الضرورات التنموية لأطروحة التعددية في الاقتصاد السوري ــــــــ مقال رقم /2/

صحيفة البعث – دمشق – سورية

 العدد :8538   –   تاريخ: 8/5/1991

هذا المقال بمناسبة كثرة الحديث عن تبني مقولة التعددية الاقتصادية في سورية ، مما يعطي دوراً أكبر للقطاع الخاص في الاقتصاد السوري .

الدكتور محمد توفيق سماق

« في عام 1985 كان ما يزيد عن بليون نسمة أو محو ثلث إجمالي ثلث سكان العالم النامي ، يعيشون بأقل من 370 دولار للفرد سنوياً » (1)

لقد كان عقد الثمانينيات إذاً عقداً ضائعاً بالنسبة لفقراء الدول النامية حسب تقرير البنك الدولي  و المؤشرات الاقتصادية التي يمكن استقراؤها من الإحصائيات الدولية المنشورة و خاصة إحصائيات الأمم المتحدة تسمح بالتعميم النسبي لهذه المقولة المتعلقة بفقراء العالم النامي على معظم الدول النامية. ففي عام 1988 بلغ نصيب سكان الدول النامية ، و الذين يزيد عددهم عن 80 % من سكان العالم ، حوالي 20 % فقط من الناتج الإجمالي العالمي . (2)

وحتى لا يستمر ضياع الدول النامية في التسعينيات و ما بعدها اتجهت معظم هذه الدول منذ أواخر الثمانينيات للبحث المعمق في المشكلة التنموية لديها محاولة إيجاد العلاج الملائم .

التعددية الاقتصادية بما تعنيه من نشوء اقتصاد تتعدد فيه أشكال ملكية وسائل الإنتاج بين عام و خاص ، و مشترك كانت الأطروحة الأكثر أهمية بين المعالجات التي اعتمدت و بطبيعة الحال فإن ضرورات التحول و آلياته قد اختلفت من بلد لآخر تبعاً لظروفه الاقتصادية و الاجتماعية و كذلك السياسية .

وفي معرض الحديث عن التعددية قد يكون من الضروري توضيح الرأي في إشكالية طرحتها مقولة التعددية الاقتصادية و هي أنّ :

«الاقتصاد الاشتراكي لا يتسع للتعددية»

أغلب الظن أن هذه الإشكالية ترجع في جذورها إلى الطريقة التي طبق فيها الاتحاد السوفييتي   و دول أوروبا الشرقية ، و إلى وقت قريب جداً الاشتراكية حيث أضحت تلك الطريقة مرجعاً عالمياً     في القياس و الحكم على مدى اشتراكية اقتصاد أي دولة من الدول .

إنّ هذا المقياس لم يصمد أمام امتحان الزمن حيث يضطر الاتحاد السوفييتي الآن للبحث عن آليات جديدة و صيغ أخرى لتنشيط اقتصاده لا تختلف في جوهرها عما تنتهجه بعض الدول النامية حالياً.

إنّ مقولة الاشتراكية ليست إنتاج فلسفة معينة لوحدها من الناحية الإيديولوجية أو صناعة دولة واحدة فقط من الناحية السياسية بل هي مقولة إنسانية نشأت تاريخياً مع بروز مشكلة الفقر و الغنى   و استهدفت حل هذه المشكلة أو التخفيف منها عن طريقين اثنين:

  • الوفرة في الانتاج .
  • و العدالة في التوزيع .

أما سبل تحقيق ذلك و طرقه فقد اختلفت و تعددت حسب المراحل و الظروف التاريخية المتعاقبة  و في هذا السياق تأتي التعددية الاقتصادية كطريق آخر او سبيل قد يكون فيه بعض التجديد يستهدف في النهاية تحقيق ما يمكن من وفرة الانتاج و ما يمكن من عدالة التوزيع .

