عالمية بوش وأممية ماركس ـــ المقال رقم /29/

صحيفة البيان – الإمارات العربية      

العدد :5384 –   تاريخ: 16/3/1995

منذ أن أطلق الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مقولته الشهيرة حول إنشاء النظام العالمي الجديد في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي في 6/3/1993 غداة انتهاء حرب الخليج الثانية والعالم يحث الخطى على طريق وضع أسس النظام الجديد وإقامة مؤسساته ، ولعل أبرز سمات هذا النظام هو ما اصطلح على تسميته في الأدبيات السياسية والاقتصادية بالعالمية ، أي إخضاع عملية اختيار التوجهات وصنع السياسات العامة المتعلقة بحركة المجتمعات البشرية إلى إرادة دولية واحدة وسلطة عالمية مركزية هي سلطة النظام الموعود ومؤسساته .

السياسات المتعلقة بالأمن – التسلح – حقوق الإنسان – البيئة – الاستثمار – النقد والتجارة باشر النظام العالمي الجديد بالإشراف عليها وتوجيهها من خلال مؤسسات عالمية خاصة به ومؤتمرات دولية نوعية عقدت ضمن إطار الأمم المتحدة ، ومسيرة العالمية مستمرة .  ففي هذا العام سيعقد مؤتمرين دوليين آخرين واحد للتنمية الاجتماعية في مارس الحالي ( كوبنهاجن – الدانمرك ) والآخر لقضايا المرأة ومشكلاتها في سبتمبر المقبل ( بكين – الصين الشعبية ) ويتضح من جدول أعمال كلا المؤتمرين بأن الغاية الأساسية من انعقادهما تكمن في نقل السياسات العامة المتعلقة بقضايا التنمية الاجتماعية والمرأة إلى الصعيد العالمي وإخضاعها لولاية النظام الجديد ، وبشكل عام يمكن الحديث حالياً عن حركة عالمية حقيقية أو تنظيم عالمي فعال بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية يمتلك كل رموز الحركات والتنظيمات من مؤتمرات ومؤسسات وكوادر متخصصة وبرامج عمل وغير ذلك هدفها المركزي قابل للاستقراء والتلخيص بإعادة هندسة العالم على أسس جديدة ووفق صيغ غير مسبوقة.

وعلى الرغم من سمة الجديد أو التجديد التي ارتبطت بمحاولة إقامة النظام العالمي وبمؤسساته وآلياته وبرامجه إلا أن التدقيق في منحى حركة النظام وسماته توحي بالعديد من جوانب التشابه مع محاولات عالمية سابقة عرفتها البشرية لعل أبرزها وأقربها إلى الذاكرة هي تلك الدعوة الأممية التي أطلقها        كارل ماركس منذ حوالي قرن ونصف ولخصها بمقولته الشهيرة في خاتمة البيان الشيوعي                         ” يا عمال العالم اتحدوا “.

ومنذ أن أطلق ماركس هذا النداء مرت الدعوة الأممية الماركسية بمراحل مختلفة وأطوار متعددة فكانت الأممية الأولى التي عقد مؤتمرها التأسيسي في لندن عام 1864 وانتهت بسقوط كومونة باريس ثم الأممية الثانية التي عقد مؤتمرها التأسيسي في باريس عام 1889 وسميت فيما بعد بأممية برن ( نسبة إلى مقر لجنتها التنفيذية في مدينة برن السويسرية ) وكان من أبرز ما صدر عنها وبقي حياً يعمل به حتى الآن اعتبار الأول من مايو كيوم عالمي لتكريم جهود الطبقة العاملة وتضحياتها وانتهت مع الخلافات الحادة التي نشأت بين أجنحتها المتعددة بشأن الموقف من الحرب العالمية الأولى .

وبعد ثورة أكتوبر في روسيا ووصول البلاشفة إلى السلطة عادت الدعوة الأممية إلى الحياة مرة أخرى أكثر نشاطاً وأشد حماساً بتأثير الانتصار الذي حققته الثورة ودفع قوي من زعيمها لينين تحت اسم الأممية الثالثة أو ( الأممية الشيوعية) حيث عقدت سبع مؤتمرات عالمية كان أولها في موسكو6/3/1919  – 2 وآخرها المؤتمر السابع في موسكو أيضاً الذي استمر من 25/7 إلى  20 /8/ 1935.

