الوضع الراهن للقطاع العام الصناعي و خيارات المستقبل ــــــــــ مقال رقم /1/

مجلة الاقتصاد – دمشق –  سورية 

 العدد :326   –   تاريخ /آذار/1991

هذا المقال بمناسبة تزايد الحديث عن إصلاح القطاع العام في سورية .

 

 

      د . محمد توفيق سماق

إن القطاع العام الصناعي في سورية بمفهومه الاقتصادي و بعديه الاجتماعي و السياسي هو الوليد الشرعي لثورة الثامن من آذار و القطاع العام شأنه شأن أي وليد يأخذ و يعطي . يأخذ في المراحل المبكرة من عمره    و يعطي في سنوات الشباب و النضج .

لسنوات خلت كنا نفاخر بما أخذ القطاع العام و نزهو بما أعطى . أما الآن فاستشعار هادئ للحس العام يوحي بأننا نشعر ببعض العتب على القطاع العام عتباً يصل أحياناً إلى حد الغضب :

  • لقد أخذ القطاع العام أكثر مما أعطى .
  • كان متوقعاً أن يعطي أكثر … و وصلت الصحف العربية لتصف القطاع العام في سورية بأنه « كارثي » .

هذه المقولات و غيرها من المقولات المشابهة تؤكد صحة الاستنتاج السابق .لا شك أن للقطاع العام مشاكله و مشكلاته :

  • تدني مستوى استغلال طاقاته المتاحة .
  • ارتفاع كلفة إنتاجه .
  • تدني ملحوظ في نوعية بعض منتجاته … وغيرها .

التعامل الإيجابي مع مشاكل بهذا الحجم و لحالة بهذه الأهمية ( حالة القطاع العام ) لا يفتقر  إلى تشخيص الداء بل يقتضي     و يحتم بالضرورة البحث عن العلاج .

وهنا قد تتباين الآراء و تتعدد الاتجاهات حسب المذاهب و المصالح . وفي حدود ما هو متاح  من معرفة و اطلاع حول المعالجات التي طرحت أو نوقشت على مستويات شتى و بوسائل متعددة نستطيع أن نميز الخيارات الثلاثة التالية :

  • الركود .
  • الردة .
  • التطوير .
  • الركود :

أنصار هذا التيار على الرغم من عدم نفيهم لما يواجه القطاع العام حالياً من مشاكل و معضلات فإن رؤياهم للحلول الممكنة لا تتعدى الرغبة في معالجة الظواهر و الآثار دون الاقتراب من الأسباب و المسببات . فمن ناحية نجدهم يدعون أو يمارسون ، حسب البعد أو القرب من موقع القرار الاقتصادي ، إلى تغير مستمر في الأشخاص الممارسين للعملية الإدارية التنفيذية ( مدراء عاملون أو فرعيون ) فيتم الاختيار في الكثير من الحالات وفق معايير ذاتية بعيدة عما يجب أن يراعى في هذا المجال من مقاييس موضوعية أخرى كالخبرة و الكفاءة . ومن ناحية أخرى يقومون عن وعي أو غير وعي ، و بواسطة الأنظمة و البلاغات و غيرها من الإجراءات الإدارية بالتشديد على الأساليب البيروقراطية في الإدارة و تعميقها مما أدى إلى إضعاف روح المبادرة و أوهن الرغبة في تحمل المسؤولية و اتخاذ القرار في الزمن المناسب .

أما التعامل مع القضايا الأساسية فيصور من قبلهم على أنه تعد على القطاع العام يستهدف النيل منه كإنجاز و دور .

و ليس مبالغة الاقرار بأن هذا النهج كان أحد أهم الأسباب للحالة المرضية التي وصل إليها هذا القطاع كما أن استمراره سيؤدي إلى اختناق تدريجي للقطاع العام تتزايد وتائره مع الزمن بحيث يصل إلى الطريق المسدود .

لذا كان من الطبيعي أن يسأل المرء مؤيدي هذا الخيار و أنصاره ممن يدافعون :

هل يدافعون حقاً عن القطاع العام.

أم يدافعون عن أنفسهم ؟ .

  • الردة :

و على النقيض تماماً من الخيار الأول يجد المتتبع لآلية العمل الاقتصادي و اتجاهاته نداءات متعددة ، تعلو و تخبو حسب الظروف ، تدعو و ببساطة إلى التالي :

لنعد ملكية الدولة إلى من يستطيع تشغيلها إلى القطاع الخاص معظم دول العالم الثالث تفعل هذا الآن و تجربة مصر الحالية نموذج يحتذى و يستحق التقليد .

