صحيفة الديار – بيروت – لبنان
العدد :29 – تاريخ:31/12/1991 هذا المقال بمناسبة الإعلان عن انهيار و تفكك الاتحاد السوفياتي . |
هل يعقل أن الاتحاد السوفياتي ، هذه القوة العظمى بكل ما تعنيه أطروحة العظمة من معان ، قد تحول الآن إلى مجرد كلمة في ذاكرة التاريخ !؟ كل الأنباء الواردة من موسكو و غيرها من المدن الرئيسة . تجيب على هذا السؤال بنعم !
قمة بريست بين الجمهوريات السلافية الثلاث في الاتحاد ( روسيا ، أوكرانيا ، و روسيا البيضاء ) أعلنت للعالم بدوله و شعوبه بأن الاتحاد السوفياتي يحتضر .
قمة الماأتا ( عاصمة كازاخستان ) و التي شارك فيها إحدى عشر جمهورية سوفياتية أعدت الصك الرسمي لوفاة الاتحاد و قامت بإعلانه .
رئيس الاتحاد ميخائيل غورباتشيوف تقدم باستقالته ، مصدقاً بذلك على صك وفاة الاتحاد ، راضياً بمسكن و معاش تقاعدي ، معلناً للصحافة العالمية بأن البريسترويكا ، قد تجذّرت و أن مهمته التاريخية قد أنجزت ؟
العلم الأحمر يطوى من على قباب الكرملين ، ليعود علم آل رومانوف خفاقاً فوق قصور الأجداد .
مراسم الدفن هذه تعهدها بكفاءة ورعاها بغبطة العضو المرشح السابق للمكتسب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي و الرئيس الحالي لجمهورية روسيا الاتحادية بوريس يلتسين !
نعم لقد غادرنا الاتحاد السوفياتي تاركاً لنا دنيا الحاضر ليستقر هو في عالم التاريخ !؟
عظمة الاتحاد السوفياتي صنعها اثنان الطبيعة و الإنسان. الطبيعة أعطت للاتحاد السوفياتي مساحة مقدارها ( 22402200 ) كلم2 أي ما يزيد على 1/6 مساحة الكرة الأرضية ، مساحة تضم إحدى عشرة منطقة توقيت مختلفة ، و حدوداً مع اثنتي عشرة دولة بطول يبلغ ستين ألف كيلو متر منها حوالي أربعين ألف كيلومتر حدوداً مائية . و شعبه الذي بلغ تعداده ( 286700000 ) نسمة نهاية عام 1989 يتكون مما يزيد على مائة قومية مختلفة ، أما الثروات الطبيعية فهي أكثر من أن تحصى ( تنوع في المناخ ، وفرة في المياه ، غنى في باطن الأرض من نفط و غاز و ذهب … و غير ذلك الكثير ) .
هذا بعض مما أعطته الطبيعة ، أما الإنسان في الاتحاد السوفياتي فقد فعل ومنذ تأسيس الاتحاد في 30-12-1922 الكثير لتوظيف ما أعطته الطبيعة ليصنع لبلده عظمة متعددة الجوانب :
- ففي المجال الايديولوجي رفع راية مقاومة الظلم و الاستغلال ، مبشراً بعالم أكثر عدلاً.
- و في السياسة اعتبر نفسه حركة التحرر الأولى ، التي يقع على كاهلها عبء مساعدة ما كان يسمى حركات التحرر الوطنية ، فكانت المساعدات المتنوعة و السخية لدول العالم النامي . فوفق احصائيات وزارة الخارجية السوفياتية ، كان الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينات ، يقدم نحو ١،٤ ٪ من الناتج المحلي الإجمالي لمساعدة الدول الأجنبية . ومن حيث النسبة بين قيمة المساعدة و قيمة الناتج المحلي الإجمالي ، يفوق الاتحاد السوفياتي بذلك ألمانيا الغريبة ( سابقاً ) بثلاث مرات ، كذلك بريطانيا بثلاث مرات ونصف ، و الولايات المتحدة الأمريكية بحوالي ست مرات .
- وفي المجال التكنولوجي ، كان لهذا البلد أيضاً إنجازات هامة ، و في بعض منها كان له السبق من دون منازع . فالرحلة الفضائية السوفياتية الأولى ( ٤-١٠-١٩٥٧ ) سبقت بحوالي أربعة أشهر مثيلتها الأمريكية . كذلك كان الحال في مجال إرسال أول إنسان إلى الفضاء ، حيث أن الرحلة السوفياتية ، التي حملت يوري غاغارين إلى الفضاء الخارجي ( ١٢-٤-١٩٦٢ ) تقدمت على نظيرتها الأمريكية ، التي أقلت رائد الفضاء الأمريكي جيمس كلين ( ٢٠-٣-١٩٦٣ ) بما يزيد على عشرة أشهر.
