الأعظم من هذه الكتابات والتحليلات تغفل أو تتغافل عن الطابع الدولي لهما . وتبعاً لذلك يخيل للمرء أحياناً أن كلتا المؤسستين وما يرتبط بهما من توجهات وسياسات ليست جميعها أكثر من سلعة غربية الصناعة أنتجت في مناخ مؤامرة دولية بهدف تسريبها أو تهريبها إلى دول الجنوب لإفساد سلامه الاجتماعي وكبح ازدهاره الاقتصادي !
إلا أن ولادة هاتين المؤسستين وواقع حالهما يقولان بخلاف ذلك ، فكيف ؟
في سياق الإجابة يمكن توضيح الآتي:
الولادة : كما هو معروف فإن كلتا المؤسستين قد تم تأسيسهما تنفيذاً لمقررات مؤتمر النقد والمال ، الذي عقد في منتجع بريتون وودز ( ولاية نيو هامبشاير الولايات المتحدة الأمريكية ) خلال الفترة ١-٢٢/ ٧ / ١٩٤٤ . عقد مؤتمر بريتون وودز كما هو واضح من تاريخه في الفصل الأخير من الحرب العالمية الثانية ، وقد شاركت فيه 44 دولة تشكل الغالبية العظمى من الدول التي كانت تعتبر مستقلة في ذلك الوقت ، أي أن المؤتمر لم يقتصر على الدول الغربية فقط بل شاركت فيه معظم دول العالم المستقلة في حينه . جاء هذا المؤتمر في سياق الجهود الدولية المبذولة آنذاك لصياغة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ، شأنه شأن مؤتمر سان فرانسيسكو ٢٥ / ٤ – ٦ ٢ /٦/ ١٩٤٥ الذي تم بنهايته التوقيع على ميثاق إنشاء هيئة الأمم المتحدة من قبل 51 دولة . تأسيساً على ما سبق يمكن القول بأن الطابع الدولي لمؤتمر بريتون وودز لا يختلف في الجوهر عن الطابع الدولي لمؤتمر سان فرانسيسكو ، وبالتالي فولادة المؤسستين ( الصندوق والبنك ) شبيهة بولادة هيئة الأمم المتحدة ، فكلتا الولادتين دوليتا الهوية.
المهام والأعضاء : للصندوق والبنك مهام دولية ، فالصندوق يعنى بتوجيه السياسات المالية والنقدية ومراقبتها على الصعيد العالمي كما تهتم مجموعة البنك الدولي بتوجيه السياسات الاستثمارية على الصعيد الدولي ومراقبتها . في عام 1997 كان عدد الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي 181 دولة ( من أصل 185 عدد الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة ) أما بالنسبة لمجموعة البنك الدولي فهي تتكون من أربع مؤسسات مستقلة ، هي:
- البنك الدولي : وكان يسمى سابقاً البنك الدولي للإنشاء والتعمير ويبلغ عدد أعضائه حالياً 180 دولة.
- الوكالة الدولية للتعاون المالي : وقد تم إنشاؤها في عام 1956 ويبلغ عدد أعضائها 170 دولة.
- الوكالة الدولية للتنمية : تم إنشاؤها في عام 1959 ويبلغ عدد أعضائها 159 دولة.
- الوكالة الدولية لحماية الاستثمارات : وقد تم إنشاؤها في عام 1958 ويبلغ عدد أعضائها 134 دولة.
من العرض السابق يتضح البعد الدولي لكلتا المؤسستين سواء من حيث المهام أو من حيث العضوية ، شأنهما شأن أي من منظمات الأمم المتحدة المتخصصة الأخرى ( منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية ، أو الأغذية و الزراعة …).
رأس المال والكادر الوظيفي : في عام 1997 بلغ رأسمال صندوق النقد الدولي 206 بليون دولار أمريكي ، مع إمكانية اقتراض 48 بليون دولار أمريكي إضافية من 25 دولة عضواً حسب الاتفاقية الموقعة بين الصندوق وهذه الدول في عام 1997 ، كما بلغ رأسمال البنك الدولي 170 بليون دولار أمريكي في عام 1994. علماً بأن الأرقام السابقة تقريبية وترتبط بشكل وثيق بسعر تعادل وحدة السحب الخاصة ( الوحدات الحسابية في صندوق النقد الدولي ) بالنسبة للدولار الأمريكي ( في عام 1997 كان وسطي سعر التعادل حوالي 1,4 دولار أمريكي لكل وحدة سحب خاصة ).
