ملحق صحيفة البعث – دمشق – سورية
العدد: 18 تاريخ 3/2004/ 1 |
قد تكون سنة التغيير الثابت الوحيد من بين سنن الحياة مما يقتضي مراجعة بعض المألوف من المقولات وفحص بعض المعتاد من المفاهيم .لذلك خصوصية وربما حساسية لأن عملية المراجعة تلك قد تصطدم بممانعة الألفة ومقاومة العادة ، لكن للضرورة مقتضياتها ومنها مقتضى التكيف مع سنة التغيير فخلاف ذلك يصنف نشاذاً في سياق العصر أو خروجاً على قوانينه ولكلا الخيارين أخطار ومخاطر يجدر تجنبها قدر الإمكان والابتعاد عنها قدر المستطاع .
تأسيساً على ماسبق أجد أن الوقت قد حان لأن نبادر لمراجعة بعض مقولاتنا الموروثة عن رواد البعث الأوائل أو من المنطلقات النظرية للحزب التي اقرّها المؤتمر القومي السادس في تشرين الأول من عام 1963 ( 10/1963 ) وتعتبر آخر وثيقة عقائدية في تاريخه ، من المقولات التي نعني الآتية :
الحزب الطليعي : وردت هذه المقولة في مقدمة المنطلقات النظرية ” إن الأمة العربية في مرحلتها هذه إنما تحتاج إلى حزب ، إلى حركة تمثل في الدرجة الأولى عنصر الروح والحياة لتشع منها فيما بعد على المجموع الأكبر …إنه حزب الطليعة الواعية المستوعبة للأوضاع ولسير التاريخ ، والمؤمنة بالتقدم وبحتميته “.
أما في دستور الحزب الذي أقرّه المؤتمر القومي التأسيسي الأول في عام 1947 فقد كانت اللغة مختلفة عن ذلك اختلافاً بيّناً حيث ورد في المادة الخامسة من المبادئ العامة “حزب البعث العربي الاشتراكي شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب وأنه وحده مصدر كل سلطة وقيادة 000 لذلك يعتمد الحزب في أداء رسالته على الشعب ويسعى للاتصال به اتصالاً وثيقاً ” .
أغلب الظن أن هذا التحول في الخطاب الحزبي من لغة التحالف (( الاتصال )) إلى لغة الوصاية ( أو الطليعة ) نشأ نتيجة لعاملين :
الأول هو الإنجاز الكبير الذي حققه البعث بوصوله إلى السلطة عبر ثورتين في العراق ( 8/2/1963 ) وفي سورية (8/3/1963) مما جعله أكثر ثقةً بالنفس وأكثر ميلاً للاقتناع بالسبق بالنسبة للحركات السياسية الأخرى المتواجدة في ساحة المنطقة العربية في فترة اشتد فيها التنافس العقائدي والصراع السياسي .
أما الأمر الثاني فهو تأثره بالفكر الماركسي اللينيني وذلك مقروءُ بوضوح في لغة ومضمون المنطلقات النظرية . لينين كان يرى انه لابد من التعجيل في مسيرة تاريخ تطور روسيا المتخلفة نسبياً ( خاصة من الناحية الصناعية ) عن طريق حزب طليعي يتكون من ثوريين محترفين يدركون رسالتهم التاريخية ويملكون الاستعداد لأن يكونوا الأدوات المنضبطة ذاتياً لتأدية هذه الرسالة . كان مفهوم لينين عن الحزب الطليعي جوابه على المأزق العقائدي الناجم عن عدم استعداد روسيا وطبقتها العمالية للقيام بثورة ماركسية ، فاكتشف في الحزب الطليعي المندوب السامي لإرادة التاريخ في التقدم إلى الأمام ؟
تأثّر بهذا المفهوم عن الحزب الطليعي العديد من الحركات السياسية في الدول النامية حيث قاموا باستنساخ الفهم والمفهوم مع بعض التعديلات أحياناً .
الآن وبصرف النظر عن التطور التاريخي لمقولة لينين يمكن للمرء أن يتساءل هل لازالت هذه المقولة صالحة لعصرنا الراهن ؟ في عصرنا يكثر الحديث عن العديد من الحقوق :
الحق في الديمقراطية – والمبادرة الفردية – والمعتقد – والتعبير … وغيرها حتى إن بعض القوى الفاعلة والمنظمات الدولية ومنها الأمم المتحدة تتحدث عن أولوية الحقوق على الحدود .
يبدو أن العصر يعتبر كل فردٍ في هذا العالم قد أضحى طليعةً بذاته ولذاته له الحق في الاختيار دون وصاية وواجب المؤسسات رسمية أو حزبية تمكينه من ممارسة هذا الحق الذي يعتبر جوهر الحرية وغاية الديمقراطية ، وكلتاهما ( الحرية والديمقراطية ) من اشهر مفردات العصر ومن ابرز عناوينه .