المبرر لذلك وفق هذا النهج يمكن تلخيصه بالتالي :

لقد حاولت الدولة وفي فترات مختلفة ما تستطيع أن تعالج مشاكل القطاع العام بهدف رفع مستوى أدائه و تحسين كفاءته الإنتاجية و زيادة مردوده الاقتصادي و تفعيل دوره الاجتماعي إلا أنها   لم توفق . بل على العكس تفاقمت مشاكله و بدأت تثقل بظلالها مجمل عملية التنمية الاقتصادية و الاجتماعية في سورية . و لما كان تنظيم الاقتصاد وسيلة و ليس غاية بحد ذاته فإن تغيير الهياكل بما فيها نقل الملكية كلياً ، أمر تبرره الحياة و يحتمه الواقع الراهن .

ان لهذا النهج أنصاره و مؤيدوه في الداخل و الخارج و يبدو للوهلة الأولى بريئاً و مقنعاً ،  إلا أن النظرة الأعمق لهذه المقولات و ما شابهها تحرض لدى الباحث تساؤلات عدة   و باتجاه معاكس .

صحيح أن الوضع الراهن للقطاع العام غير مرض ٍ إلا أن ذلك لا يلغي و لا يجوز أن ينسينا الدور الفعال  والهام الذي لعبه هذا القطاع لأكثر من ربع قرن في دفع و تأثر التنمية الاقتصادية و الاجتماعية في سورية.

– ألم يكن هو الممول الأساسي للعملية التنموية ، و في بعض الأحيان في فترات زمنية مرت خلالها موارد التمويل الأخرى أو ارتبط توفيرها بقيود و شروط لو قبلت في حينها لكانت قيدأ على حرية القرار و استقلاليته ؟

– ألم يكن القطاع العام بمئات آلاف فرص العمل التي وفرها عامل ضبط و توازن لحركة   المجتمع و تفاعلاته ؟

– ألم يلعب القطاع العام دوراً أساسياً و بارزاً في تكوين سند اجتماعي و خلق جدار سياسي ضد محاولات الاختراق الخارجي     و الالتفاف الداخلي ؟

إن ذلك و غيره مما يمكن أن يذكر في توضيح أهمية وجود قطاع عام و فاعلية دوره يؤكد أن الردة الكاملة إلى القطاع الخاص فقط ليس فيه مصلحة اقتصادية أو اجتماعية .

وهذا بطبيعة الحال لا يعني نفي أشكال الملكية الأخرى كالملكية الخاصة أو المشتركة    بل يمكن اعتباره دعوى للتعايش على أسس واضحة و قواعد محددة بين الأشكال الثلاث للملكية :

العام .

الخاص .

و المشترك .

أما البحث في الصيغ العملية لذلك فليس موضوع الدراسة و لا غايتها  .

  • التطوير :

ويعني هذا النهج الحفاظ على ملكية الدولة في المجالات التي تقتضي الضرورة الوطنية   و الاقتصادية و الاجتماعية ذلك مع تعديل في الهياكل و الصيغ القائمة لتوفير مستلزمات استمرار ملكية الدولة حيث يجب أن تكون .

أهم أسس و منطلقات هذا النهج هي :

آ – أن أطروحة الدولة التدخلية ، أي تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي بما في ذلك وجود قطاع اقتصادي تملكه الدولة ، لم تعد موضوعاً يثير الكثير من الجدل الآن فقد اتفق في ذلك أساتذة الاقتصاد الموجه و رموز الاقتصاد الحر بالإضافة إلى أن امتحان الزمن و تجارب الدول أثبتت صحة ذلك و ضرورته ( على سبيل المثال وجود قطاع دولة في بريطانيا ، فرنسا ، البرازيل .. و غيرها. )         أما الخلاف في أين و كيف ؟

في اي المجالات نحتاج إلى قطاع الدولة وكيف نوجهه و نديره لنصل إلى أفضل   مردود ممكن .