- أما القوة العسكرية السوفياتية فقد ظلت وفي كل الظروف فوق أية شبهة من حيث القدرة كماً و نوعاً ، وهذا ما أجمع عليه خصوم الاتحاد السوفياتي و أصدقاؤه . وعندما أصبح الاطلاع على تفصيلات هذه القوة في الآونة الأخيرة متاحاً ، أبدى الكثير من ساسة العالم دهشتهم ، حيث أن الواقع الفعلي للقدرة العسكرية السوفياتية ، فاق كل التقديرات السابقة.
لكن و مع ذلك كله فالاتحاد السوفياتي تحول الآن إلى مجرد كلمة في ذاكرة التاريخ ، فكيف ؟ ليس من السهل الإجابة على ذلك ، وفي البدء لا بد من التوضيح بأنه يصعب إيجاد تبرير مقنع لما جرى ، أما في تفسير ما جرى فقد كتب الكثير وقيل أكثر من قبل ساسة العالم و مفكريه ، و ذلك طبيعي لأمرين اثنين:
- أهمية الاتحاد السوفياتي لذاته كدولة ، خصوصاً أنه كان دولة ايديولوجيا عالمية .
- التأثير المتوقع لانهيار الاتحاد على العالم بمجمله.
على أي حال نستطيع ومن دون تعسف ، تصنيف ما كتب و قيل في تفسير هذا الحدث الكوني تحت عنوانين أو ما بينهما:
- ما جرى كان ضرورة.
- ما جرى كان مؤامرة.
أنصار منطق الضرورة يستعينون على تفسير الحدث بتراجع مؤشرات الأداء ، لأهم مكونات الاتحاد في العصر السوفياتي:
- أداء الاقتصاد السوفياتي .
- أداء المجتمع و الدولة في ما يتعلق بمشكلة القوميات و الأقليات ضمن الاتحاد.
- أداء ايديولوجيا الدولة على صعيد الاتحاد و على الصعيد العالمي.
- أداء القوة العسكرية السوفياتية.
- مع نهاية الستينات و دخول العالم المرحلة الثالثة من الثورة العلمية التكنولوجية ( أو ما يسمى حالياً بعصر المعلومات ) فإن أداء التكنولوجيا السوفياتية ، بدأ بالتراجع و بشكل خاص صناعة الشرائح الالكترونية ، و التي تعتبر الآن المكون الأساسي لأي صناعة الكترونية وبالتالي المكون الأساسي لتكنولوجيا العصر . فاليابان و الولايات المتحدة الأمريكية ، تنتجان ما يعادل ٨٨٪ من إنتاج العالم من الشرائح الالكترونية أو ما يسمى بالمعالج الصغرى ( مستوى أواخر الثمانينات ) و بقية العالم بما فيه الاتحاد السوفياتي لا يتعدى نصيبه ١٢٪ من إنتاج العالم من هذه الشرائح . كذلك كان الحال مشابهاً بالنسبة لإنتاج الآلات و المعدات الكهربائية حيث بلغ نصيب الولايات المتحدة الأمريكية حوالي ٦٠ ٪ من إجمال الإنتاج العالمي ( مستوى أواخر الثمانينات ) أما دول الكوميون ( سابقاً ) فلم يتجاوز نصيبها ١٧ ٪ من إجمالي هذا الإنتاج.
لقد انعكس ذلك على مجمل الاقتصاد السوفياتي و أوهن حيويته كما أضعف قدرته على المنافسة ولا سيما مع اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية ، الخصم السياسي و الايديولوجي للدولة السوفياتية.
- مع وصول غورباتشيوف إلى القمة في الكرملين ( آذار ١٩٨٥ ) و إطلاقه لمقولتي إعادة البناء و المصارحة ، بدأ يطفو على السطح ما كان ، على ما يبدو ، لعقود من الزمن خبياً مكبوتاً.
صراعات لا تنتهي بين جمهوريات من قوميات مختلفة ( أرمينيا ، أذربيجان ) ، و مطالب عرقية ضمن الجمهورية الواحدة ( الشاشان في جمهورية روسيا الاتحادية ) ، و قبل ذلك و بعده السؤال ، الذي طرح و بإصرار عن شرعية وجود جمهوريات البلطيق الثلاث ضمن دولة الاتحاد . هذا السؤال الذي لم يغلق ملفه إلا بالاستقلال التام لهذه الجمهوريات حتى قبل تفكك الاتحاد و انهياره . هذه المشاكل و غيرها من النوع نفسه طرح و بإلحاح التساؤل حول قدرة الايديولوجيا الرسمية للدولة ( الماركسية اللينينية ) ، اعتماداً على مقولة أولوية الانتماء الطبقي ، على خلق تماسك اجتماعي بين قوميات مختلفة و أقليات متعددة ضمن المجتمع السوفياتي. هنا بدأت مقولات الماركسية اللينينية من فلسفية و اقتصادية تتحول إلى موضوع للمراجعة الشاملة شارك فيها أحزاب و هيئات و مفكرون في المجتمع السوفياتي بما في ذلك الحزب الشيوعي نفسه . كما حرض ذلك العديد من الأحزاب و الهيئات و المفكرين خارج الاتحاد السوفياتي للمشاركة في الحوار و المساهمة في المراجعة. حصيلة ذلك كله كانت اهتزاز الإيمان بالنظرية لدى البعض و الردة الكاملة عنها لدى البعض الآخر.
