دول الجنوب بعد نصف قرن من التنمية ماذا حققت وإلى أين وصلت ؟ المقال رقم /31/

صحيفة البيان – الإمارات العربية      

العدد :5481 –   تاريخ: 21/6/1995

ارتبط تاريخ التنمية في دول الجنوب بشكل أساسي بمرحلة ما بعد الحر بالعالمية الثانية . كان من أبرز نتائج تلك الحرب انتهاء ما كان يسمى بعصر الهيمنة البريطانية الفرنسية أو ما سمي في بعض الأدبيات السياسية بعصر السلام البريطاني والذي بدأ مع هزيمة نابليون في معركة واترلو ومع إعلان مقررات مؤتمر فيينا عام 1815 . مع انهيار النظام العالمي القديم بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية وبداية تشكل نظام عالمي جديد ثنائي القطبية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي السابق اجتاح مناطق مستعمرات النظام القديم في آسيا ، إفريقيا ، أمريكا اللاتينية موجة من التحرر السياسي أدت إلى انحسار الاستعمار القديم وحصول عدد كبير من المستعمرات على استقلالها ففي الفترة 1945 – 1965 حصلت أكثر من 50 مستعمرة سابقة على استقلالها في آسيا ، إفريقيا، وأمريكا اللاتينية .

مع تحرر المستعمرات القديمة وتشكل الدول الحديثة العهد بالاستقلال على أنقاضها نشأ ما أصبح يعرف فيما بعد بالعالم الثالث أو العالم النامي . ومع التحولات العالمية الأخيرة وسقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار النظم السياسية والاقتصادية في المنظومة التي ارتبطت به منذ الحرب العالمية الثانية أضحى مصطلح دول الجنوب أو عالم الجنوب أكثر المصطلحات شيوعاً في الفترة الراهنة للتمييز بين الدول السائرة على طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومجموعة دول الشمال أو الدول الصناعية المتطورة اقتصادياً واجتماعياً.

وباختصار فإن مصطلحات العالم الثالث ، الدول النامية ، أو دول الجنوب تعني في الجوهر الشيء نفسه وتستخدم لتوصيف مجموعة من الدول يبلغ عددها حالياً حوالي 120 دولة ويعيش فيها نحو 80 % من سكان العالم وتساهم بحوالي 20 % من الدخل العالمي ( مستوى أوائل التسعينات ).بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية عصر التحرر من الاستعمار ونشوء الدول الوطنية في الجنوب أدرك العديد من القادة المستنيرين في دول الجنوب ومفكريها بأن الاستقلال السياسي الحديث العهد سيبقى هشاً منقوصاً إذا لم يعزز ويدعم بتنمية حقيقية  في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية .

ولعل خير ما يعبر عن تصور الجنوب حول الربط بين مقولتي تعزيز الاستقلال السياسي ونجاحات التنمية ذلك الخطاب الشهير الذي ألقاه أحد أبرز قادة الجنوب في حينه جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند الأسبق في اجتماع اللجنة السياسية لمؤتمر باندونج ( المؤتمر الذي أعلن فيه تأسيس حركة عدم الانحياز ) في عام 1955 . بعد أن يتحدث نهرو عن مستقبل الدول الحديثة العهد بالاستقلال خاصة في آسيا وأفريقيا منبهاً إلى أنه على الرغم من الاستقلال السياسي الذي أعطي أو سيعطى للمستعمرات الباقية منها ، من قبل قوى السيطرة الاستعمارية التقليدية فإن هذه القوى ستستمر في إحكام سيطرتها على المستعمرات السابقة التي تحولت أو ستتحول إلى دول لكن بصيغ وأشكال جديدة ( اقتصادية ، علمية ، تكنولوجية ..) يصل في ختام كلمته تلك إلى القول مخاطباً قادة العالم الثالث المجتمعين في باندونج:”… إنني لا أقصد أن أزرع اليأس في قلوبكم ولكنني أريدكم أن تأخذوا قضية الاستقلال جداً إنكم – أو بعضكم – على بابه فعلاً ولكن جواز الدخول إليه ليس بقصاصات الورق التي ستوقعونها مع مستعمريكم القدامى . جواز مروركم إليه أن تكونوا جادين تستشعروا إن كلمة الاستقلال وكلمة الحرية ليست تعبيرات فرح وإنما هي أثقال مسؤولية ، مسؤولية مخيفة. هذا ما أريدكم أن تفهموه إن السيطرة الجديدة لن تكون بالجيوش ولكن بالتقدم ، التقدم هو وسيلة السيطرة الجديدة . أنتم متقدمون إذاً فأنتم سادة ، أنتم متخلفون إذاً فأنتم مقهورون مهما وقعتم من قصاصات ورق ومهما رفعتم من قصاصات قماش سميتوها أعلاماً. سوف تأخذكم جميعاً حمى التنمية وسوف نتكلم عنها ونملئ الدنيا كلاماً ، لكن هنالك سبيلاً واحداً إلى التنمية  وهو العلم . فماذا لدينا منه ؟