ب – أين ينبغي المحافظة في سورية على القطاع العام ؟ أو القبول بالقطاع المشترك ؟   أو ترك النشاط للقطاع الخاص ؟ أمر على درجة عالية من الدقة و الحساسية يتطلب تحديده جهد مشترك من كافة مؤسسات الإدارة الاقتصادية العليا بالإضافة إلى أن هذا القرار له طبيعة سياسية لا تستطيع جهة واحدة أو باحث بمفرده القطع به و رسم الحدود العلمية و العملية له . لذا سيقتصر البحث في هذه الدراسة على التالي:

مهما كانت مجالات النشاط الاقتصادي التي ستترك للقطاع العام فإن وضعه الراهن    و الحرص على مستقبل التطور الاقتصادي في سورية يحتم البحث في عدد من القضايا الهامة المتعلقة بهيكله و آلية عمله و في هذه الدراسة سنتعرض إلى المسائل الأساسية التالية:

  • هيكل القطاع العام .
  • سياسة الحماية .
  • الإدارة  .

٣-١ هيكل القطاع العام.

السمة المميزة حالياً لهيكل القطاع العام الصناعي هي « التفتيت » أي وجود العديد من الوحدات الإنتاجية الصغيرة من حيث حجم العمالة و الاستثمارات و قيم الإنتاج.

بالإضافة إلى ذلك فإن العديد منها ينتج نفس السلعة أو سلع متشابهة ، فمثلاً:

في مجال صناعة البسكويت يوجد شركتي قطاع عام شركة غراوي و شركة كاميليا.

  • صناعة البيرة : شركة بردى و شركة الشرق .
  • صناعة الكونسروة : ست شركات قطاع عام .
  • صناعة الكابلات : شركة كابلات دمشق و شركة كابلات حلب .

و الجدول التالي يبين عدد العمال في كل شركة من الشركات المشار إليها و المتوفر من قيم إنتاجها السنوية :

اسم الشركة عدد العمال ( عامل ) وسطي قيمة الإنتاج السنوي في عام 1988         ( مليون ل.س )
غراوي 176 ( بداية عام 1989 ) 61
كاميليا 250 ( بداية عام 1989 ) 70
بيرة بردى 131 ( بداية عام 1989 ) 49
بيرة الشرق 148 ( بداية عام 1989 )
ست شركات كونسروة                ( وسطي عدد عمال الشركة الواحدة) 193( بداية عام 1989 )
كابلات دمشق 558

( بداية  الشهر الخامس من عام 1990 )

كابلات حلب 442                                              ( بداية الشهر الرابع من عام 1990 )

 

و بلغ عدد العاملين في منشآت وزارة الصناعة بنهاية عام ١٩٨٨ ما مجموعه ٦٦٥٢٤ ست و ستون ألف و خمسمائة و أربع و عشرون عاملاً و عاملة موزعين على ست مؤسسات و ست و تسعين شركة صناعية.

أما نسبة العمال الإداريين منهم فتبلغ نحو 14,9 ٪ من إجمالي عدد العاملين في كل مؤسسة.

هذه الهيكلية القائمة حالياً أفرزت العديد من المظاهر السلبية أهمها:

  • زيادة الأعباء الإدارية إذ أن كل شركة هي وحدة مستقلة إدارياً و مالياً تتطلب كادر إداري متكامل مهما كان حجم أعمالها و عدد عمالها.
  • بعثرة الجهود فيما يتعلق بعمليات التطوير و التسويق مما ينعكس سلباً على جانبين مهمين من جوانب الدورة الإنتاجية و يزيد من كلف الإنتاج .
  • ضعف الكفاءة الإدارية و الفنية و ذلك لعدم قدرة شركات صغيرة بهذا الحجم من تحمل أعباء التدريب و التأهيل المستمر من ناحية أو استقطاب كفاءات عالية في هذين المجالين لقلة الحوافز المتاحة التي يمكن أن تقدمها للعاملين فيها من ناحية أخرى.

