صحيفة الثورة – دمشق – سورية
العدد : 12437 تاريخ 20/6/2004 |
مع تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار منظومة الدول الاشتراكية السابقة وانتصار نمط الحياة الليبرالي ودخول العديد من الحركات السياسية مرحلة المراجعة مع الذات ومقولاتها والواقع ومستحقاته برز على الصعيد العالمي الكثير من الأسئلة والتساؤلات حول صحة وراهنية العديد من الخيارات ، ومنها خيار الاشتراكية . في سورية لعب الخيار الاشتراكي دوراً محورياً في تطور البلاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في 8 آذار من عام 1963 . بالنسبة لنا في الحزب تجلت النزعة الاشتراكية في البدايات – منذ عصر المؤسسين – حيث يتضح ذلك في العديد من مواد الدستور ، ففي المادة الرابعة من المبادئ العامة نجد :
” حزب البعث العربي الاشتراكي – اشتراكي يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة منبعثة من صميم القومية العربية لأنها النظام الأمثل الذي يسمح للشعب العربي بتحقيق إمكاناته وتفتح عبقريته على أكمل وجه فتضمن للأمة العربية ، نمواً مضطرداً في إنتاجاتها المعنوية والمادية وتآخياً وثيقاً بين أفرادها ”
لكن الحزب لم يمتلك نظرية اشتراكية بل ترك للواقع والتطور التاريخي للأمة وللتجربة الإنسانية أن تعطي تأثيراتها ، فجاءت ممارسته الاشتراكية انتقائية تجريبية قابلة للتلخيص بالآتي :
- تبنت اشتراكية البعث بعض مقولات النظرية الماركسية دون الأخذ بها كلها . كما كانت اشتراكية قومية ، الأمر الذي ميزها عن الحركة الشيوعية العالمية التي تنفي القومية وتنكرها .
- اعتمد البعث على مقولة الحزب الطليعي الذي يمثل الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين وحرفيين ومثقفين وجنود . وأن هذا الحزب حزب طبقي يتناقض كلياً في مصالحه الطبقية والقومية مع الطبقة الإقطاعية والرأسمالية في الوطن العربي ، ومعهم الذي يتمسكون بالتجزئة في الداخل والخارج .
- ربط الحزب بين تحرر الأمة العربية وتحرر الإنسانية كلها من الظلم والاستغلال .
- اعتمد الحزب على التأميم والإصلاح الزراعي وعلى الملكية العامة لوسائل الإنتاج من خلال مشاريع الدولة ، لإحداث تحولات سريعة وعميقة ( سياسية واقتصادية واجتماعية ) بتوجيه الدولة وتدخلها بهدف صياغة مجتمع أكثر غنى وأكثر عدلاً .
استطاعت سلطة الحزب في سورية بنهجها الاشتراكي أن تحقق العديد من الإنجازات لصالح الطبقات والشرائح الأفقر في المجتمع ، فحركة التعليم النشطة ، وتوسع خدمات الصحة العامة ، وكهربة الريف والمدن ، ودخول البلاد في نشاطات صناعية عديدة وجديدة لم تكن معروفة سابقاً ، وتحقيق فائض إنتاجي في العديد من السلع الزراعية الرئيسية ، ومشاريع الري والمرافئ والمطارات ، ومناخ الأمن والاستقرار …ذلك وغيره شواهد إثبات على تلك الإنجازات . وبالرغم من هذا فإن الموضوعية والضرورة يقتضيان الإقرار بأن لتجربتنا عيوبها العديدة والخطيرة ، منها : البيروقراطية والجمود في إدارة الاقتصاد الوطني والتخطيط المركزي والنظرة لقوى الإنتاج . ساهم ذلك في سوء الإدارة ، وانتشار البطالة ، وانخفاض الأجور واتساع دائرة الفساد بشكليه الإداري والمالي وكبح المبادرة وخنق الإبداع . أما على صعيد علاقاتنا الاقتصادية الدولية ، فقد اتسمت هذه العلاقات بالانتقائية والتردد في أغلب الأحيان مما أضاع فرصاً عديدة كان يمكن أن توظف لمصلحة اقتصادنا خاصة في مجالي نقل التكنولوجيا وجذب التدفقات الاستثمارية الأجنبية كما زاد من شكوك الآخرين في مصداقية سعينا للتكيف مع التوجهات المعاصرة للاقتصاد العالمي .