وكما حلت الأمميتين الأولى والثانية كذلك حلت نفسها الأممية الثالثة بقرار من رئاسة لجنتها التنفيذية اتخذته بتاريخ 15/5/1943 وقد أعلنت رئاسة اللجنة التنفيذية للأممية الثالثة قرار الحل مع التبرير التالي:

” إن التنويع الواسع النطاق في مشاكل العالم والتباين الشديد في ظروف مناطقه المختلفة يجعل من وجود مركز عالمي واحد لإدارة شؤون الأممية عامل معيق لتطورها ونجاحها ” أي أن الأممية الثالثة حلت نفسها لأنها لم تستطع أن تبدل أو تطوع حقائق الحياة من تنوع واختلاف .

بعد هذه اللمحة التاريخية عن أممية ماركس ولينين بداية ونهاية نعود لنسأل : أليس هنالك من أوجه شبه بين بعض فصول الروايتين الأممية التي انتقلت إلى متاحف التاريخ والعالمية التي عرفنا منها بيانها الأول على لسان الرئيس بوش وتتوالى كتابة فصولها الآن واحداً بعد الآخر ؟ يبدو أن أوجه الشبه عديدة منها:

  • النظام الجديد يعد بإنشاء عالم جديد ركناه الأساسيين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية ، وطبيعي أن تكون الحرية المقصودة هنا كما يفهمها الغرب باعتباره مصمم النظام وعرابه ، ونظام هذه هي أركانه لا بد من أن يتولى قيادته ثنائي القوة والثروة العالميتين ( أي الغرب).

أليس ذلك شبيه بالعالم الذي وعدت به الأممية الثالثة في مؤتمرها الرابع عام 1922 ، ذلك الوعد الذي لخصه شعار المؤتمر من أجل حكومة عالمية من العمال والفلاحين ، العالمية قاسم مشترك بين كلا الوعدين والخلاف يكمن في نوع القيادة وطبيعتها ، النظام الجديد يقوده ثنائي القوة والثروة العالميتين أما حكومة العالم الأممية فكان مقدراً لها أن تقاد من تحالف آخر هو تحالف العمال والفلاحين أو كما يوصف أحياناً ثنائي الثورة والعدل العالميين.

  • البيان الافتتاحي الذي أعلن فيه الرئيس بوش ولادة النظام الجديد بشر العالم أيضاً بعصر جديد قادم هو عصر السلام والديمقراطية وطالب شعوب العالم ودوله بالعمل الجاد على إرساء دعائمه وإشادة بنيانه . كذلك كان حال الأممية الثالثة في مؤتمرها السابع 1935 حيث بشرت العالم أيضاً بأنها صممت استراتيجية ووضعت تكتيكاً مناسباً لتحقيقها بهدف صنع عصر عالمي جديد سماته الديمقراطية والسلام ( ومع ذلك اندلعت الحرب العالمية الثانية بعد حوالي أربع سنوات من هذا الإعلان الأممي ).
  • النظام الجديد يعد شعوب العالم بعصر من التنمية المستدامة ( التنمية التي تخدم الجيل الحالي والأجيال القادمة ) والرفاه الاجتماعي ، على أن يتم تحقيق ذلك بشكل تدريجي وعن طريق التعاون بين شعوب العالم ودوله مع تكليف الأمم المتحدة بالإشراف على نموذج التعاون الدولي الجديد والوفاء بالالتزامات المطلوبة ولعل خير ما يعبر عن الطريقة التي يراد بها تحقيق نموذج التنمية والرفاه الموعودين هو الميثاق الاجتماعي المقترح للقمة العالمية الاجتماعية في مارس الحالي ، حيث يتألف مشروع الميثاق من عشرة فقرات مركزة وقصيرة تبدأ كل منها  بــ ” نحن شعوب العالم ” ولإعطاء فكرة عن هذا الميثاق سنسوق الفقرة الأولى والأخيرة منه   كما وردت في النص الأصلي:

ففي الفقرة الأولى يقول الميثاق :” نحن شعوب العالم ، نتعهد رسمياً بأن نبني مجتمعاً مدنياً عالمياً جديداً قائماً على مبادئ المساواة في الفرص ، وسيادة القانون والحكم الديمقراطي العالمي وشراكة جديدة بين جميع الأمم وجميع الناس ” .