و بعيداً عن الجانب النظري في هذه المسألة نعود إلى البدء للتذكير بأن سورية كدولة نامية معنية بالبحث عن حلول لمشاكلها الاقتصادية و الاجتماعية .التعددية الاقتصادية بالنسبة لسورية كانت خياراً مطروحاً منذ ما يزيد على / 20 / عاماً اتجهت في الفترة الراهنة لتوفير الشروط التي تراها ضرورية لنجاح ممارساتها. و بالتداعي يطرح نفسه السؤال التالي :

ماهي الضرورات التنموية لأطروحة التعددية في الاقتصاد السوري ؟

هذا البحث مساهمة في الإجابة على السؤال وليس الإجابة كلها :

  1. تعبئة القدرات الاقتصادية الوطنية باتجاه التنمية : الاقتصاد السوري كغيره من اقتصاديات الدول النامية يعاني مما اصطلح على تسميته في الأدبيات الاقتصادية بفجوة الموارد  أي الفجورة الحاصلة بين موارد الاقتصاد و الاستخدامات المطلوبة منه لدفع عملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و يختلف حجم هذه الفجوة من بلد لآخر إلا أن معظم الدول النامية باستثناء بعض الدول « النفطية الغنية » تعاني من هذه المشكلة و كان أحد الخيارات     التي انتهجتها هذه البلدان هو الاستدانة من سوق المال الدولية حيث نشأ تبعاً لذلك ما يسمى الآن بمشكلة ديون الدول النامية التي تعتبر إحدى أعقد مشاكل الاقتصاد العالمي حالياً ،  أما الخيار الآخر فكان تخفيض مستوى الاستهلاك و الادخار مما أعاق خطط التنمية الاقتصادية      و الاجتماعية في هذه البلدان .

بالنسبة لسورية و على الرغم من عدم وجود مشكلة فيما يتعلق بدينها الخارجي إذ لا يزال ضمن الحدود المقبولة عالمياً لمثيلاتها من الدول حيث بلغ حجم هذا الدين في عام 1988 حسب إحصائيات البنك الدولي ما مجموعه ر 3689 مليون دولار أي 25 % من الناتج المحلي الإجمالي لنفس العام ، بينما بلغ حجم الدين الخارجي في العام نفسه بالنسبة لجمهورية مصر العربية _ 43259 مليون دولار أي ما يعادل 126,7 % من الناتج المحلي الإجمالي (3) ، فهنالك ملاحظة جديرة بالاهتمام و هي أن نسبة دينها الخارجي لحجم الناتج المحلي الإجمالي سجلت تطوراً ملحوظاً منذ عام 1970 حيث بلغت هذه النسبة 10,8 % ( 3 ) .      و على العكس من ذلك فإن معدل الادخار كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي سجل في الفترة الممتدة بين أوائل الستينيات     و منتصف الثمانينيات تراجعاً ملحوظاً حيث انخفضت نسبة رأس المال المخصصة للادخار من 30,9 % في عام 1963 إلى          23,3 %  في عام 1984  ( 4 ) .

هذه المؤشرات و غيرها مما يمكن أن يستقرأ من البيانات الاحصائية تؤكد على الضرورة الملحّة  لبذل كل الجهود في مجال تعبئة الموارد الاقتصادية و الوطنية و توظيفها لتسريع عملية التنمية .

في العقود الماضية و منذ أوائل الستينيات كانت موارد الدول هي الممول الأساسي لخطط التنمية ، فعلى سبيل المثال بلغ في الأعوام العشرة الأخيرة «1980 – 1989 »   إجمالي تكوين رأس المال الثابت في مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني في سورية ما مجموعه – ر 201370 ( مائتين و واحد و ثلاثمائة و سبعين مليون ليرة سورية ) ساهم فيها  القطاع الخاص بنسبة 39 % فقط أما 61 % الأخرى فقد تحملت أعباءها الدولة و القطاع العام ( 5 ) .

إن مساهمة القطاع الخاص هذه لا تتناسب مع إمكانياته الكبيرة المقيم منها و المهاجر و كانت معظم مطالب رأس المال الخاص المتعلقة بزيادة نشاطه الاستثماري  تندرج تحت عنوانين :

  • ضرورة خلق جو من الطمأنينة تشجعه على العمل .
  • كذلك توفير الحوافز الضرورية مع تسهيل الإجراءات الحكومية المتعلقة بنشاطه الاقتصادي .

وقد جاء قانون الاستثمار الذي أقره مجلس الشعب مؤخراً استجابة هامة تحقق كلا المطلبين ،نرجو أن تنمي لدى أصحاب رؤوس الأموال في القطاع الخاص الرغبة في استثمارات مجدية اقتصادياً و اجتماعياً ، مستفيدين جميعاً من تجارب الماضي حيث انحصر نشاط القطاع الخاص بمعظمه في مشاريع صغيرة الحجم سريعة المردود بينما تركت المشاريع الكبيرة ذات الكثافة الرأسمالية العالية و التي تحتاج إلى زمن أطول لتحقيق الربح أو ذات الريعية الاقتصادية الأقل لتتحمل أعباء إنشائها الدولة و القطاع العام .