لا شك بأن هذه المظاهر السلبية و غيرها كانت من الأسباب الأساسية التي جعلت في هذا العصر من عمليات الاندماج أو التنسيق الاتجاه الطاغي عالمياً للمنشآت الاقتصادية ، فنشأ تبعاً لذلك التروست و الكارتل و غيرهما من الهياكل الاقتصادية ذات التسميات المشابهة .    و على المستوى المحلي فإن عمليات الاندماج تحقق العديد من المزايا أهمها:

  • تخفيض الكلف الإدارية التي تتحملها الوحدة المنتجة.
  • توحيد و تركيز الجهود في مجال التطوير و التسويق و تخفيض كلفهما مما يخلق فرصاً أفضل و أوسع في هذين المجالين و يقلل من أعبائهما المادية.
  • زيادة كفاءة الكوادر الفنية و الإدارية عن طريق توفير إمكانية التدريب و التأهيل المستمر و قدرة وحدات إنتاجية كبيرة نسبياً على تحمل الأعباء المادية المترتبة على ذلك بالإضافة    إلى استقطاب كفاءات عالية في كلا المجالين عن طريق الحوافز المادية و المعنوية التي يمكن لمنشآت كهذه من توفيرها.

إن إعادة هيكلة القطاع العام الصناعي على أساس الاندماج بدل التفتيت القائم حالياً أمر ضروري و ملحّ لزيادة كفاءة أدائه و تنشيط دورته الاقتصادية مما سيكون له أبعد الأثر الإيجابي   على مجمل جوانب العملية التنموية في سورية .

٣-٢ سياسة الحماية:

السياسات الحمائية معروفة عالمياً منذ زمن بعيد و الغاية منها الحفاظ على قدرة المنتج المحلي على المنافسة مع سلع تنتج خارج حدود الدولة . ومع ظهور القطاع العام وتوسع نشاطه الاقتصادي و الاجتماعي و الدور القيادي الذي أعطي له في الدول ذات الاقتصاد الموجه جرى تعميم سياسة الحماية هذه على السلع المنتجة خارج و داخل الحدود بأشكال و صيغ مختلفة   في جميع دول الاقتصاد الموجه.

 

و ما يهمنا هنا هو الحماية المطبقة في سورية على السوق الداخلية فمنذ أكثر من ربع قرن اعتمدت حماية القطاع العام في سورية على مبدأ الاحتكار. ما ينتجه القطاع العام من سلع لا يسمح لأي منتج آخر بإنتاجها إلا في حدود و بمواصفات فنية مختلفة.

إن مبدأ الحماية عن طريق الاحتكار ساهم و بشكل فعال في نشوء ظاهرتين كان لهما أثر سلبي عميق على القطاع العام       و منتجاته حيث أعاق تطوره و حدا من قدرته التنافسية و هما:

  • تدني المواصفات.
  • زيادة الكلف .

أي أن الاحتكار قد حقق تماماً عكس ما أريد منه . و إذا كنا قد نجد بعض المبررات للسياسات الحمائية المطبقة و القائمة على الاحتكار في بدايات التأميم و في مراحل التشكل الأولى للقطاع العام بغية تعزيز دوره و تحصين بنيانه فإن ذلك يصبح غير مبرر في الوقت الراهن  الذي وصلنا إليه.

المنافسة بمعناها الاقتصادي فن و صناعة . إن وسائل الإعلان المختلفة و وسائل الدعم المادية التي توفرها بعض الدول للعديد من منتجاتها خير مثال على ذلك.

إن المنافسة كفن و صناعة لا يمكن اتقانها إلا بوجود المنتج الآخر و هذا يعني كسر مبدأ الاحتكار و فتح أبواب العمل لمنتجين آخرين . و في ظروفنا المحلية لا تتوفر لدى القطاع الخاص القدرات و الإمكانيات المتوفرة لدى القطاع العام باستثناء أساليب الإدارة المرنة و القادرة على التجاوب مع حركة السوق بالشكل و الزمن المناسبين.

و هذا ما يقودنا بالضرورة إلى أخطر و أهم المسائل التي يجب أن تدرس و تعالج فيما يتعلق بعمل القطاع العام و هي مسألة الإدارة .

٣-٣ الإدارة:

إن معالجة المشكلة الإدارية يقتضي بشكل أساسي البحث المعمق و الجدي في الجوانب الأربع التالية المكونة لها :

  • النظرية الإدارية.
  • الأنظمة و التشريعات.
  • المساءلة و المحاسبة.
  • الحافز الفردي و الجماعي.

آ – النظرية الإدارية :

تقوم النظرية الإدارية المعتمدة حالياً لإدارة ملكية الدولة في سوريا على مبدأ وصاية المالك         على الإدارة. و على مدى ما يزيد عن ربع قرن عمل العديد من الاجهزة البيروقراطية النافذة           في مجال الإدارة الاقتصادية على ترسيخ هذا المبدأ مستخدمة لذلك كل الوسائل و السبل المتاحة في التشريع و الممارسة .