وفي الفقرة العاشرة والأخيرة: ” ونحن نؤمن إيماناً قوياً بأن الأمم المتحدة يجب أن تصبح القيمة الأساسية على أمننا البشري العالمي ، ولبلوغ هذه الغاية نحن عاقدوا العزم على تعزيز دور الأمم المتحدة الإنمائي وتخويلها سلطات واسعة فيما يتعلق بصنع القرارات في الميدان الاجتماعي والاقتصادي عن طريق إنشاء مجلس للأمن الاقتصادي ” .

أما الأممية فقد وعدت البشرية أيضاً بشيء مشابه وربما كان أكثر ، عندما التزمت بالنضال من أجل إقامة المجتمع الشيوعي الذي يتحول فيه العمل من ضرورة إلى رغبة ومع ذلك فهو قادر بوفرته وغناه على إشباع حاجات البشر ورغباتهم ، ولعل خير ما يصف خصائص المجتمع الشيوعي الذي وعدت به الأممية تلك المقولة الماركسية الشهيرة ” من كل حسب استطاعته ولكل حسب حاجته”.

  • النظام الجديد كما هو واضح من ملامحه وسماته يقوم على تعزيز دور السلطة العالمية ومؤسساتها مع انحسار مرافق لدور الدولة المحلية ومؤسساتها. حتى أن بعض مناصري النظام الجديد ومفكريه يدعون بوضوح إلى إيجاد حكومة عالمية تتولى تصريف شؤون العالم ومعالجة قضاياه ومن بينها توزيع الدخل العالمي على أمم الأرض وشعوبها بشكل عادل ومنصف ، فجان تبرغن الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد عام 1969 ضمن تقرير التنمية البشرية لعام 1994 الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة يوجه ما يشبه الرسالة إلى شعوب العالم بعنوان  ” حكم عالمي من أجل القرن الحادي والعشرين ” يقول في مقدمة رسالته لم تعد مشاكل البشرية من الممكن أن تحلها الحكومات الوطنية فما يلزم هو حكومة عالمية  .

لينين وعد العالم بشيء مشابه في كتيبه الذي ذاع صيطه لفترة طويلة من الزمن” الدولة والثورة ” وعد بموت الدولة على المستوى المحلي والعالمي أيضاً بعد الانتصار الحاسم والنهائي للشيوعية والاستعاضة عنها بما يشبه المنظمة العالمية التي تشرف على تصريف شؤون العالم ومعالجة قضاياه دون قمع أو إكراه.

تلك كانت بعض سمات التشابه مع التوضيح بأن التشابه لا يعني التطابق فالأول يحمل في طياته احتمال الاختلاف في بعض الجوانب بينما يقضي التطابق التماثل في كل الجوانب.

بعد ذلك العرض يطرح نفسه التساؤل التالي : هل يعني تشابه بعض فصول الروايتين العالمية والأممية تشابهاً في النهاية أيضاً ؟ لا بد من الإقرار بأنه ليس هنالك من إجابة سهلة  بنعم أو لا ، فلكلا الاحتمالين مؤيداته بالنسبة للأممية ربما كان من الأسباب التي أوصلتها إلى نهايتها وجود معسكر عالمي قادر وقوي معاد بطبيعته لها ولتوجهاتها هو معسكر الغرب الرأسمالي.

أما بالنسبة للعالمية فالقوة العظمى التي ترفع لواءها وتحمل رسالتها هي القوة الوحيدة في العالم حالياً بعد غياب الاتحاد السوفييتي وبقاء الولايات المتحدة الأمريكية منفردة على قمته وهذا ما يحسب للعالمية ونظامها الجديد ، أما ما يحسب عليها وليس من سبيل لتبديله فهو حقائق الحياة وما تفرضه من تنوع واختلاف وهذا ما اعترفت بعجزها عن تبديله أو تطويعه أممية ماركس ولينين . فهل تنجح عالمية اليوم في تحقيق ما عجزت عنه أممية الأمس؟

 

الدكتور محمد توفيق سماق