صحيفة البعث – دمشق – سورية
العدد :9146 – تاريخ: 30/5/1993 هذا المقال بمناسبة تزايد الدعوات لتشجيع القطاع الخاص للعب دور أكبر في تنمية بلدان الجنوب ، مع تقليص موازٍ لدور القطاع العام في التنمية خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي نهاية عام / 1991 / . |
” كنا قد أشرنا سابقا إلى الأهمية الوطنية الكبرى التي ينطوي عليها الحوار الدائر حول قضايا تطوير الاقتصاد الوطني .. واذ نجدد التأكيد على دور هذا الحوار في بلورة رؤية موحدة لمضامين هذا التطوير وأساليبه فإننا ندعو المعنيين للمساهمة في إغناء الموضوع بالبحوث والدراسات المناسبة.
- وفي اطار التركيز على موضع الاستثمار والتأكيد على وظيفته الحيوية في الاقتصاد الوطني ننشر اليوم مقالتين الأولى للدكتور محمد سماق حول ( التخصيصية في البلدان العربية ) والثانية للسيد برهان عودة حول ( الآفاق المستقبلية لاستثمار المال العربي ).. وكلتا المقالتين قد كتبتا في ضوء المؤتمر الخامس لرجال الأعمال والمستثمرين العرب الذين انعقد مؤخراً في دمشق وما تمخض عن أعماله من نتائج نعتقد أنها لا بد أن تفتح المجال أمام تقويم ونقاش واسعين خاصة وأنها نتائج تتعلق بقضايا ذات بعد جوهري في حياتنا الوطنية والقومية .. ” تقديم من صحيفة البعث .
أفرد المؤتمر الخامس لرجال الأعمال والمستثمرين العرب ( دمشق 17 – 20 /5/ 1993 ) في التقرير الختامي الصادر عن نتائج أعماله فقرة خاصة ومسهبة لموضوع التخصيصية في البلدان العربية ، مما جاء فيها :
يرى المؤتمرون ايجاد توازن بين القطاع العام والقطاع الخاص في الاقتصادات العربية ، وذلك بإيلاء دور أكبر للقطاع الخاص وترشيد دور القطاع العام ، بتواءم مع التطورات الاقتصادية الدولية والاتجاه نحو التخصيصية كأداة لرفع كفاءة الأداء الاقتصادي الوطني..( فقرة – 5- من البيان ) .
صحيح أن المؤتمر قد طالب في مقدمة الفقرة بالتوازن بين دور كلا القطاعين العام والخاص إلى أن تتمة النص بالإضافة إلى عنوان الفقرة ( التخصيصية ) كل ذلك يوحي بدعوة ملحة إلى الأخذ بالتخصيصية في الاقتصاديات العربية كنهج يستهدف التواؤم مع التطورات الاقتصادية الدولية وكأداة لرفع الاداء الاقتصادي . وبهدف القاء المزيد من الضوء على اطروحة التخصيصية نسوق في البدء بعض التوضيحات ذات الصلة بها كنهج اقتصادي:
- من حق مؤتمر المستثمرين او أي مؤتمر اخر ان يوصي بما يراه مفيدا للقضية او القضايا التي يبحثها فليس لأحد أن يعترض على ذلك.لكن للمهتمين بهذه التوصيات الحق في مناقشتها وإغناء الحوار حولها خاصة إذا كانت تتعلق بقضية عامة على هذا المستوى ، حيث يرقى حق النقاش إلى مستوى الواجب أحيانا..
- إن مسالة التخصيصية ليست مسألة طارئة على المستوى الدولي أو العربي فهي مشتقة في الأصل من قضية الدور التدخلي للدولة الذي تعددت فيه الاجتهادات وكثرت حوله الآراء ويعتبر موضوعا خلافيا لدى كلاسيكي ومعاصري الاقتصاد الحر في المجالين الأكاديمي والتطبيقي .. فعندما دخلت اقتصاديات أمريكا والعديد من دول أوروبا الغربية أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات مرحلة ماسمي أنئذ بالركود و الذي اعتبره المحللون عاملا أساسيا في انتقال السلطة من الأحزاب الحاكمة في حينها الى أحزاب المعارضة :
- تولي حزب المحافظين السلطة في بريطانيا بعد هزيمة حزب العمال في الانتخابات البرلمانية .
- وصول الجمهوريين الى الحكم في امريكا بعد هزيمة الديموقراطيين في الانتخابات الرئاسية .
- انتقال السلطة في المانيا الاتحادية إلى تحالف الحزب المسيحي الديموقراطي والمسيحي والاجتماعي بعد سقوط تحالف الاشتراكيين والأحرار تحت ضغط الأزمة الاقتصادية .. وغير ذلك ..
كان دور الدولة في الحياة الاقتصادية ، والذي اعتبر في حينها هاما لا يستهان به ، أحد الموضوعات الأساسية للحملات الانتخابية والنقاشات البرلمانية المسهبة في تلك الدول.