أخشى أننا سوف نجد مصائر التنمية عندنا في أيدي بيروقراطيات متعفنة في بعض البلدان وعاجزه             في بعضها الآخر”.

*    *    *

انطلاقاً من الفهم السابق لأهمية التنمية وضروراتها بدأت دول الجنوب في مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي تحث الخطى بصيغ مختلفة وسرعات متعددة إلى طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية . بعضها استلهم نموذج التطور الغربي المعتمد أساساً على اقتصاد السوق والآخر أراد محاكاة النموذج الاشتراكي القائم على الاقتصاد المخطط مركزياً والغالبية منها سارت وفق نموذج تنموي يمكن اعتباره مزيجاً بين الاثنين ( الرأسمالي والاشتراكي ) سماه البعض طريق التطور اللارأسمالي وسمي من قبل البعض الآخر بنموذج التنمية المستقلة. وكان التصنيع في مختلف النماذج السابقة المحور الأساسي لجهود عالم الجنوب التنموية ، حيث ارتبط في أذهان الكثيرين من صانعي القرار والمفكرين في الدول النامية بأن التخلف يكمن في  الطابع الزراعي لاقتصاديات بلدانهم ، وبالتالي فحل مشكلة التخلف وكسر قيود التبعية الجديدة لقوى الاستعمار القديم يعتمد أساساً على التصنيع وبأسرع الوتائر الممكنة.

فماذا حققت دول الجنوب وإلى أين وصلت بعد نصف قرن من التنمية ؟

في سياق الإجابة على هذا السؤال سنعرض بعض المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية :

  • الصناعة : تطور نصيب دول الجنوب في الإنتاج الصناعي العالمي على النحو التالي :

1960      6%

1965      7%

1970      7,5%

1992      18% منها 10 % نصيب الدول الحديثة التصنيع في شرق وجنوب شرق آسيا و 6% نصيب دول أمريكا اللاتينية .

وبالنسبة للدول العربية فهي تساهم مجتمعة حسب تقديرات الجامعة العربية بنحو 0,5 % في الإنتاج الصناعي العالمي ( أوائل التسعينات )  .

  • الصادرات : بلغت مساهمة دول الجنوب في الصادرات العالمية عام 1992 حوالي 24,6 % ( معظمها مساهمة دول شرق وجنوب شرق آسيا الحديثة والكثيفة التصنيع ). أما الدول العربية فقد بلغت مساهمتها في التجارة العالمية حوالي 3 % أوائل التسعينات ( بما في ذلك النفط ).
  • الدخل العالمي: تضاعف الدخل العالمي ( الناتج المحلي الإجمالي العالمي ) خلال           الخمسين سنة الماضية ( أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ) بما يزيد على سبع مرات         ( من 3005 بليون دولار أمريكي إلى نحو 22000 بليون دولار ) وازداد عدد سكان العالم أكثر من الضعف خلال نفس الفترة ( من 2,5 بليون إلى 5,5 بليون نسمة ) وتبعاً لذلك فقد ازداد متوسط الدخل السنوي للفرد على صعيد العالم بأكثر من ثلاث مرات .