من أبرز النتائج العملية لممارسة الإدارة وفق هذا المبدأ.

تعدد الجهات التي تعتبر بحكم القانون أو تعتبر نفسها بحكم الواقع وصية على عمل القطاع العام دون أن تكون مسؤولة عما يحققه من نتائج ، بحيث أصبحت الصلاحية تمارس بشكل جماعي   و من جهات متعددة أما المسؤولية فمحدودة و أحياناً فردية تتحملها في الغالب الحلقة الأضعف في الجهاز الإداري .

لقد أدى ذلك إلى خلل بين في المعادلة الضرورية لتطوير كفاءة الأداء الاقتصادي في القطاع العام ، ألا و هي معادلة التوازن بين الصلاحية و المسؤولية .

إن حالة خلل التوازن هذه التي تعيشها إدارة القطاع العام قد أفرزت العديد من النتائج أهمها :

  • الهروب من تحمل المسؤولية بحيث أصبح تجيير المسؤولية هو القاعدة و التصدي لها  هو الاستثناء .
  • عجز الموقع الإداري عن اتخاذ القرار المناسب في الزمن المناسب .
  • البحث عن الحماية في النصوص و التعليمات الإدارية من جهة و لدى الجهات المعنية بالمساءلة من جهة أخرى ، مما عقد الإجراءات الإدارية و أسهم بشكل واسع بانتشار و تعميم الروتين و دفع بالكثير من شاغلي المواقع الادارية لممارسة الولاء الشخصي للمستويات الوظيفية الأعلى ، و بطبيعة الحال كل ذلك على حساب العمل و الإنتاج .

تلك النتائج كانت أهم مدخلات آلة الكبح الحاكمة حالياً للكثير من جوانب العملية الاقتصادية في سورية . ان آلة الكبح هذه تنتج و تراكم الأزمات و المشاكل في اقتصادنا الوطني    منذ زمن طويل .

لقد دلت تجارب العديد من الدول المتقدمة و النامية على أن تحرير ملكية الدولة من قيود الوصاية و كوابح السيطرة يقتضي ضرورة التخلي التدريجي عن مبدأ وصاية المالك    على الإدارة وصولاً إلى المبدأ القائل بالفصل بين المالك و الإدارة .

إن الأخذ بهذا المبدأ و اعتماد نظرية إدارية جديدة تقوم على أساسه يستلزم تنظيم العلاقة   بين الطرفين المالك و الإدارة بشكل عقدي ، و ليس كما هو قائم حالياً بشكل اوامري .

العلاقة العقدية الجديدة يجب أن تكفل حقوق كلا الطرفين و توضح واجباتها على أن تنظم وفق مجموعة من التشريعات تضعها الدولة مسبقاً لهذه الغاية .

في نهاية كل دورة إنتاجية تجري عملية تقييم لمستوى الأداء ، بحيث يكون الهدف الاقتصادي المنصوص عليه عقدياً أساس التقييم و غايته . ذلك ما هو معتمد في الدول الصناعية المتقدمة و هو ما يجري الأخذ به حالياً و بأشكال مختلفة في الدول الأقل نمواً.

ب – الأنظمة و التشريعات:

و ما هو مطبق لدينا نجده قسمين:

قسم تقادم بفعل الزمن و حركته ففقد قدرته على الاستجابة لمتطلبات الواقع و هذا بحاجة            إلى تغيير أما القسم الآخر فيمكن تعديله بما يتلاءم و الهيكلية الجديدة للقطاع العام .    ان أي تغيير أو تعديل للأنظمة و التشريعات القائمة ينبغي أن يتم على الأسس الثلاث التالية:

  • المرونة التي تتيح لصاحب القرار الإداري التصرف بحرية في الحالات الاستثنائية التي تظهر أثناء الممارسة الفعلية للعملية الإدارية .
  • الوضوح و التحديد بهدف إزالة الخلط و التشابك من صلاحيات المواقع المختلفة للهرم الإداري ، بحيث يعاد التوازن الضروري المطلوب لمعادلة الصلاحية و المسؤولية   في العملية الإدارية.
  • الثقة في شاغل الموقع بغية خلق جو من الطمأنينة يساعده في التصدي لتحمل أعباء المسؤولية المكلف بها دون تردد أو قلق . و يقود ذلك بالتداعي للبحث المختصر في الجانب الثالث الهام للعملية الإدارية وهو:

ج – المساءلة و المحاسبة:

ان عملية المساءلة هي الوجه الآخر لظاهرة الصلاحية . فذلك قد أقرته جميع التشريعات  و الأنظمة في الدولة الحديثة التي تضبط آلية العمل فيها منظومة المؤسسات و القانون .