ونتيجة لتلك التغييرات وضع في العديد من الدول الصناعية برامج للتخصيص تم تطبيقها وفي تلك الفترة أيضا ظهر ماصار يعرف لاحقا بالريغانية ( نسبة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان ) والتاتشارية ( نسبة إلى رئيسة وزراء بريطانيا في حينه مارغريت تاتشر) كنهج اقتصادي اعتبر التخصيص فيه أحد أهم مكوناته…0000
عملية التخصيص تلك أخذت أشكال مختلفة من تخلي الدولة عن بعض الخدمات العامة التي كانت تقدمها كما في الولايات المتحدة الامريكية إلى بيع بعض المشروعات المملوكة من قبل الدولة إلى القطاع الخاص كما في بريطانيا ، فرنسا ، ايطاليا .. وغيرهم .. فمثلا:
- بيع مؤسسة الاتصالات كذلك شركة الغاز الحكومية الى القطاع الخاص في بريطانيا أيام حكومة تاتشر .
- تجربة فرنسا التخصيصية والتي بدأت في تشرين الثاني 1986 حيث تم من خلالها بيع عدة مؤسسات حكومية إلى القطاع الخاص كشركة التأمين ومؤسسة الاتصالات وغيرها .
- قيام ايطاليا في نفس الفترة ببيع 20 % من أسهم شركة الخطوط الجوية الإيطالية إلى القطاع الخاص ..
وبغض النظر عن النتائج التي حققتها اقتصاديات تلك الدول من خلال برامج التخصيص ( فهذا ليس موضوع البحث ) إلا أن ما نريد توضيحه هو أن دور الدولة في الحياة الاقتصادية قضية ليست طارئة كما أن الموقف منها حتى في دول الغرب الصناعي ليس ثابتاً ومحدداً فهو يختلف من زمن الى زمن ومن ظرف دولي الى آخر .
- أما بالنسبة لمسألة التخصصية في البلدان العربية فإن الإلحاح في طرحها منذ أواخر الثمانينات وحتى الآن يرتبط على الأرجح بعدد من العوامل منها :
- الوضع الدولي الجديد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وتخلي الصين الشعبية عن الاقتصاد الموجه مركزيا لتتبنى ما تسميه اليوم اقتصاد السوق الاشتراكي ، ذلك وغيره من التحولات الكثيرة يعتبر في أحد وجوهه بلا ريب انتصارا لاقتصاد السوق ومقولاته والتخصيصية إحداها .
- تفاقم مشكلة المديونية حيث بلغ حجم المديونية العربية عام 1991 ما مجموعه حوالي 250 مليار دولار وهي تشكل حوالي 68 % من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية ونسبة 16،5 % من اجمالي ديون الدول النامية لنفس العام .
- انخفاض موارد الدول النفطية وازدياد حاجاتها التمويلية نتيجة لهبوط أسعار النفط ونتائج حرب الخليج وانعكاسات ذلك على الدول العربية غير النفطية.
- ازدياد حدة التوترات المجتمعية في عدد من الدول العربية على خلفية اقتصادية في معظمها.
ذلك وغيره جعل الدول العربية تبحث عن مصادر لتمويل خططها التنموية وطبيعي في حال كهذه ان تفكر هذه الدول باستنفار قدراتها الذاتية ، والفوائض المالية لدى القطاع الخاص في الدول العربية إحداها.. سيما وأن معظم هذه الفوائض موجود إما خارج سوق الاستثمار أو مستثمر خارج الدول العربية ، والإحصاءات تشير الى أنه مقابل كل دولار عربي مستثمر في المنطقة العربية يستثمر خارج الوطن العربي 56 دولار من الفوائض المالية العربية ( عام + خاص ) وفي هذا الإطار تأتي على ما يبدو الدعوة إلى التخصيصية في البلدان العربية التي أطلقها المؤتمر في ختام أعماله ، لكن ما هي الافاق الواقعية لهذه الدعوة ؟ وما هي حدودها الممكنة ؟
في محاولة الإجابة على هذه التساؤلات لن ننطلق من مواقف أيديولوجية وسنحاول تحييد المؤثرات الذاتية قدر الإمكان ، بل سنناقش آفاق التخصيص وحدوده من زاويتي قدرة القطاع الخاص واهتماماته.
ما هي القدرة الواقعية للقطاع الخاص لأن يعمل في بعض قطاعات التنمية ؟ وإذا توافرت القدرة هل تدخل هذه القطاعات ضمن نطاق اهتماماته ؟
من هذه القطاعات التي نعنيها التالية:
- قطاع المشاريع ذات الصفة الاستراتيجية والبعض يسميها قطاع المشاريع التي تنتج سلعا أو خدمات غير قابلة للتجزئة ( اي مشاريع ذات نفع عام ) وعادة ما تعمل مشاريع هذا القطاع بدون عوائد مباشرة أو بعوائد متدنية.
- قطاع المشاريع ذات التكلفة الرأسمالية العالية ( تكاليف الإنشاء).
- قطاع المشاريع ذات العائد الطويل الأجل ، أي المشاريع التي تنتظر عوائدها بعد فترة زمنية طويلة.