يتكون رأسمال الصندوق والبنك من مساهمات الدول الأعضاء فيهما ، وهما في هذا المجال شبيهان بمؤسسة مالية دولية كبيرة متعددة الجنسيات بخلاف ما قد يتبادر للذهن من أن للصندوق والبنك جنسية واحدة أو عدداً محدداً من الجنسيات.
كما أن هوية الكادر الوظيفي العامل في كلتا المؤسستين يعكس ذلك التعدد في الجنسيات ، ففي أواسط التسعينات بلغ عدد العاملين في صندوق النقد الدولي نحو 2300 موظف وفي البنك الدولي قرابة 6338 موظفاً ينتمون إلى 123 دولة في العالم.
وقد يكون من الضروري الإشارة إلى أن العضوية في كلتا المؤسستين أو الإقراض منهما قضيتان اختياريتان ، فانضمام الدول إلى هاتين المؤسستين أو الاقتراض منهما هو قرار سيادي تتخذه الدولة المعنية وفق مصالحها الوطنية . أما عملية الاقتراض فترتبط بطبيعة الحال بشروط يتم التفاوض عليها بين الدولة المعنية وكل من الصندوق أو البنك ، كما هو الحال في العمليات المصرفية المشابهة حيث يتم الاتفاق على شروط التمويل بين المقرض والمقترض.
الوضع القانوني : صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يعتبران من جهة القانون الدولي من المنظمات التي تتمتع بوضع قانوني خاص في إطار هيئة الأمم المتحدة ( بخلاف ما يكتب ويقال أحياناً بأن لا علاقة للأمم المتحدة بكلتا المؤسستين ) .
وبقصد التوضيح نورد الآتي:
من الشائع عند الحديث عن الأمم المتحدة المطابقة بين مصطلحين : هيئة الأمم المتحدة UN ، ومنظمة الأمم المتحدة UNO . وعلى الرغم من أن المصطلحين غير متناقضين فأنهما غير متطابقين أيضاً . فهيئة الأمم المتحدة هي تلك الوكالة الدولية المتعددة الأطراف ، التي تم التوقيع على ميثاقها في 26/ 6/ 1945 في سان فرانسيسكو كما أشرنا سابقاً ، وتتكون :
- الأجهزة الرئيسية للهيئة ( جمعية عمومية ،مجلس أمن …. وغيرها).
- الأجهزة والبرامج المتخصصة التابعة لها ( برنامج الأمم المتحدة للبيئة ، البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة …. وغيرها ).
- المنظمات التي تتمتع بوضع قانوني خاص في إطار الهيئة ، ومنها : صندوق النقد الدولي ، مجموعة البنك الدولي ، منظمة التجارة العالمية ، منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية ( اليونيدو) ، منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ( الفاو) ، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( اليونسكو )… وغيرها.
أما منظمة الأمم المتحدة فهو مصطلح يشمل الأجهزة الرئيسية لهيئة الأمم المتحدة والأجهزة والبرامج المتخصصة التابعة لها ( أ + ب ) تأسيساً على ما سبق يمكن القول بأن كلتا المؤسستين الصندوق والبنك لا علاقة لهما بمنظمة الأمم المتحدة UNO إلا أنهما جزء من هيئة الأمم المتحدة UN شأنهما شأن اليونيدو ، والفاو ، واليونسكو …. وغيرهم ) ، خلافاً للرأي الشائع حول هذه القضية . هذا مع العلم بأن التنسيق بين المنظمات التي تتمتع بوضع قانوني خاص في إطار هيئة الأمم المتحدة يتم من خلال المجلس الاقتصادي والاجتماعي المكون من 54 دولة عضواً في الأمم المتحدة تنتخبهم جمعيتها العامة ( في كل دورة للجمعية العامة يتم انتخاب 18 دولة لمدة 3 سنوات ).