- أما القوة العسكرية السوفياتية ، فقد ظلت حتى حدوث محاولة الانقلاب في آب ١٩٩١ عنصر التماسك الأكثر أهمية أن لم يكن الوحيد.أما بعد فشل محاولة الانقلاب فقد تم تقويض عنصر القوة هذا أيضاً ، في البدء عن طريق اتهام معظم القيادات العسكرية المركزية بالخروج عن القانون و الانقلاب على الدستور ومن ثم التشكيك بشرعية الدور السياسي لهذه القوة ككل بهدف تحجيم دورها و إلغائه في ما يتعلق بمصير الاتحاد و مستقبله ، و هذا ما تم تحقيقه بنجاح .
أما أصحاب منطق المؤامرة فهم يقرون بما واجه الاتحاد السوفياتي من مشاكل معقدة و صعاب متعددة ، إلا أنهم يرجعون ذلك ، إلى آلية العمل و القائمين عليها و ليس إلى النظام و ايديولوجيته.
و بالتالي فهم يرون أن الإصلاح ، كان أمراً متاحاً ، و كان أمراً ممكناً في ظل النظام و تحت رايته الايديولوجية . فالأمر إذاً لم يكن يستدعي أكثر من تطوير لآلية العمل ، يترافق مع عملية انتخاب و اصطفاء لعناصر مسؤولة أكثر قدرة و أكثر إخلاصاً لقيادة السفينة و إيصالها إلى بر الأمان .
أما الإصرار على سقوط الايديولوجيا و تفكيك الاتحاد ، فكان المطلب الحلم للأعداء السياسيين و الايديولوجيين للدولة السوفياتية ، وهم في ذلك سواء أعداء الداخل و أعداء الخارج.
بغض النظر عن حجج أصحاب منطق الضرورة و قناعات مناصري منطق المؤامرة و رغم ما يبدو من تناقض و تباعد بين هذين المنطقين ، إلا أن قاسماً مشتركاً يقرب بينهما . هذا القاسم المشترك قابل للاختصار بكلمة واحدة هي العجز:
فإذا كان التراكم الكمي و النوعي للمشاكل سبباً لانهيار الاتحاد فهذا يعني ببساطة العجز عن التطور.
و إذا كان الانهيار بسبب مؤامرة عالمية ، فذلك أيضاً يعني العجز عن اكتشاف المؤامرة أو على الأقل العجز عن مواجهتها بعد اكتشافها.
العجز قد يكون مفتاح هذا اللغز و المدخل لاكتشاف مبررات ما جرى . العجز هنا و في هذه الحالة سبب و نتيجة ، سبباً لانهيار الاتحاد ، وهو في الوقت ذاته نتيجة لسلة من الأخطاء و الخطايا عمرها عقود من الزمن.
و اليوم لا شك بأن عشرات الملايين من البشر في هذا العالم ، و هم يودعون الاتحاد السوفياتي ، كانوا يتمنون لو أن هذه الأخطاء وتلك الخطايا لم ترتكب ، أو لو أن مرتكبيها أو غيرهم من الحريصين على الاتحاد قد كفّروا عنها بمعالجتها.
العجز في الماكينة السوفياتية كان الابن الشرعي:
- للطغيان في عصر ستالين.
- و السطحية قي مرحلة خروتشوف.
- و الركود في زمن بريجنيف.
ذلك كله أنتج ظاهرة ميخائيل غورباتشيوف و صنع مرحلته ، التي تم فيها اغتيال العملاق السوفياتي و أخرج دولته من الجغرافيا ليودعها عالم التاريخ.
أليس من مفارقات التاريخ الكبرى أن تحقق نهاية العملاق السوفياتي تلك ، نبؤة كارل ماركس ، التي بشر بها ما سماه يومئذ وحش رأس المأل و سلطته!!
لكن و كما أن المفارقات من سمات التاريخ فإن الأنصاف يبقى من طبائعه و خصائصه.
و الأنصاف يقتضي الاعتراف بأن الاتحاد السوفياتي ، و بغض النظر عن دوافع اغتياله أو الطريقة التي تمت بها عملية الاغتيال ، قد كان عظيماً في دنياه و أغلب الظن أنه سيتبوأ الموقع الذي يليق بهذه العظمة في عالم التاريخ .
الدكتورمحمد توفيق سماق