ذلك كله -وغيره – أدى إلى تدني أداء الاقتصاد الوطني في سورية مع تراجع مستويات عدالة توزيع الدخل ، وبالمحصلة أوصلنا إلى ما نشهده اليوم من انكفاء الجماهير عن الحماس للاشتراكية باعتبارها المظهر السيء لكل تلك العيوب .
تأسيساً على ما سبق نسأل هل لا زالت الاشتراكية مطلباً ؟ أم أنها خيار فات أوانه ومقولة عصرٍ انقضى زمانه ؟
أغلب الظن أن الاشتراكية كنظام طبقي هي خيار فات أوانه ومقولة عصر انقضى زمانه،أما الاشتراكية كنظام وفرة وعدالة ( أي وفرة في الإنتاج وعدالة في التوزيع ) فلا زالت اليوم كما كانت بالأمس حاجة ومطلباً . فأحزاب التوجه الاشتراكي كحزب العمال في بريطانيا والديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا تتولى السلطة في تلك الدول منذ سنوات عديدة ( نحو دورتين انتخابيتين متلاحقتين ) وفي فرنسا يتناوب الاشتراكيون والديفوليون على الحكم بشكل شبه دوري منذ عقود عديدة . ومن الناحية التاريخية ظل العدل الاجتماعي مطلباً إنسانياً منذ الأزل ، منذ انقسمت المجتمعات بين سادة وعبيد ، وبين إقطاعيين وفلاحين ، وبين مالكين وعمال ، أي بين مستغِل لجهد ومستغَل لا يملك غير جهده لكسب عيشه . وقد جاءت الأديان السماوية وكتابات المصلحين والفلاسفة تدعو إلى العدل والمساواة ، كما عاشت البشرية تاريخ حافل بالثورات والصراعات محوره مطلب العدل ونداء المساواة وكلاهما يشكلان هدف الاشتراكية وغايتها ، لكن أي اشتراكية تلك التي تستطيع الاستجابة لمطلب العدل ونداء المساواة ؟
أوضحت التجربة التاريخية لعقود عديدة خلت بأن الاشتراكية بوسائل غير ديمقراطية اقترنت بقمع سياسي تحت عناوين طبقية استخدمته الطبقة المسيطرة في المجتمع تجاه خصومها في البداية و انتهت إلى استخدامه ضد بعض أطرافها نفسها في أحيان كثيرة. مما حول المجتمعات إلى ساحات لصراع دائم لا ينتهي بين الطبقة و خصومها أو بين الأطراف المتناقضة ضمن الطبقة الواحدة، و كان ذلك كله على حساب المجتمع بموارده و شرائحه و طبقاته. في مناخ الصراع هذا جنحت الغالبية من أفراد المجتمع إلى البحث عن الأمان بتحييد نفسها عن مواضيع الصراع و آلياته حيث انتشرت السلبية و ساد عدم اليقين فتعثرت التنمية و تدنت مستويات العدالة. ففي منظومة الدول الاشتراكية السابقة ساهم انتشار ظاهرة السلبية في المجتمع و حالة عدم اليقين لدى الأفراد بدخول تلك الدول عصراً من الركود لم تستفق منه إلا على هدير زلزال هز العالم و أسقط المنظومة، و بسقوطها سقطت مقولات كانت تعتبر لعقود طويلة من ثوابت الحياة و اهتزت مفاهيم كانت تعتبر فوق الشك أو الشبهات.