فإذا كان مبدأ المساءلة لا خلاف عليه فإن صيغ تطبيقه تحتاج إلى مراجعة تحدد     أمرين هامين:

من هي الجهة أو الجهات صاحبة الصلاحية قانوناً بالمساءلة ؟ ما هي مواضيع المساءلة ، الوسائل أم الأهداف ؟ في الواقع الإداري الراهن للقطاع العام تتعدد الجهات التي تقوم بشكل  أو بآخر بالمساءلة بدءاً من اللجنة النقابية في المنشأة و حتى الجهات المركزية في الدولة بحيث يبلغ عددها عشر جهات على أقل تقدير و كل يمارس المساءلة بأسلوبه                            و على طريقته الخاصة.

لقد أدى ذلك إلى ضعف الرغبة في ممارسة الصلاحية ، و تعذر تحديد المسؤولية   بشكل موضوعي يخدم تحسين أداء الاقتصاد و يضبط حركته . لذا كان من الضروري التحديد الدقيق للجهات المخولة قانوناً بالمساءلة على أن يكون عددها قليل قدر الإمكان ،    أما الجهات الأخرى فيمكنها أن تمارس دور الرقابة دون أن تملك حق المساءلة .

و بالنسبة لمواضيع المساءلة فإن ما يمارس حالياً في القطاع العام هو التركيز الشديد   على التفاصيل و أساليب اتخاذ القرار أما الأهداف و الغايات فنادراً   ما يسأل عن مدى تحقيقها .

إن أي توجه لتطوير هذا الجانب من عملية المساءلة يجب أن يضع تحقيق الغايات  و الأهداف في الموقع الأول من حيث الأهمية .

أما عن الوسائل و السبل فيكفي أن تكون ضمن التوجه العام للنظام و ليس هناك ضرورة   لأن تتطابق مع حرفيته .

إن الإدارة بالأهداف هي الاتجاه الحديث في كل الدول المتقدمة و قد تمّ التوصل إلى اعتمادها من خلال الممارسة الطويلة عبر الزمن و تعتبر الثمرة الناضجة لألم الإخفاق   و سعادة النجاح .

د _ الحافز الفردي و الجماعي :

معالجة هذه المسألة هو المدخل لكل تطوير إداري في واقع اقتصادنا الراهن .

و هنا قد تتعدد الصيغ و الاقتراحات إلا أن جميعها يجب أن يراعي المبدأ التالي :

ما دام العمل واجب فالحافز المادي و المعنوي حق .

و كصيغة أولية يمكن اقتراح التالي :

تحدد نسبة لريعية المنشأة يجب ألا تزيد بأي حال عن الربح الصناعي المتعارف عليه عالمياً بين 10 – 20 % من إجمالي رأس المال المستثمر و ذلك حسب نوع الصناعة  و ظروف العمل .

أية منشأة تحقق من الريعة ما يزيد على هذه النسبة فإن جميع العاملين فيها   و حسب موقعهم في العملية الإنتاجية لهم نصيب مجزٍ يتم تحديده و صيغ صرفه وفق أنظمة توضع لذلك .

إن وجود الحافز المجزي و الإقرار بأحقية العامل في الحصول عليه سيزيد من رغبة المنتج في أداء عمله بشكل أفضل و ينمي من حرصه على المنشأة كما سيخفف إلى حد بعيد  من اللجوء إلى الطرق غير المشروعة في تحقيق الكسب المادي .

وفي الختام أجد من الضروري التأكيد على أن ما جاء في هذه الدراسة ما هو إلا محاولة لوضع تصور يهدف إلى تطوير آلية عمل القطاع العام و تحسين أدائه . و ان ما ورد فيها   من اقتراحات ما هي إلا بعض الدواء و ليس كله .

كما أن التوسع في تشخيص مشاكل القطاع العام و معالجتها أصبح ضرورة اقتصادية   و اجتماعية قد لا تحتمل الكثير من التأجيل .