الصراع الطبقي : منذ البدايات أعلن رواد البعث الأوائل انحيازهم لجزء من المجتمع سموه الجماهير المحرومة ، فها هو ميشيل عفلق يقول في عام 1936 “إننا في دفاعنا عن الجماهير المحرومة لا نمنحهم صدقة بل نطلب لها حقاً .. ” ودستور الحزب يسمي هذا الجزء بالطبقات الكادحة ويقرر في المادة 42 أن ” التفاوت الطبقي نتيجة لوضع اجتماعي فاسد0 لذلك فالحزب يناضل في صف الطبقات الكادحة المضطهدة من المجتمع حتى يزول هذا التفاوت والتمايز …” أما المنطلقات النظرية للحزب فقد اتجهت لتكون اكثر وضوحاً وتحديداً حيث اعتبرت في مقدمتها ” أن مقاومة الاستعمار قد بلورت فكرة الصراع الطبقي ذي النوعية المتميزة في بلادنا ” ، لأن الطبقات البورجوازية والإقطاعية والبيروقراطية كانت عاجزة عن مقاومة الاستعمار وصيانة أرضنا وقوميتنا من الغزو الاستعماري كما أنها عجزت عن إقامة بناء جديد بديل لمؤسسات الإنتاج القديمة ينقذ الجماهير من الجوع والفقر . وفي سياق الحديث عن نضال الحزب ضد الإقطاع والاستغلال الرأسمالي تعلن المنطلقات النظرية في جزئها الأخير المعنون ” الاشتراكية – ملامح الطريق العربي إلى الاشتراكية ” أن :
“..الملكية الفردية إذا تعدت نطاق الاستعمال الشخصي لابد أن تكون مستغلة ، مهما كانت الرقعة التي تمارس فيها الملكية نشاطها ضيقة ، أو نسبة المردود الذي تعطيه منخفضة ” وهنا أيضاً نلمس بوضوح ليس فقط التأثر بالفكر الماركسي بل النسخ شبه التام لبعض مقولاته ومع الإقرار بوجود الطبقات واختلاف المصالح فذلك – على مايبدو – من طبائع الحياة وخصائص البشر ، لكن أليس هنالك إمكانية لتنافس المصالح بدلاً من تناحرها وتعايش الطبقات بدلاً من صراعها ؟
بصياغة أخرى هل يكون اعتبار التعايش الطبقي محركاً للحاضر والمستقبل عوضاً عن الصراع الطبقي الذي تعتبره الماركسية محركاً للتاريخ ؟
عالم اليوم يقول بإمكانية التعايش ويشجع على التنافس ، وفي الوقت نفسه يرفض صراع الطبقات ويدين تناحر المصالح . فهو يعتبر – على الأقل نظرياً – بني البشر ركاب سفينة واحدة لكل دوره في صيانتها وتوجيها ، وبالتالي يرفض صراع الطبقات باعتباره مرضاً من الناحية الإنسانية وهدراً لموارد البشر وطاقاتهم من الناحية المادية وتحريضاً على العنف والكراهية من الناحية الأخلاقية ، أما الملكية الخاصة وبصرف النظر عن غرضها ( سواء أكانت للاستعمال الشخصي أو وسيلة إنتاج ) فهي حق بالفطرة للبشر يجب صيانته والحفاظ عليه . وبالمقابل يتعاون الجميع ( مالكي وسائل الإنتاج ومالكي قوة العمل ) عن طريق الدولة لتقديم الممكن من الخدمات للجميع وتوفير حد مرضٍ من الأمان والرعاية الاجتماعية للطبقات والشرائح الأضعف في المجتمع على أن يمول ذلك كله من عوائد الثروة الاجتماعية بما فيها عوائد الملكية الخاصة ، حيث يتم ذلك بشكل أساسي عن طريق موارد الخزينة العامة من الضرائب والرسوم . من هذه المفاهيم وما شابهها نشأت في الغرب ما يعرف حالياً بدولة الرعاية الاجتماعية ، التي يمكن اعتبارها بديلاً للدولة التي تحدث عنها لينين في كتابه الشهير ” الدولة والثورة ” وعرفها على أنها أداة قمع في يد طبقة ضد طبقة أخرى . بالإضافة إلى ذلك نسأل : ألم يؤد التطور التكنولوجي الهائل في قوى الإنتاج ” تكنولوجيا الإنتاج الكبير والكثافة الرأسمالية العالية ” وما نتج عنه من تحولات عميقة في علاقات الإنتاج إلى اهتزاز وأحياناً إلغاء الحدود الفاصلة بين الطبقات ؟
فتوسيع قاعدة الملكية عن طريق انتشار الشركات المساهمة أدى إلى وجود أعداد كبيرة من صغار المساهمين في تلك الشركات ، فهل يعتبر هؤلاء بورجوازيون وبالتالي أعداء طبقيون ؟ كما أن الفصل بين المالكين والمديرين ( فالمالك لايدير والمدير لايملك في الغالب ) أدى إلى ظهور طبقة جديدة من المديرين ذوي الدخول السنوية المرتفعة (مئات آلاف أو ملايين الدولارات أحياناً ) فهل نعتبر هؤلاء المديرين من البروليتاريا وبالتالي حلفاء طبقيين في الصراع مع البورجوازية علماً انهم بالأصل من إنتاجها ومصالحهم ترتبط بمصالحها ؟
ومن الناحية العملية نجد أن حزب البعث يضم حالياً أفراداً من مختلف طبقات وشرائح المجتمع : ملاك وعمال ، أغنياء وفقراء ، ميسورين ومحرومين … فكيف لنا أن نوفق بين لغة الخطاب الطبقي للبعث وبنيته التنظيمية المتعددة الطبقات ؟ لاشك بأن إحداهما تحتاج إلى تغيير كي يتمكن الحزب من تدعيم توازنه التنظيمي وتعزيز مصداقيته العقائدية .