و على الطرف الآخر دلت التجربة التاريخية – خاصة في دول الشمال- على أن الديمقراطية بدون عدالة اجتماعية اقترنت بقمع طبقي تحت عنوان الحرية، حرية استخدمتها الطبقات و الشرائح الأقوى في المجتمع لزيادة غناها و تراكم ثرواتها على حساب الطبقات و الشرائح الأضعف مما قسمها ( المجتمعات ) إلى طبقتين أقلية مترفــة
و أكثرية محرومة و أدخلها في سلسلة من الأزمات و الصراعات. لكن بخلاف دول القمع السياسي التي كان الانهيار مخرجها من أزماتها، وفر مناخ الحرية السائد في دول الشمال بآليات التصحيح الذاتي التي يحتويها ( تأثير الإعلام- دور الرأي العام- إمكانية تداول السلطة سلمياً … ) درجة كبيرة من الحيوية لها ( الدول ) مكنتها من تجاوز أزماتها المتعاقبة و أوصلتها إلى حالة من التعايش بين مختلف الطبقات و الشرائح الاجتماعية قائمة على صيغة من التعاقد المرن بين المترفين و المحرومين. حققت هذه الصيغة حداً مقبولاً من التوازن و الاستقرار أدخلت تلك الدول مرحلة متقدمة من الغنى و الوفرة، بحيث أصبحت الآن نموذجاً ملهماً ( بالرغم من نواقصه ) للكثير من مجتمعات العالم الأخرى و دوله. في صيغة التعاقد تلك نجد الكثير من الملامح التي نادى بها الفكر الاشتراكي في مجال تقاسم الثروة و تقاسم السلطة. فتوزيع العبء و المنفعة يتم وفق أسس و ضوابط تضعها و تكفل تنفيذها سلطات الدولة الثلاث ( التشريعية و التنفيذية و القضائية ) كل بحسب اختصاصه، و هذه بدورها تستمد شرعيتها من المجتمع و خياراته عن طريق صناديق الاقتراع مما يعتبر في بعض جوانبه تطبيقاً عملياً لما نادى به الفكر الاشتراكي من تحرير الإنسان من الاستغلال المادي و القهر المعنوي. إن احتكار السلطة و مصادرة الثروة من قبل طبقة أو شريحة اجتماعية يؤدي إلى استعداء الطبقات و الشرائح الأخرى المحرومة من الســلطة و الثروة في المجتمع. فالشعور بالحرمان مولد الإحساس بالظلم و هذا بدوره تربة خصبة لنمو النقمـة و إنضاج العداء، مما يحرم التنمية من إمكانيات و جهود طبقـات و شرائح اجتماعية عديدة، إما لأنها غير قادرة على المشاركة أو غير راغبة فيها، و يحرم المجتمع من عوائــد و موارد يحتاجها. بالمحصلة نجد أن ما يتوفر للدولة من مـوارد قليـل و محدود و بالتالي ما تستطيع توزيعه هو مزيج من الحاجة و الفقر و إن نادت بالاشتراكية و ألحّت على العدالة، فمن لا يملك لا يستطيع أن يوزع. لذلك كانت الديمقراطية شرطاً ضرورياً لنجاح الاشتراكية في تحقيق أهدافها ، فالديمقراطية تطلق الطاقات المكبوتة أو المعزولة في المجتمع وتوفر فرص المشاركة لجميع الطبقات والشرائح الاجتماعية مما يهيئ قوة الدفع والموارد الضرورية لبناء مجتمع الوفرة والعدالة أي المجتمع الاشتراكي . الطريق الاشتراكي الديمقراطي يسعى لإقامة نظام اجتماعي يتيح لجميع المواطنين دوراً مؤثراً في تطور المجتمع ، وهو يسعى إلى نظام اقتصادي يملك فيه كل فرد بصفته مواطناً وعاملاً ومنتجاً ومستهلكاً القدرة على التأثير في أهداف الإنتاج وعدالة توزيع عوائده . غاية الاشتراكية الديمقراطية هي إيجاد مجتمع لا تمييز فيه في فرص الارتقاء والتطور الاجتماعي على أساس الطبقة أو الجنس أو الدين أو العرق ، الأساس في ذلك المجتمع هو المواطنة والانتماء إلى الأرض والثقافة والتاريخ المشترك والأمل الواحد . مجتمع بلا أحكام مسبقة وتفرقة – كل أفراده مرغوب فيهم – ولكل منهم متسع ومكان ، مجتمع يسوده التعاون وتتمتع فيه الأجيال في الخدمة التعليمية والصحية لكي يكونوا الجيل الجديد الذي يتوارث الخبرة المكتسبة ويطورها وينعم بالمنافع المشتركة .ليس معنى ذلك أن المجتمع سيكون خالياً من التناقضات ، فالتناقض أمر طبيعي في نظرية التطور ، لكن المجتمع الاشتراكي الديمقراطي يمكنه المحافظة على توازنه من خلال توفير فرص المشاركة العادلة في السلطة والثروة للجميع .
جملة القول إن الاشتراكية مطلوبة بمقدار ما هي ديمقراطية … بغياب الديمقراطية تتحول إلى صيحة بلا صدى وقصيدة بلا جمهور .
الدكتور محمد توفيق سماق