الأجهزة الرئيسية وآلية اتخاذ القرار : يعتبر مجلس الحكام ( وزير المالية أو حاكم المصرف المركزي بالنسبة لصندوق النقد الدولي ، أو وزير المالية أو الاقتصاد بالنسبة للبنك الدولي) ، ومجلس الإدارة المكون 24 مديراً تنفيذياً أهم أجهزة اتخاذ القرار في كلتا المؤسستين . تعكس تشكيلة مجلس الحكام الطابع الدولي للمؤسستين ، أما بنية مجلس الإدارة وآلية اتخاذ القرار فيهما فتعكس موازين القوى الاقتصادية السائدة على الساحة العالمية . فمن أصل 24 مديراً تنفيذياً في مجلس الإدارة هنالك 5 منهم تسميهم الدول التي تملك أكبر حصة في رأسمال الصندوق والبنك وكانت في أواسط التسعينات : الولايات المتحدة الأمريكية 18% ، ألمانيا واليابان ولكل منهما 6% ، وفرنسا وبريطانيا ولكل منهما 5% ( البيانات السابقة خاصة بالصندوق وهي تختلف قليلاً في حالة البنك ).
أما بالنسبة لآلية اتخاذ القرارات ، فلكل دولة عضو عدد من الأصوات مساو لنسبة مساهمتها في رأسمال كل من الصندوق والبنك . أغلب الظن أن الميزات التي احتفظت بها لنفسها الدول الصناعية الكبرى فيما يتعلق ببنية مجلس الإدارة وآلية اتخاذ القرار في كلتا المؤسستين وراء إطلاق صفة التغريب أو معادة مصالح الجنوب عليهما . لا شك بأن في ذلك بعض الصحة ، لكن ما هو صحيح أيضاً هو أن السبب في ذلك ليس الطبيعة الغربية للمؤسستين بل الخلل الكبير في موازين القوى السائد عالمياً . وهنالك فرق كبير بين أن تكون ظاهرة غربية بطبيعتها ، أو أن يتمكن الغرب من توظيفها بحكم الخلل في موازين القوى السائدة بينه وبين الجنوب في لحظة تاريخية معينة ، فالحالة الأولى تقتضي الخصومة الدائمة ، والحالة الثانية تفتح إمكانية المصالحة بإصلاح موازين القوى . فلو ساد منطق الحالة الأولى لوجب على الجنوب معاداة ما لا يحصى من مؤسسات ومنظمات النظام العالمي القديم والجديد . فمثلاً في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يملك الغرب المتقدم صناعياً ( ومعه اليابان ) ميزة تفضيلية تتناسب وحصته في رأس المال ، لكن في مجلس الأمن تتمتع ثلاث من أكبر الدول الغربية ( الولايات المتحدة الأمريكية ، وفرنسا ، وبريطانيا) بحق النقض ( أي حق الرفض وليس حق التفضيل فقط ) فهل يعني ذلك اعتبار مجلس الأمن أيضاً صناعة غربية ضارة بالجنوب معادية لمصالحه ينصح باجتنابها والابتعاد عنها ؟
جملة القول أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليسا مؤسستين غربيتين بل هما مؤسستان دوليتان تملك بعض الدول الغربية ميزة تفضيلية في الآلية المعتمدة – حالياً – لاتخاذ القرارات فيهما . وعلى الرغم من ذلك ، ربما كان من مقتضيات الضرورة اهتمام الجنوب بالبحث عن صيغة تصالحية للتعامل معهما ، فدورهما الحاكم فيما يتعلق بالسياسات النقدية والاستثمارية على المستوى الدولي وواقع الجنوب المحكوم بالأزمات يبرران ذلك الاهتمام مع التوضيح بأن التعامل المبرر بالضرورة – اليوم- قد يصبح تعاملاً مبرراً – بالرضى – في الغد ، إذ استطاع الجنوب تعديل موازين القوى السائدة عالمياً ( ولو بشكل جزئي ) لمصلحته.
فهل يعمل الجنوب لذلك ؟ وهل يستطيع ؟
الدكتور محمد توفيق سماق