  1. تطوير مستوى الكفاءة في استخدام الموارد :

هنالك العديد من المؤشرات الرقمية و التي يمكن بواسطتها قياس الكفاءة في استخدام الموارد المتاحة على مستوى القطاع  أو في مجال الاقتصاد الوطني ككل ، و من أهم هذه المؤشرات :

  • إنتاجية العامل .
  • إناجية رأس المال .
  • عائد الاستثمار .. و غيرها
  • و بشكل عام فإن كفاءة استخدام الموارد تتناسب طرداً مع انخفاض حجم المدخلات المطلوبة لإنتاج وحدة واحدة من السلع و الخدمات .

في سورية و منذ أكثر من ربع قرن اعتمدت حماية القطاع العام على مبدأ الاحتكار    فما ينتجه القطاع العام من سلع لا يسمح لأي منتج محلي آخر بإنتاجه إلا في حدود   و بمواصفات فنية مختلفة . لقد أدت الحماية عن طريق الاحتكار إلى نشوء ظاهرتين كان لهما أثر سلبي عميق على القطاع العام أعاقا تطوره و حدا من قدرته التنافسية و هما :

  • تدني المواصفات .
  • زيادة الكلف .

و بطبيعة الحال فإن كلا الظاهرتين يعتبران دليلاً واضحاً على تدني مستوى استخدام الموارد في القطاع العام ( 6 ) .

أي أن …. قد حقق تماماً عكس أريد منه ، و إذا كنا قد نجد بعض المبررات – السياسية الحمائية المطبقة و القائمة على الاحتكار في بدايات التأميم أي في المراحل الأولى لتشكل القطاع العام بغية تحصين بنيانه فإن ذلك يصبح غير مبرر في الوقت الراهن الذي وصلنا إليه . المنافسة بمعناها الاقتصادي فن و صناعة ، فوسائل الإعلان المختلفة و سبل الدعم المادية التي توفرها بعض الدول للعديد من منتجاتها خير مثال على ذلك . إن المنافسة كفن   و صناعة لا يمكن إتقانها إلا بوجود المنتج الآخر و هذا يعني كسر مبدأ الاحتكار و فتح أبواب العمل لمنتجين آخرين . غنياً عن القول بأن انتهاج طريق التعددية الاقتصادية يتضمن الإقرار بضرورة التخلي عن الاحتكار و القبول بالمنافسة ، فذلك شرط ضروري لممارسة النشاط الاقتصادي على أساس التعددية . في ظل التعددية قد نجد عدة منتجين لسلعة واحدة مما يحتم على المنتج بذل جهود حثيثة و دائمة لتحسين استخدام موارده المتاحة بهدف زيادة قدرته التنافسية في السوق . ربما استفاد من جو المنافسة القطاع العام قبل غيره إلا أن المردود سيكون إيجابياً بالمحصلة على الاقتصاد الوطني ككل من خلال تحسين كفاءة الأداء في كل القطاعات الاقتصادية و بالتالي زيادة الموارد المتاحة لعملية التنمية .

  1. تعزيز قدرة الاقتصاد الوطني في التعامل مع السوق العالمية :

تلعب العوامل الخارجية دوراً هاماً في مجمل العملية التنموية لأي بلد و بشكل خاص البلدان النامية و سنتناول هنا الأثر الإيجابي للتعددية بالنسبة للاقتصاد السوري في مجالي :

  • نقل التكنولوجيا و منتجاتها .
  • زيادة النشاط التصديري .

القطاعات الثلاثة التي تشملها التعددية الاقتصادية تتباين في مزاياها و تختلف في نقاط ضعفها بالنسبة لبعضها البعض ، حسب طبيعتها و نوع النشاط الاقتصادي الذي تمارسه مما يسهل عملية تعظيم المزايا و تحاشي نقاط الضعف و الالتفاف عليها إذا أحسن توظيف التباين و الاختلاف . فمثلاً يتمتع القطاع العام بقدرة أكبر بكثير من القطاع الخاص في مجال نقل التكنولوجيا و منتجاتها و يعود ذلك بشكل أساسي لكون التعليم بمختلف مستوياته و كذلك مؤسسات البحث العملي تقع ضمن مجال عمل الحكومة و القطاع العام بالإضافة إلى أن المنشآت الكبيرة كثيفة استخدام العلم و التكنولوجيا تعود في غالبيتها لملكية قطاع الدولة .