وفي هذا المجال لابد من التوضيح بأن تصنيف مشروع تنموي معين تحت أي من العناوين السابقة هو قضية نسبية تختلف من دولة لأخرى .. فدول الخليج العربي مثلا تعتبر النفط سلعة استراتيجية عوائده ليست ملكاً للجيل الحالي من المواطنين فقط وإنما للأجيال المقبلة نصيب فيه وبالتالي ينبغي أن يبقى قطاع النفط بالضرورة خاضعا لسيطرة الدولة وتوجيهها نيابة عن الجيل الحالي واجيالها المقبلة ، بينما نجد دولة نفطية أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية تعتبر قطاعات أخرى غير النفط كأبحاث الفضاء والصناعات النووية لأغراض عسكرية ذات طابع استراتيجي يجب أن تخضع لسيطرة الدولة وتدخلها بشكل دائم ، وللتوضيح فقط سنورد بعض المشاريع التي تحمل على درجات متفاوتة سمات القطاعات السابقة ( أ – ب – ج ) : سدود الري ، مرافئ ،اوتوسترادات ، جامعات ومشافي تقدم خدماتها مجانا للمواطنين ، شبكات ارتباط الطاقة الكهربائية ، مراكز ومؤسسات البحث العلمي .. الخ .
وعودة على البدء نسأل : ما هي القدرة الواقعية للقطاع الخاص على إقامة مشاريع كهذه ؟ وإذا توفرت القدرة هل تدخل هذه المشاريع ضمن نطاق اهتماماته ؟
تجربة الاستثمار في سورية حتى الآن تعطي بعض المؤشرات التي تساعد في الإجابة على ذلك .. فمنذ صدور قانون الاستثمار رقم 10 بتاريخ 4/5/1991 وحتى الشهر الخامس من هذا العام بلغ عدد المشاريع المرخص لها 757 مشروعاً استثمارياً تبلغ كلفة إنشائها التقديرية 96 مليار ليرة سورية أي حوالي 2،2 مليار دولار يتوجه معظمها إلى مجالات الإنتاج السلعي والخدمي ذي العائد المرتفع والسريع . وفي حال تم تنفيذ جميع هذه المشاريع فإن إجمالي تكاليف إنشائها تقل عما هو موظف في مؤسسة واحدة من مؤسسات القطاع العام الكبيرة ( على أساس سعر صرف واحد للدولار في كلا القطاعين ).. وتجربة مصر التي تروج الآن لبيع 85 شركة عامة على مدى الثلاث سنوات القادمة ليست أفضل في هذا المجال .
إن مشاريع القطاعات المشار إليها سابقاً لها أهمية بالغة في ضبط حركة المجتمع وتوازنها من خلال دورها في تضييق عدد من الفجوات الاقتصادية والاجتماعية الرئيسية مثل:
فجوة الوارد : أي الفجوة القائمة بين الموارد المتاحة للتنمية والاستخدامات المطلوبة للنهوض بمستلزماتها.
فجوة العمالة : أي بين عرض العمل والطلب عليه .
فجوة التطلعات: أي بين التطلعات المجتمعية الأساسية من أمن وغذاء وسكن وبين ما هو متاح منها فعلاً .
إن تضييق تلك الفجوات ومثيلاتها حسب ما توحي به الدلائل والمؤشرات حتى الآن ستظل مسؤولية الدولة التي تمارسها من خلال القطاع العام ، بينما يعني القطاع الخاص بالعائد على الاستثمار كأحد أهم حوافزه للعمل والنشاط وذلك أمر ينسجم مع طبيعة رأس المال الخاص واهتماماته .
تأسيساً على ذلك نرى أن الآفاق الواقعية لدعوة التخصيصية التي نادى بها المؤتمر تكمن في التوجه إلى مشاريع الإنتاج السلعي والخدمي التي تقوم على أساس العوائد المباشرة وبهدف تحقيق أعلى مستوى ممكن من الأرباح .. وهذا لا يقلل من أهمية الدور التنموي الذي يمكن لهذا القطاع أن يمارسه فنشاطات هذه المشاريع متنوعة ومجالاتها واسعة على مستوى اقتصاديات الدول العربية.
خلاصة القول إن للدعوة الى التخصيصية أو الخصخصة أو ما شابه ذلك من مصطلحات حدودا موضوعية تفرضها معطيات الواقع العربي وظروفه.. للخاص حدود أغلب الظن أنه لن يستطيع تجاوزها وعلى العام واجب أغلب الظن أنه لن يستطيع التخلي عنه فالتنمية بحاجة الى تعاون القطاعين العام والخاص تعاوناً إرادياً مدروساً ومتصلاً ، فلكل منهما دوره وقدرته واهتماماته .
إن تجاهل أحدهما لمصلحة الآخر يسبب الوهن والانحراف في مسيرة التنمية ولذلك تبقى أطروحة التعددية الاقتصادية هي الأكثر استجابة لمعطيات الواقع وظروفه ، فكما أن التنوع من سمات الحياة فإن تعدد آليات النمو من ضروراتها.
الدكتور محمد توفيق سماق