ربط النضال القومي بالنضال الاشتراكي : من أوضح الوثائق الحزبية التي تتضمن مفهوم هذا الربط ومبرراته المنطلقات النظرية ، وقد جاء فيها :
“لقد اصطدم النضال القومي العربي بالاستعمار باعتباره خالق التجزئة والحريص على بقائها وتكريسها … واصطدم النضال القومي العربي بالإقطاع ، كأسلوب إنتاج فات أوانه ، وكطبقة سياسية في آن واحد وباعتبار أن الطبقة الإقطاعية هي الطبقة العميلة بصورة مباشرة وصريحة للاستعمار 000 واصطدم النضال القومي العربي بالبورجوازية الوطنية ، نظراً لأن بورجوازية كل قطر قد نمت بشكل مستقل ومعزول عن بورجوازيات الأقطار الأخرى ، فحولت كل من البورجوازيات القطرية التناقضات بينها إلى تناقضات بين قطر وآخر … ”
بالربط وفق لغة التصنيف السابق أنتج الحزب جبهة خصوم ثلاثية الأطراف من الاستعمار والإقطاعية والبورجوازية مقابل جبهة أخرى يقودها مكونة من الطبقات الكادحة في المجتمع العربي والسؤال هنا هل تستقيم لغة المنطلقات تلك مع لغة العصر ؟ لغة العصر تتحدث عن العولمة باعتبارها الظاهرة التاريخية للقرن الحادي والعشرين كما كان حال القومية التي شكلت الظاهرة التاريخية للنصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين . من تداعيات هذا النهج التواصل الشامل بين شعوب العالم وأممه والتنامي المضطرد لنهج عالمية الأسواق ، مع تراجع موازٍ لمنطق الانعزال ونهج قومية الأسواق أو قطريتها .
مما دفع بالعديد من دول العالم وشعوبه للتكتل أو التجمّع (مناطق تجارة حرّة – شراكات بين دول وشعوب مختلفة – اتحادات كالاتحاد الأوروبي..) لتحسين موقعها في الساحة الدولية .
فإذا كان تواصلنا قطرياً وقومياً محكوماً – وفق لغة المنطلقات النظرية – بمنطق الصراع والمواجهة فكيف لنا أن نتواصل مع الآخر في هذا العالم ؟ ثم أي موقع سيكون لنا ومجتمعاتنا مقسّمة وطبقاتها متصارعة في عالم تنفلت أحياناً بعض قواه من عقالها فتبطش وتهيمن كيفما ترغب أو تشاء مدعومة بسطوة المصالح وحق القوة . على الأرجح أن استمرار ذلك الربط والإلحاح عليه سيحولنا جميعاً وحدويين أو قطريين ، اشتراكيين أو رأسماليين إلى ضحايا لهذا العصر وينقلنا من موقعنا الحالين على أطرافه ليضعنا على هامشه وربما أخرجنا نهائياً من ساحته . فالعالم محكوم عبر التاريخ بموازين القوّة وليس بموازين الأخلاق ، وقوة العرب تكمن في تعاونهم وتضامنهم مع الاعتراف بحقهم في الاختلاف على قاعدة لنتعاون فيما اتفقنا عليه وليحاور بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه .
إذاً فلنكن نحن البعثيون من أولئك الذين يملكون الجرأة على مراجعة المعتاد والمألوف ومراجعة أنفسهم … لأن الكثير يرتبط بذلك ويتوقف عليه 000 فهل نفعل ؟
الدكتور محمد توفيق سماق