على الرغم من أن هذا التطور قد شمل العالم كافةً إلا أن البيانات الإحصائية تشير إلى ازدياد الفجوة بين الشمال والجنوب بدرجة كبيرة . فخلال الفترة ( 1960 – 1990 ) ارتفع نصيب أغنى 20 % من سكان العالم من 70% إلى 85% من الدخل العالمي كما انخفض نصيب أفقر 20% من 2,3 % إلى 1,4 % من ذلك الدخل . فيما يتعلق بالدول العربية فقد بلغ نصيبها في عام 1992 حوالي 2% من الدخل العالمي.

  • المديونية:ازدادت مديونية الدول النامية بشكل كبير خلال عقدي السبعينات والثمانينات ، إذ أن معظم هذه الدول قد اعتمدت على الاقتراض الخارجي لتمويل خططها التنموية الطموحة والغير فعالة أحياناً ، فقد ازداد الدين الخارجي الرسمي للدول النامية من 882 بليون دولار (عام 1982) إلى 1812 بليون دولار نهاية عام 1993 حسب تقديرات البنك الدولي ويتوقع خبراء البنك أن يصل هذا الرقم إلى حوالي 1945 بليون دولار مع نهاية عام 1994 . أما بالنسبة لديون الدول العربية فقد قدرها البنك الدولي بحوالي 153,5 بليون دولار مع نهاية عام 1994.
  • الغذاء : تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن لدى دول العالم ما يكفي حالياً لتزويد كل شخص بحوالي 2500 سعر حراري يومياً ( الحد الأدنى المطلوب 2000 سعر حراري) ومع ذلك فهنالك حوالي 800 مليون شخص في الجنوب أي حوالي 20% من سكانه ( منهم 240 مليون في إفريقيا جنوب الصحراء ) يعيشون في حالة جوع أي أنهم يحصلون على أقل من 2000 سعر حراري يومياً.
  • مستوى الحياة : يشير بعض خبراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى أن الدول النامية قد حققت عدداً من الإنجازات التنموية خلال الخمس والعشرين عاماً الماضية :
  • تضاعف متوسط الدخل السنوي خلال السنوات 1982 – 1992 في البلدان  المنخفضة الدخل.
  • ارتفع متوسط العمر المتوقع عند الولادة بنحو 10 سنوات.
  • انخفضت معدلات وفيات الأطفال إلى النصف تقريباً.

وبالرغم من تلك الإنجازات وغيرها فإن نفس المصدر يشير إلى أنه في بعض دول الجنوب قد تراجع مستوى الحياة عما كان عليه في فترات سابقة :

  • فمتوسط دخل الفرد السنوي قد انخفض في 36 بلداً نامياً خلال الفترة 1982 – 1992.
  • من إجمالي الــ 36 بلداً يقع 19 بلداً في إفريقيا ، في هذه البلدان انخفض مستوى دخل الفرد لأقل مما كان عليه أواسط الستينات ، وبشكل عام يقول التقرير بأن 50 % من سكان إفريقيا و25 % من سكان أمريكا اللاتينية و5 % من سكان آسيا يعيشون في مستوى حياة أسوأ مما كان عليه متوفراً لهم أواسط الستينات.

*       *     *

تأسيساً على كل ما تقدم يمكن الاستنتاج بأنه على الرغم من الإدراك المبكر لأهمية التنمية والمحاولات التي بذلتها دول الجنوب وبعض الإنجازات التي حققتها إلا أن النتائج لم تكن كما أريد لها أن تكون ولا زالت الطموحات   بعيدة المنال كما أن الفجوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير قد اتسعت وتبعية دول الجنوب لسادة الأمس   قد تعمقت ، فبعض الأدبيات الاقتصادية والسياسية تتحدث اليوم عن الاعتماد المتبادل بين الشمال والجنوب بدل تبعية الجنوب إلى الشمال إلا أن هذا التغيير تناول الاسم دون أن يعني تغييراً أساسياً في الجوهر.

ربما كان من بين الأسباب لكل ذلك صحة ما تضمنته نبوءة نهرو في عام 1955 عندما قال أمام اللجنة السياسية لمؤتمر باندونج :” أخشى أننا سوف نجد مصائر التنمية عندنا في أيدي بيروقراطيات متعفنة في بعض البلدان وعاجزة في بعضها الآخر ” .

 

 

الدكتور محمد توفيق سماق