و بالمقابل دلت التجربة التاريخية على أن القطاع الخاص أكثر قدرة من القطاع العام ،  بفعل الحوافز و المرونة المتوفرين له ، على فتح الأسواق الخارجية أمام السلع و الخدمات الوطنية و بالتالي زيادة النشاط التصديري .

و طبيعي القول أن الميزتين المشار إليهما آنفاً و المتوفرتين لكلا القطاعين تعززان من قدرة الاقتصاد الوطني في تعامله مع السوق الخارجية ، هذه القدرة التي ستوظف بالضرورة لمصلحة قضية التنمية ككل .

  1. تشجيع رؤوس الأموال العربية على الاستثمار المحلي :

في دراسة نشرتها مجلة الأهرام الاقتصادي (7) قدر حجم الاستثمارات العربية البينية   ( أي بين الدول العربية » لثلاث سنوات   ( 1987 – 1989 » بما مجموعه 728,4 مليون دولار أمريكي بلغ نصيب سورية منها 8,6 مليون دولار أي ما يعادل 22,12 % من إجمالي هذه الاستثمارات .

كما قدرت نفس الدراسة إجمالي الاستثمارات العربية البينية في عقدي السبعينيات و الثمانينات  ب –ر 9 « تسعة بلايين دولار أمريكي »

على الرغم من تواضع الحجم الإجمالي للاستثمارات العربية البينية بالمقارنة مع حجم الفوائض  العربية المستثمرة في الخارج   و المقدرة بـ -ر 600 بليون دولار أمريكي ( 7 ) إلا أنها يمكن أن تساعد في دفع عملية التنمية في هذه الدول . كما أن زيادة حجمها مستقبلا من الأمور القابلة للتحقيق ضمن مناخ سياسي و استثماري ملائم ، و إعلان دمشق الأخير خطوة هامة على هذا الطريق .

إن المناخ المطمئن للاستثمار و الحوافز المشجعة له الذي تعد به التعددية في الاقتصاد السوري و ما يرافق تطبيقها من قوانين  و أنظمة سيشجع بدون شك المستثمر العربي   على التوجه إلى السوق السورية كما أن اليد العاملة السورية المتميزة بخبرتها و كفاءتها بالمقارنة مع مثيلاتها من دول الجوار بالإضافة إلى الموارد الطبيعية العديدة ،  و المتوفرة بشكل يسمح بالاستغلال المجدي اقتصادياً ، سيكونان من العوامل الإضافية المحرضة لرأس المال العربي على الاستثمار في سورية . إن لإقبال رأس المال العربي   على الاستثمار المحلي و النجاحات التي ينتظر أن يحققها سيكونان مستقبلاً من العوامل المحرضة و المشجعة لرؤوس الأموال الأجنبية للبحث عن فرص مناسبة للاستثمار في الاقتصاد السوري . لهذه الأسباب و غيرها يمكن أن ينظر إلى أطروحة التعددية     في الاقتصاد السوري على أنها آلية إنمائية اقتضتها ضرورة التطور و عززت من أهميتها المتغيرات الجديدة في عالم اليوم .

المراجع

( 1 ) تقرير عن التنمية في العالم 1990 – الفقر صادر عن البنك الدولي للإنشاء و التعمير / الطبعة العربية ص 3

الناشر / مؤسسة الأهرام – القاهرة – جمهوية مصر العربية .

( 2 ) : المرجع السابق . ص 193

( 3 ) : المرجع السابق ص 254-255

( 4 ) : سماق ، محمد : دراسة تحليلية لسياسة الاستثمار في الصناعة السورية خلال الفترة 1970 – 1985 أطروحة لنيل الدكتوراه في العلوم الاقتصادية – 1989 – المعهد العالي للعلوم الاقتصادية

ألمانيا – برلين

( 5 ) : المجموعة الإحصائية لعام 1990 – ص 509 المكتب المركزي للإحصاء – سورية – دمشق .

( 6 ) : المرجع رقم ( 4 ) – الفصل الخامس

( 7 ) : سليمان ، علي ، تجربة الاستثمار العربي المشترك مجلة الأهرام الاقتصادي ، عدد 24 كانون أول – 1990 مصر – القاهرة .